نحن كل يوم ضحايا. ضحايا مؤامرات او عنصريات او غزوات… اينما وُجدنا ضحايا. كيفيما اتفقت اوضاعنا. نسمع، نقرأ ونشاهد… عن انفسنا بصفتنا ضحايا. ضحايا في كل الحالات: أذينا او تأذّينا. هذه قاعدة تصورنا عن انفسنا، جماعة وافراد. نسميها الضحاوية. وهي جزء صميمي من ثقافتنا؛ تندرج في متن نصنا وقولنا. فالضحاوية من البديهيات المحرّكة لسلوكنا. والمكونة لمواقفنا ولصياغة تصورنا عن انفسنا.
والضحاوية مثل الخطاب الشمولي السائد الآن: لا تقتصر على المعارضة، كما قد يتبادر الى الذهن؛ بل هي مبثوثة في ثنايا الاقوال المعمّمة لدى شريحة واسعة من ابناء الموالاة. خاصة الانتلجنسيا منهم. ضحاوية مستديمة، تنسف قواعد الحرية لأنها متحررة من المسؤولية. لذلك فان الضحاوية لا ترى غير نفسها ضحية. انها انانية. وقد تحتاج الى إهتزازات قوية ربما سنوات وعقود قبل ان تكتشف بانها هي ايضا لها ضحايا.
ما الذي يدبم حياة الضحاوية في وجداننا؟ العدوان الغربي من دون شك. ولكن ايضا الضحاوية نفسها التي اعتمدناها نهجاً لصدّ هذا العدوان. فاستأنسنا بها. وهذا الاستئناس هو سبب ديمومتها: شيء من المراهقة، لا الطفولة. أزمة تكوين ونمو، وإنعدام الحافز او الرغبة او الارادة، بالخروج منها. مراهقين غير مسؤولين، متأزمين… ولكن وقحين، مستعدين لقلب كل القوانين. بصفتهم معذّبين.
الضحاوية تديم ايضا وضعية الضحية. لأنها شديدة التكيّف مع نفسها. تخلق وكلاء عن الضحية، ممثلين لهم، محامين لقضاياهم. والأنجح من بين المحامين هو الذي سيكسب قضية الضحية، لا الجلاد.
وفراسة المحامي تقتضي منه ان يلمح هوية الضحية القادمة او الجلاد. لا فرق. فسهولة الانتقال من وضعية الضحية الى وضعية الجلاد لا تلغي الضحاوية، بل تعطيها سيولة. والسبب بسيط: فالذي ما زال ضحية يمكن ان يكون في الآن عينه جلاد. فدوام الضحاوية بدوام سهولة الاستيلاء على قضية صاحبها (او اصحابها) وتحويلها الى آلة توليد الجلاد من نفس جلد الضحية.
فالضحاوية قاعدة سلطة بدائية. توظّفها قوة غير مقيدة بقانون في سبيل تدعيم سلطتها الصاعدة او الراسخة. قد يكون لكل ثقافة وجهها الضحاوي. او لها سمات ضحاوية مختلفة. ولكننا لا نعرف في التاريخ المعاصر ضحاوية مثل تلك التي نعتنقها الا الضحاوية اليهودية المعادية للأنتي سامية… والمستمرة حتى الآن، بالرغم من تراخيها بعد نشأة دولة اسرائيل. وقد تكون هذه العدوى انتقلت الينا بفعل تركيزنا، ومنذ استقلالاتنا، على قضيتنا المركزية فلسطين، دون غيرها من القضايا.
وفي الجذر اليساري ايضا ما يشبه ضحاويتنا. وخطوطها ما زالت حية حتى الآن لدى اليساريين والقوميين: حزب طليعي قيادته من المثقفين وجماهيره من العمال والفلاحين المقهورين. يقودهم نحو جنة السعادة والمساواة. وقد يكون هذا وجه من اوجه إنجذاب غالبية اليساريين والقوميين الى “جهاد” الضحية الاسلامي ضد الغرب.
الضحاوية معمل الكراهية بامتياز. معمل خرق قانون وقواعد الاخلاق… والخروج منها بانتصارات باهرة! الضحاوية تعذر الذي بدى لها انه ضحية، او الذي قدم نفسه على انه ضحية، او تصور نفسه ضحية… فبصفته هذه، يستطيع ان يخرق كل الحرمات، حتى ابسطها: ان يكذب، ان يسرق، ان يقتل… طالما هو ضحية… ليبقى هكذا ضحية. طالما ان الجلاد ساعتئذ سوف يكون اشرس. فتزيد الضحية من ضحاويتها، ومن تبريرها لأعمالها، ومن إنتصاريتها في آن…
الضحاوية تستطيع ان تكون لسان المعارضة كما الموالاة. واليك مثلين عن كل منهما: الاول، العقيد معمر القذافي الفاتح للاول من سبتمبر عام 1969. طرد الايطالين والقواعد البريطانية والاميركية وامم البنوك. ثم انعمت عليه الاقدار بالثروة النفطية. يحكم اكثر من ثلاثة عقود. دولة بلا دولة ولا قانون. المال يصرفه بحسب سياسته الضحاوية: يدرّها على الحركات المسلحة الارهابية.
ومنذ ايام، في مؤتمر برشلونة، يصرح بأن الارهاب حق الضعفاء وسلاحهم؛ ثم يطالب الدول الاوروبية بدفع التعويضات عن الاستعمار… فيجيبه المفوض الاوروبي لشؤون التنمية بلهجة ناشفة “المستعمرون سبق لهم ان دفعوا… ولسنا بحاجة الى دروس من احد”. ضحاوية لا غضاضة عندها من التلازم مع الابّهة والحريم والنظارات الافرنجية والماركات العالمية والسيارات المدجّجة بالترَف، وصفقات السلاح بالمليارات…
ليس في ليبيا معارضة. المعارضة العربية الاقوى، “حزب الله”: نموذج لوكيل الضحية. ففي نفس الوقت الذي يرسل فيه صواريخه في حرب تموز 2006 الى اسرائيل… موقعا بها ضحايا مدنيين اسرائيليين، عرب ويهود، رافعا بها جرعة “النصر”… كان “ضحاياه” يسقطون واللهجة الضحاوية ضد اسرائيل “المجرمة”، “العدوانية”، “الجلاد”… تملأ الأثير الإلهي. ثم بعد ان تقرر “الانتصار الالهي التاريخي”، يهجم الحزب على الدولة والمجتمع، ينقلب على الاتفاقات الوطنية، يصرخ ويحتقر ويهدّد… بإسم “المستضعَفين” و”المحرومين” و”المهمّشين”…
وبعد تقرير منظمة حقوق الانسان الدولية الذي يتهم “حزب الله” بارتكاب جرائم حرب…. يعود نفس الحزب المنتصر “ضحية”؛ فقط ليمنع المؤتمر الصحافي الذي كانت المنظمة تنوي اقامته لعرض نتائج تحقيقها. فيغضب ويرفع شعار “ماذا؟ يريدون محاسبة الضحية ايضا؟”
تمرين بسيط يبين لك إنشداد اللغة الضحاوية: هل من ضحايا للضحايا؟ او هل ضحية الضحية جلاد؟ ام ضحية؟
الضحاوية ضحلة وجلْبابها ثقيل!
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية – القاهرة