بين صور العيش في المجتمع المدني الحديث وصور العيش بالنموذج التاريخي، يصرّ التيار الديني على اختيار نمط علاقة خاص، يبرز خلاله تداخل واضح بين الصور، أدى إلى تشكيل لوحة حياة غير طبيعية، لوحة تشتمل على تناقضات الجمع بين القديم والحديث، بين المقدس والمدنس، الطبيعي وما بعد الطبيعي.
ويصعب في إطار هذا التداخل الوصول إلى صيغة خاصة من التوافق. فالمقدس يستعين بتعاليه ويستند إلى فوقيته، ما يصعب نفوذ المدنس في ثناياه. والقديم لا يستطيع فرض شروطه التاريخية على الحديث، ما يجعل التعايش بينهما ضيقا إلى أبعد الحدود. فتبدو الحياة الطبيعية إذاً بعيدة في شروطها وفي قوانين عيشها عن الحياة ما بعد الطبيعية. ويصبح سعي البعض للتوصل إلى مشروع يحتوي على القديم المقدس والحديث المدنس، سعيا متناقضا.
التناقض يستند إلى “تصنيم” الأمر القديم، في مقابل “عقلنة” الأمر الحديث. وهذا المنحى يؤجج الصراع، بين مزاعم أن تكون المسائل قطعية مطلقة وصالحة لكل زمان ومكان، وبين تلك النسبية التي تخضع لشروط وظروف كل زمان ومكان. فالأولى تنتهي إلى اعتبارها قاعدة واحدة لا يخالها التغيير، والثانية تتسم بصفة القاعدة القابلة للتغيير باستمرار.
ويعتبر “الواقع” هو المحك الرئيسي الذي يمكن من خلاله اختبار قدرة “التصنيم” أو “العقلنة” على مواجهة الظروف والمتغيرات وصولا إلى طرح الرؤى والحلول. ويبدو “التصنيم”هنا بعيدا عن مجاراة “الواقع”، نظرا لخلفيته الزمان مكانية القطعية، ورؤيته التقديسية النهائية للقانون.
وينطلق القانون المتكئ على الرؤية “التصنيمية” من وجهة مطلقة، وهذا يساهم في منع ظهور أي من حالات “الشك” تجاهه. فحينما يصبح القانون مطلقا، لأنه يصدر عن رؤية تاريخية دينية “صنمية”، لا يمكن بأي حال من الأحول الشك في صحته أو في قدرته على معالجة الأوضاع والمشاكل، وأي مسعى للشك، ولإزالة هذا القانون، سيعتبر أمرا معاديا للدين. ومحصلة عدم القدرة على تغيير القانون، هي استمرار الأوضاع، بمشاكلها وتناقضاتها، وبقاء الحلول جامدة، وتحميل الدين مسؤولية ذلك، مما يؤثر على الدور الروحي للدين في المجتمع.
وبما أن “تصنيم” القديم يطغى على رؤى التيار الديني ويسيطر على طرحه للقوانين، فإن صِدامه الرئيسي سيكون مع الفرد في العصر الحديث، الذي هو أساس هذا العصر، والذي يختلف عن الفرد القديم، وبالذات في عنوان التحرر. حيث سيعجز “التصنيم” عن معالجة المسائل المرتبطة بحرية الفرد في عناوين متعلقة بالرأي والتعبير والسلوك والإكراه.
وتعتبر قضية “الارتداد عن الدين” صورة من الصور الكثيرة التي يقف القانون القديم المتكئ إلى “الصنمية” عاجزا عن وضع حلول حديثة لها، بسبب اختلاف الأسس التي يقف عليها القانون القديم، عن ذلك الحديث، في رؤيته، ومعالجاته لموضوع الحرية، وفي علاقة ذلك بأصالة الفرد. لقد بدا واضحا في قضية اعتقال وحجز المواطن الكويتي حمد النقي، المتهم بشتم نبي الإسلام، اختلاف الرؤى بين التيار الديني والتيار العلماني، في نظرتهما إلى أصل القضية، وفي التهمة التي يراد أن توجه إلى النقي (الارتداد)، وفي العقوبة المتوقعة عليه. حيث ينظر الأول إلى المسائل الثلاث نظرة جزائية دينية قديمة، بينما يريد الثاني أن يتكئ إلى النظرة الحقوقية الحديثة. فلا يبدو التيار الديني قادرا على طرح معالجة واقعية للقضية تستند إلى زعم بعض منتميه تبني ثقافة حديثة، منها الالتزام بالحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. كما لا يبدو التيار العلماني قادرا على الدفاع عن النقي بصورة واقعية، فيما يفتقد رؤية دينية جديدة متصالحة مع مفاهيم الحياة الحديثة. لذا يبدو التصادم السياسي والثقافي بين الطرفين مرجّحا.
ما يحتاجه التيار العلماني في هذا الظرف بالذات هو تبني “الليبرالية الدينية”، حسب تعبير المفكر الإيراني مصطفى ملكيان، وذلك لمعالجة مثل تلك القضايا الحقوقية، بحيث لا تنتهي بالضرر على الدين ولا تبتعد في رؤاها عن الثقافة الإنسانية الحديثة. فالليبرالية الدينية، كما يقول ملكيان، تساهم في “تحطيم التزمت والجمود الذي تتسم به النظم الفكرية القديمة التي انبثقت وترعرعت في تربة الثقافة الدينية”، و”تحاول في الوقت ذاته الحفاظ على حقائق الدين الأصلية، وإعادة طرحها بتعابير أخرى في إطار النظم الفكرية الجديدة”. هذه الرؤية الفكرية للدين، المتصالحة مع الحداثة، ينبع منها نظرة حقوقية حديثة تجاه قضايا شبيهة بقضية النقي، وبغيرها من القضايا التي دأب التيار الديني على معالجتها بصورة نصية ماضوية نهائية، أو بصورة “صنمية”.
يشير ملكيان إلى أن النظرة الليبرالية للدين تستند إلى أولية الأخلاق ثم العقائد ثم العبادات، بينما تشدد النظرة الدينية التقليدية على العقائد ثم على العبادات ثم الأخلاق. وهذا إن دل إنما يدلل على أهمية موضوع الحقوق في علاقته بالأخلاق الحديثة لدى الليبراليين الدينيين، وبروزه على موضوع العقائد، مما قد ينعكس إيجابا على رؤيتهم للقضايا والأحداث، الدينية وغير الدينية، في علاقتها بحقوق الإنسان. في حين أن أولية عنصر العقائد في النظرة الدينية التقليدية تحتم على أنصار تلك النظرة الحفاظ على العناصر الداخلة في تكوين العقيدة بمختلف صورها التاريخية البحتة، أي مهما كان ثمن ذلك على الأخلاق ودون أي مراعاة للحقوق الحديثة للإنسان.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com