نظراً لأن عام 1999 هو فى تقدير الكثيرين، عام تنتهى به الألفية الثانية للتقويم الميلادى، وتبدأ من ثم الألفية الثالثة، أول يناير، فقد لجئت بعض المجلات المصرية، والعربية والعالمية، إلى إجراء إستفتاءات أو إستطلاعات حول أهم الشخصيات فى الألفية الثانية أو فى القرن العشرين، والتى تكون قد خلفّت آثاراً بعيدة.
وقد وضعتنى بعض المجلات المصرية على قوائم من تستطلع رأيهم فى ذلك، ولما حرصت على أن أعرف المفهوم الذى يحددونه للأهمية، والمدلول الذى يتخذونه للتأثير، لاحظت عدم وجود مفهوم علمى ومدلول واضح، وأن الغالب فى الفهم حين يضُطر السائل إلى بيان أن الأهمية تقاس بالشهرة وأن المعنىّ بالشهرة هو الإنتشار المحليّ، والذى قد يجرى الظن خطأ بأنه مؤشر عن العظمة.
كانت وجهة نظرى غير ذلك تماماً، فاعتذرت من إبداء الرأى، وهو أمر استاء منه أحد الأصحاب، دون أن يضع فى التقدير ضرورة احترام وجهة نظرى، فإذا كان هناك معيار واضح محدد للجميع، كان ردّى متوافقا مع هذا المعيار ومبنيا على أساسه، أما أن لا يكون ثمت معيار واضح محدد، فى تقدير السائل والمسئول، فإن إجابتى سوف تكون غريبة، على الكثيرين، أو قد تضطرنى إلى أن ألحق بها مذكرة تفسيرية، توضح أساس اختيارى، وتنقض الأسس التى اتبّعها الآخرون، وهو ما لا تتسع له صفحات الموضوع.
يضاف إلى ذلك أن الشعب المصرى والشعب العربى، تغلب عليه العواطف، وتأسر فكره المشاعر، وهو ما يعوقه عن التقدير العقلى السليم ويحول بينه وبين الحكم الصائب السديد. فالشخص منهم عادة يرى أن مغنّيته المفضلة أو ممثله المختار أو واعظه الأثير، هو أهم شخص فى العالم كله، وعلى مدى التاريخ، وهو قصور نظر واضح، وتقدير بالغ السطحية والسذاجة.
الشيوع والذيوع والإنتشار ليس دليل الجودة أو الصلاحية أو الخيرّية. فالمخدرات، بأنواعها المختلفة، تكاد تكون أكثر السلع شيوعاً وإنتشاراً فى العالم كله، من أدناه إلى أقصاه، ولو أجرى إستطلاع للرأى عنها بين قطاعات كبيرة من الشباب والشيوخ، أو جماعات كثيرة من تجار المخدرات والمستفيدين منها، لكانت النتيجة فوزا ساحقا لها، بأكثر الأصوات.
ولو سئل الذين مالوا إلى التأكيد على أهميتها لأبدوا تبريرات ممنطقة لكنها غير صحيحة، ولقدموا تعليلات منمَّقة مع أنها زور فى زور، وخطأ فى خطأ. مثل المخدرات أشياء كثيرة، تقطع بأنه لا تلازم بين الشيوع والجودة، أو الذيوع والصلاحية، أو الإنتشار والخيرية (أى الخير)، فقد يكون، وغالبا ما يكون الشائع غير جيد، والذائع ليس صالحا، والمنتشر ليس خيراً.
والذى يؤدى إلى إختلاط أكثر الناس فى التمييز بين الصائب والخاطىء، والإلتباس بين الحقيقى والمزيف، والتقدير بين الأصل والتقليد، هو الجهل من جانب، والركون إلى العواطف من جانب آخر.
فالعاطفة تتعلق بموضوع أو بشخص أو بشىء، أولاً، وبعد ذلك تقود العاطفة ما بقى فى العقل من تقدير بأن تحوّله إلى تبرير تعلّقها، وإضفاء هالات من الجمالات، وحالات من الكمالات على ما تتعلق به، وهذه الغلبة العاطفية، تنفى العقل وتمنع نموه وتعرقل نضجه، فيظل المرء ما عاش يحكم على الموضوعات والأشخاص والأشياء بعواطف مريضة وجوانح مهيضة، فيرى السيىء جيدا، والشر خيرا، والخطأ صوابا، والتافه عظيما.
والجهل يورث سوء الفهم وسوء الحكم، فالجاهل غير مثقف فى العادة، وغير مهذب فى الأصل، وهو لذلك يفهم الأمور فى عوج وزيغ وخطأ، ويعبّر عن رأيه فى جلافة وصلافة وصلادة، أى إنه يؤكد العوج ويرفض الإستقامة، ويصمم على الزّيع ويتنكب السلامة، ويعضّد الخطأ ويابى الصواب، ويعتقد على غير الحق أن صلادته ثبات على الحق، يسفر عن نفسية صغيرة تخشى أن تنهار إن اعترفت بالحق، أو أقرت الصواب. ويترتب على الغلبة العاطفية والغيبة العقلية تصور موهوم بأن الشخص المفضل لدى المرء هو أهم شخص فى التاريخ، حتى ولو كان مهيجا أو كان مهرجا أو كان مغنيا أو كان مثيرا.
فإذا كان ثم مّعُجب بأغانى مغنى الروك الفيس بريسلى، فسوف يختاره على أنه هم شخصية فى القرن، والذى تثيره نجمة الإغراء مارلين مونرو يعمد إلى إختيارها، على إعتبار أنها أهم شخصية، وهكذا.
كذلك فإن مقتضى الغلبة العاطفية والغيبة العقلية أن يتخذ المرء مَثله من المجرمين أو المعتوهين أو من شاكلهم، فمع أن حوادث (ريا وسكينة) فى سرقة أموال النساء وإغتيالهن، وقعت فى أوائل القرن الحالى (العشرين) فإن اسميهما ما زالا على ألسنة الكثيرين، والدراسة فى الحوادث لم تتوقف وتقدم السينما أعمالا شتى عنهما، ويتمثل البعض بهما، كذلك فإن إسم أوزولد قاتل الرئيس كنيدى معروف للكثيرين الذين لا يعرفون اسم وزير خارجية الولايات المتحدة أو اسم من حصل على جائزة نوبل فى العلوم فى هذا العام أو فى أعوام سابقة.
بدأت الصورة تتضح لبعض المصريين عندما نشُرت قوائم بأهم الشخصيات فى نظر علماء التاريخ، والرأى العام العالمى.
فقد أجرى معهد سيفيا للبحوث فى نيويورك استطلاعا شارك فيه مائة من علماء التاريخ الأمريكيين، لإختيار أهم عشر شخصيات فى القرن العشرين، وجاءت النتيجة كالآتى، تنازليا:
(1) أدولف هتلر، (2) جوزيف ستالين، (3) فرانكلين روزفلت، (4) فلاديمير لينين، (5) ماوتسى تونج، (6) ألبرت أينشتاين، (7) المهاتما غاندى، (8) ونستون تشرشل، (9) ميخائيل جورباتشوف، (10) سيجموند فرويد.
وأجرت مجلة تايم (Time) الأمريكية استطلاعا عالميا بين قرائها، انتهى إلى أن الشخصية الأولى فى القرن الماضى (العشرين) هو أدولف هتلر.
والذى يلاحظ فى الحالين:
(أ) اختيار أدولف هتلر، بإعتباره الشخصية الأولى فى القرن العشرين.
(ب) عدم اختيار أى فرد من الشرق الأوسط، مما قد يعنى أن شخصيات هذه المنطقة كانت ذات تأثير محلى غير عالمى.
(ج) العلماء الأمريكيون، ومجلة تايم الأمريكية، كان اتجاههم فى الاختيار موضوعيا، فلم يفعلوا مثلما نفعل فى منطقتنا العربية، حيث لا نرى إلا أنفسنا، وننفى الغير ضمنا، كما نتصور أن بعض الشخصيات المحلية هى محور التاريخ، وبؤرة البشرية، ومدار الأحداث.
فقد اختار هؤلاء العلماء، وأبرزت مجلة تايم اختيار، أدولف هتلر بإعتباره الشخصية الأولى فى القرن العشرين، ولم تغلب عليهم نوازع المغالاة الوطنية (الشوفينية Chauvinism) فتفضل أحد الزعماء، أو القادة أو العلماء الأمريكيين.
(د) تضمنت قائمة العلماء الأمريكيين اسم جوزيف ستالين، الخصم اللدود لأمريكا أثناء الحرب الباردة (1945-1985) كاسم ثان لأهم شخصيات التاريخ، كما تضمنت اسم فلاديمير لينين فى الترتيب الرابع، وماوتسى تونج فى الترتيب الخامس.
(هـ) الاختيار يلحظ تأثير الشخص عالمياً، ولا يقصد بالتأثير أنه يكون تأثيراً صحيحاً، أو خيرّاً أو سليما أو طيبّاً. فأدولف هتلر، حتى بين الغالبية الغالبة من الشعب الألمانى، شخص شرير، مدمّر وقاتل، مضاد للإنسانية ومحطم لألمانيا، أشعل حربا أدّت إلى مقتل ملايين الأشخاص، وتيْتيم وترميل الملايين فى أنحاء كثيرة من العالم، وانتهى أمره بهزيمة منكرة، وخراب شامل، وتدمير ألمانيا، ثم تقسيمها (حتى 1986).
وجوزيف ستالين كان يمثل أبشع أنواع الدكتاتورية وفظائعه فى الإتحاد السوفيتى، بجميع بلاده، وخارج الإتحاد السوفيتى، لا تحيط بها المجلدات ولا تتسع الألفاظ لوصفها وصفا دقيقاً.
وفى الوقت الذى عاش فيه أدولف هتلر وجوزيف ستالين اللذان تصدرا أسماء قائمة أهم عشر شخصيات، والتى سلف بيانها، عاش رجال آخرون كانوا غاية فى الفضل ونهاية فى الخلق، منهم – على سبيل المثال – المهاتما غاندى الذى لم يذكر التاريخ له فعلة سوء واحدة أو قولة باطل مفردة، والذى ضحى بنفسه ليمنع اضطهاد البشر المتعصبين لغيرهم من البشر الأبرياء، ومع هذا التاريخ الناصع نقاؤه، والفاقع بياضه، فإن إسمه ورد بإعتباره السابع فى القائمة، فتخطاه وحظى بالأولوية هتلر وتبعه ستالين، والعلة فى ذلك أن الشر أكثر ظهورا وأشد انتشارا من الخير، فضلا عن أنه أسرع فى النتائج، وأوضح فى الآثار، فالكلمة الطيبة قد تؤثر تأثيراً بعيدا عميقاً، لكن الأثر لا يكون واضحا للراصد، ولا يظهر بسرعة للملاحظ. ورسالة السيد المسيح لم تفلح فى حياته، ولا بعد ذلك بفترة طويلة، حتى عام 325م حين أمر الإمبراطور الرومانى قسطنطين بأن تكون المسيحية ضمن الشرائع (الديانة) الرسمية للإمبراطورية، فبدأت تظهر رسالة المسيح أكثر بكثير، وامتدت وانتشرت فى كل أنحاء المعمورة، ولو ان استطلاعا للرأى أو استقصاء للأمر حدث بواسطة وسيلة، كالصحافة المعاصرة، فى نهاية القرن الأول الميلادى، لما ظهر اسم السيد المسيح فى أى منهما.
وحين يُضرب المثل بالسيد المسيح فإن القصد بيان شدة المفارقة بين الحقيقة وما تنتهى إليه الإستطلاعات أو الإستفتاءات أوالإستبيانات من قصور. فربما كان فى الوقت الحالى، بل فى الغالب أن يكون هناك، شخص أو أشخاص أكثر أهمية وأعظم أثرا، من كل من وردت أسماؤهم فى قوائم الإستطلاعات، لكن هذا الأثر وتلك الأهمية تكون لم تزل عماّلة فعّالة، لا تظهر بشدة ولا تبدو بوضوح إلا فى أوائل القرن القادم. وإذ ذلك، وفى حالة ما إذا أعيد إجراء استطلاع أو اتباع استقصاء، فسوف تتغير القوائم تماما، بل وربما انقلبت رأسا على عقب.
لقد أجرى فى بريطانيا استطلاع للرأى عن أهم أشخاص فى الألفية الثانية (أى من عام 1000-2000م) فكان هناك شبه إجماع على أن أول شخص فى القائمة هو وليم شكسبير.
وليم شكسبير (1564-1616) يعد من جانب الكثيرين من النقاد والدارسين أعظم الشعراء والكتاب المسرحيين، ومن أبرز الشخصيات فى الأدب العالمى، إن لم يُعّد أبرزها جميعا، ومع ذلك فإنه يصعب تحديد عبقريته بمعيار بعينه من معايير النقد الأدبى، كما أن حقيقة شخصيته يكتنفها الغموض والإبهام، لأنه كان فى حياته مغمورا لا يعرفه إلا عدد قليل من الناس.
وفى عصر شكسبير عاش الكاتب المسرحى بن جونسون (1572-1637)، وكان أقل موهبة من شكسبير بكثير، لكن نظرا لأنه كان مقرَّبا من الملك جيمس الأول (زوج الملكة اليزابيث) فقد حظى بشهرة واسعة، وأعطته صلاته مكانة كبيرة، فكان له تأثير بالغ على مجموعة من الشعراء الشبان الذين اسموا أنفسهم (جماعة بنْ).
ولما خَفَ وهج الصَّلة بالملك، وشرع النقاد يفحصون عمل كل من الشعراء بهدوء، وتؤدة، وبعيدا عن أثر السلطة، ومفعولها الدعائى بشهرة، فإنهم أعطوا شكسبير حقه، وأكدوا عالمية فنه وخلود أدبه، وبيّنوا أثره الكبير على أغلب الكتاب والشعراء والأدباء، فى كل البلاد، وفى كل العصور، وخاصة فى أوروبا والأمريكتين.
واليوم لا يكاد أىَّ مثقف فى كافة أنحاء المعمورة يجهل اسم شكسبير، فى حين لا يعرف إلا الأقلون اسم بن جونسون، مع أنه لو أُجرى استطلاع للرأى حال حياتهما، لأجمع الناس على اسم بن جونسون، ولما ذكر أحد اسم شكسبير.
ويعمل الحقد والحسد عمله فى المجال الفكرى والأدبى والفنى، إذ يحرص من لهم طبيعة العقرب التى تفرغ السم فى جسدها إن لم تجد من تفرغ فيه السم، بغير عداوة أو خصومة بينهما، كما يعمل من لهم طبيعة الحرباء المتقلبة مع كل ظرف والمتلوّنة بكل لون، يعمل هؤلاء وهؤلاء على تشويه أعمال من هم أفضل منهم وأكثر رصانة وعلما، أو اغتيال شخصياتهم (Character Assassination) بالزور الباطل، حتى لا يأخذوا وضعهم الحقيقى فى عصرهم، ولربما تساعدهم فى ذلك ظروف سياسية أو طرائق مكائدية، لكن مع مرور الوقت وسكون عواصف الحقد ورياح التشوية، يعود كل إلى أصله، ويتألق العمل الصحيح وصاحبه، وإن تراخى فترة قد لا تضعه فى الصدارة فى حينه. فعندما وضع بيتهوفن (1770-1837) سيمفونيتة السادسة، المسماة بالباستورال (pastoral) أى الريفية، هاج عليه بعض الحاقدين والحاسدين (من العقارب والحرابى: جمع حرباء) فحطوا وقللوا من شأن هذه السيمفونية، فى حين أنهم مدحوا وهللوا لسيمفونية باستورالية (ريفية) وضعها آنذاك موسيقى معاصر لبيتهوفين. ومع مرور الزمن، عفت الأيام على سيمفونية هذا الموسيقى المغمور وبقيت سيمفونية بيتهوفين أثرا خالدا شامخا يؤكد عظمته ويوطد عبقريته.
كانت كل هذه المعانى فى ذهنى عندما اعتذرت من عدم إبداء الرأى، لعلمى أنى سوف أكون فيما أبدى واحدا مفردا، يبدو غير واضح وغير مفهوم.
فالحق وسط الباطل يبدو غريبا، والصّح بين الخطأ يلوح نشازا.
وعندما اعتذرت من عدم إبداء الرأى لم يرتح صاحبى، وظن أنها وسيلة منى لعدم التعاون معه، فراح يعاتبنى بمرارة.لكنى أخذت الأمر ببساطة ولم أرَ فى الكلام العابر إساءة، بقدر ما رأيت أن موقفى فى حاجة إلى إيضاح.
بعد فترة وجيزة، ظهرت استطلاعات الرأى فى العالم الخارجى، على النحو الذى سلف بيانه، وكان فى ذلك مناسبة لأن نعاود الحديث، وفيه وضح لصاحبى ما لم يكن واضحا له.
قال: لم أتصور الأمر على هذا المفهوم أبدا؟
قلت: ولا تصوره كل من استطلعتم آراءهم!
قال: ما هو السبب فى ذلك؟
قلت: إننا بكل أسف لا نضع تعريفا لأى كلمة نستعملها، ولا نتخذ بياناً لأى موضوع نتحدث عنه أو نكتب فيه، وإنما تجرى الأمور عندنا على السداح المداح، بلا أى تعريف ولا أى تحديد ولا أى بيان علمى ولا أى تقدير حاسم.
قال: لهذا يكون الحديث بيننا على الدوام مضطربا ويكون الكلام مختلطا.
قلت: كما يقال فى علم النفس عن الطفل. فالطفل، ومن لم يشب عن عقلية الطفل أو ينضج عنها، يظل على الدوام قاصر الفهم عليل النفس، يعبر عن أى شىء بأى لفظ، ولا يستطيع من يسمعه أن يدرك حقيقة ما يعنى إلا بجهد جهيد، وربما لا يستطيع إدراك الحقيقة أبداً، فيجرى الحديث بينهما وهو متفاصل غير متواصل، هو ما نقول إنه حديث الطرشان، هذا يقول ما لا يسمعه الآخر، وهذا يرد على ما لم يقله الأول، وهكذا.
قال: كيف يكون هذا حالنا، ثم نستمر عليه فلا يوضحه أحد ولا يحلله كاتب؟
قلت: إن وسائل الإعلام ساهمت وتساهم فى ترسيخ هذا الوضع الباطل، لأنها تحولت إلى مجرد ترفيه ومحض إعلان.
قال: وما هو الدور الذى ينبغى أن يتجه إليه الإعلام؟
قلت: دور تربوى بلا شك، بحيث لا يقوم الإعلام على ترويج التفاهة وتشييع الجهالة، وإنما يعمل من خلال خطة واضحة على أن يرسخ فى المفهوم العام ضرورة تحديد الألفاظ وتحليل المعانى ولكى يكون كل ما نقول واضحا محددا ويكون حديثنا عن بينة ونور.
قال: الإعلام يركز على شخصيات بذاتها تزّيف الوعى وتحرّف الفهم.
قلت: هذا هو ما يحدث بالفعل، فعندما يركز الإعلام سنوات طويلة على شخصية شائهة تفاهة، فإنه ينقل الشياهة والتفاهة إلى كل بيت، بل ويزرعها فى كل عقل، ومع الأيام تتشكل العقول وتتحدد القيم من هذه التفاهة وتلك الشياهة، فتختار ومثلها العليا على أساس هذه القيم الفاسدة، وتختل المعايير فى المجتمع كما تضطرب الموازين فى أى حكم وأى تقدير.
قال: وذلك شبيه بمن يقدم طعاما رديئا فى كل وقت إلى بعض الناس، فإذا بأذواقهم تتحدد من هذه الرداءة، ولا يستسيغون من بعد أى طعام جيد أو أىّ شراب ممتاز.
قلت: ذلك مثل مادى واضح، يقرّب إلى الفهم ما يحدث لعقول الناس ومفاهيمهم وأذواقهم عندما تعتاد على سماع الغث ورؤية التهريج، فتتشكل قيمهم من الهرج والتهريج وتتحدد مثلهم بالغثو والغثاثة.
قال: ولماذا يحدث ذلك أصلاً؟
قلت: ربما توجد أهداف خفية وراء ذلك، أو توجد رغبة فى دغدغة مشاعر الناس وتفتيت عقولهم بتقديم التافه والشائه، والإلحاح عليهما حتى تضطرب المشاعر وتختلط العقول، فيسهل قياد الناس بعد أن يصيروا إمّعات فقدوا ملكة التقدير الصائب والتحليل السليم والحكم الصحيح.
قال: وينتهى الأمر إلى ألاّ يستطيع الناس تمييز الحق من الباطل، أو تحديد العظيم من التافه!
قلت: لا يقّدر العظيم إلا عظيم مثله، أو مجتمع تشيع فيه معانى العظمة الحقيقية وتغلب عليه مفاهيم المُثُل الصحيحة.
قال: لقد كنت أعتقد، كما يعتقد غيرى، أن المشهور عظيم، وأن العظمة شهرة.
قلت: هذا خطأ كبير، فالشهرة قد تكون لمجرم أو آثم أو مهرج أو تافه؟ لكن العظمة حال داخلى لبعض الناس، يتجلى فى أفعالهم وأقوالهم، ويتبدى فى تصرفاتهم وتلفّتاتهم. إنه أمر يُفطر البعض عليه ولا يمكن اكتسابه، والمفطور على العظمة ينأى دائما عن الإعلان عن نفسه بتدنيات صغيرة، ويرفض أبداً أن يترك عمله ليجرى فى مسارات العلاقات العامة، يطبّل لهذا ويرمز لذاك، ويجعل خده مداسا لمن يرفع، ويحول قلمه خادما لمن يدفع.
قال: للأسف الشديد، فإن النجاح فى مجتمعاتنا يحتاج إلى قدر كبير من العلاقات العامة.
قلت: وهذا مما يُبدد وقت المرء، للجرى وراء هذا أو ذاك، ولا يترك له الوقت الكافى للتثقيف والتهذيب، حتى يصبح شخصية سوية، تعرف الفارق بين العظمة والشهرة، وتحدد الأمور بين العاطفة والعقل.
قال: كما قلتّ وتقول فإننا شعوب عاطفية.
قلت: لا بأس بالعاطفة على ألا تغلب العقل وتطمس الصواب، هذا إلى أن الثقافة العميقة العريضة، تلجّم هَوس العواطف وترشد هوج البدائية، لذلك فإن العواطف الجامحة مرحلة بدائية للشعوب وللأفراد، لابد أن يتجاوزوها، بالتثقيف المتوالى والتهذيب المتصل، حتى يحدث التوازن بين العقل والعاطفة، بين الفهم والحب بين الفكر والمشاعر.
قال: إن الحديث ذو شجون، وقد تعلمت منه أننا نصدر فى تصرفاتنا بغير معايير محددة، ودون موازين مقّدرة.
قلت: وأول خطوة فى طريق النجاح وسبيل التحضر أن نتعلم وضع المعايير الصحيحة لكل قول، ونصب الموازين الدقيقة لكل فعل.
قال: هذه ما أتمناه.
قلت: وهذا ما أدعو إليه.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
الشهرة والعَظمَة
مقال ممتاز وربما انه عكس ما نؤمن به من افكار. ليس لدي اي تعليق سوى تصويب معلومة ان الملك جيمس الاول لم يكن زوج الملكة اليزابيث اذ انها لم تتزوج قط وانما كان ملك سكوتلندا وصار خليفتها بعد وفاتها لغياب ولي العهد في انكلترا انذاك. وشكرا