في البُلدان العربية إذا لم يأتِ القرار من الحُكام بشرعية ممارسة إجراءٍ ما على المستوى الشعبي، سيظل هذا الإجراء فاقدًا شرعيته الشعبية!
بعد مرور ثلاثة وأربعين عامًا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و إسرائيل، وتحقيقها نجاحًا واسعًا في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، نتساءل: هل حققت اتفاقية كامب ديفيد أي تقدم على مستوى العلاقات الإنسانية بين الشعبين، أم أن السلام الشعبي مازال مجمدًا بينهما؟، الإجابة : لا، لم يتحقق أي تقدم!
في البدء، علينا أن نواجه أنفسنا بالوقوف على الأسباب وراء عدم المبادرة لبناء جسور سلام حقيقية بين الطرفين. السبب الرئيسي هو أن القومية العربية مازالت متجذّرة في الفكر السياسي و الفكر العام بالداخل المصري. ربما حدث لها تفتُّت بانشقاقات قومية أخرى مثل القومية الدينية ولا سيما الشوفينية، لكن بقىَ الفكر والخطاب القومي العروبي الرجعيّ والاستبداديّ الذى يُناهض التطبيع هو الأساس الذي يُبنى عليه الكثير من الأفكار المعادية للسامية. للتدليل على بقاء تلك النزْعة، يُمكن الاستناد إلى الاحتفاء السنوي من قَبل الحكومة المصرية بذكرى ما حدث في 23 يوليو 1952 على أنها ثورة مجيدة، وليست انقلابا اسس لنظام شمولي أصولي في المنطقة، وتعرض بعده اليهود المصريين للاضطهاد بل وتم تهجيرهم بصورة قسرية بعد سلب أموالهم وممتلكاتهم على غرار النازية.
الانغلاق على الذات دون الاطِّلاع على الآخر، هو أول سُبل الجهل!
ينبثق من ذلك السبب أسباب أخرى ذات أهمية بالغة، أولها يكمُن في مجابهة الثقافة اليهودية داخل المجتمع المصري والانغلاق المعرفي. لقد تم ترجمة العديد من المؤلفات الأدبية المصرية إلى اللغة العبرية ونالت داخل المجتمع الإسرائيلي رواجًا هائلًا مثل مؤلفات نجيب محفوظ و رواية علاء الأسواني “عمارة يعقوبيان” وغيرهم، في حين أنه لم تنشر مكتبة مصرية واحدة مؤلفًا أدبيًا إسرائيليًا مترجمًا من العبرية للعربية. ثم يستغرب المصريون مدى معرفة الشعب الإسرائيلي بثقافتنا العربية والتاريخية ونحن لا نعرف عنهم غير ما نقله مسلسل رأفت الهجان!
يؤكد هذا القصور المعرفي بالثقافة الإسرائيلية أن الجزء المُتعلِّق بالعلاقات الثقافية في البند الثالث من المادة الثالثة من المواد التي نصّت معاهدة السلام عليها، مُعطّل من الجانب المصري. على مستوى آخر من عدم سريان تفعيل التبادل الثقافي، هو أن الطائفة اليهودية في مصر تُقيم بعض الندوات المُتعلَّقة بالتراث اليهودي برئاسة ماجدة هارون رئيسة الطائفة، لكن لم يتم دعوة أي مثقف أو كاتب أو باحث أو أكاديمي إسرائيلي على منصة حوارية حول التراث اليهودي. ربما حدث ذلك مؤخرًا على منصة زووم من خلال استضافة الكونجرس اليهودي العالمي لماجدة هارون، والأستاذ الجامعي يورام ميتال من جامعة بن غوريون في نوفمبر الماضي للحديث عن الجالية اليهودية في مصر وحماية التراث اليهودي.
وعلى سيرة الأكاديميين الإسرائيليين، يقول الأستاذ الجامعي شيمون شامير في كتابه ” ورقة زيتون تم قطفها حديثًا: قصة المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة” أن الأكاديميين المصريين والإسرائيليين كانوا مهتمين بالعمل جنبًا إلى جنب بأعين تتجه نحو مستقبل أكثر اِزدهارًا على كافة الأصعدة، والتي تُعزز الجانب الإنساني بين الشعبين باستخدام الطاقات الشبابية من الجانبين؛ فكلاهما، على الرغم من تواتر أحداث صعبة في ذلك الوقت، تمسّكا بالمستقبل. لو كان تم الحفاظ على ذلك التعاون ولم تجهضه النعرات القومية والضغط الأمني من جهة ومساعي الإسلاميين من جهة أخرى، لكان المستوى الفكري المصري الآن أرقى وأغنى بكثير مما آل إليه اليوم!
لم يعد الدين لله والوطن للجميع، منذ عهد عبد الناصر أصبح الدين ما تُلزم به الدولة والدولة أُحادية القومية..
لم يكن تهميش الهوية الثقافية لإسرائيل داخل المجتمع المصري العائق الوحيد في إرساء سلام حقيقي. قبل جمهورية عبد الناصر، عُرفت مصر بالتعددية العرقية والدينية، لكن مع جمهورية عبد الناصر فقدت مصر تعدديتها. يحيلُنا هذا إلى السبب الثاني؛ فعلى الرغم من أنه مؤخرًا بدأ ترميم بعض المعابد اليهودية والاعتراف بها كجزء من التراث المصري، لكن لم يتم اِستقدام حاخامات من إسرائيل لإقامة طقوس الصلاة اليهودية بداخلها. ولم تستقبل منذ سنوات مُصلين. وفي كل الأحوال، لم يتبقَّ في مصر سوى عدد قليل من الطائفة اليهودية والذين ليس بمقدورهم فعل ذلك.
كان المكان الوحيد الذي يحجهُ إسرائيليون ويهود مغاربة كل عام هو ضريح “الحاخام يعقوب أبو حصيرة” في قرية “ديميتيوه” بمركز دمنهور في محافظة البحيرة، لكن بعدما تقدم عدد من المحاميين المصريين برفع دعوى قضائية بمنع الاحتفال بمولد أبي حصيرة وبإيعاز من اهالي القرية، أصدرت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية عام 2014 حُكمًا بمنع الاحتفال بمولده وشطبه من الآثار. في سبتمبر عام 2020، رفضت المحكمة الإدارية العليا الطعن المُقدم على الحكم بل وتم رفض تسليم رُفات أبو حصيرة لإسرائيل.
التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وهذه هي طامَّةُ مصر الكُبرى!
التعليم في مصر هو السبب الثالث من المعضلة، والذي يتمثل في إن الغالبية في مصر تحصل على تعليم حكومي له آلية منهجية واحدة بين مختلف محافظات الجمهورية، والبعض يتلقى تعليمًا أزهريًا وهذا أسوأ. يُدرِّس منذ الطفولة مادة الدين الإسلامي في التعليمين، دون أن يُحذف من تراثها الأجزاء المعادية للسامية أو المعادية للمسيحية. لذلك، منذ الصغر يتم تنشئة جيل عقله مُقيد بأغلال عبودية الكراهية والمعاداة. على إثر معرفة الإسرائيليين لنا أكثر من معرفتنا بهم، قَدَمَ الدكتور ديفيد أندرو واينبرغ وهو مدير الشؤون الدولية بواشنطن في منظمة ADL مقالًا بحثيًا مفصلًا ،في يونيو الماضي، عن ما تحتويه الكُتب المدرسية في مصر من مناهج معادية للسامية في مختلف المراحل التعليمية بعنوان “Egyptian Textbooks Send Mixed Messages about Jews”. في الواقع، على الرغم من أنني درست كل ما ذكره وأسوأ مما ذُكر، لكن شعرت بأسف شديد. في إسرائيل يدرس الطلبة أدب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم منذ مراحل التعليم الأولى، ونحن ندرس كل تلك المواد السامة!
تطرق واينبرغ في مقاله إلى المناهج التاريخية جنبًا إلى جنب مع المناهج الدينية في الكُتب الدراسية في مصر، حيث أشار أن معاداة السامية في المناهج هى جزء من شرح الصراع العربي الإسرائيلي. اضيف على ذلك أنها تدفع إلى تأصيل لفكر القومية الفلسطينية وتكوين الهوية الأيديولوجية لدى الطلبة، حيث ينشأ جيل يصدح فقط بشعارات رافضة لإسرائيل دون فهم حقيقي لماهية إسرائيل. في نطاق أن كُتب التاريخ المصري بها الكثير من المغالطات التاريخية، اشار واينبرغ أنه يتم تصدير صورة غير عادلة عن الحركة الصهيونية داخل المناهج وكأنها الحركة التي جلبت للعالم كافة مصائبه، وهذه افكار غير سليمة. في الواقع، يمكن للبعض في المنطقة العربية قبول فكرة أن هناك دولة سيادية مجاورة وهى “إسرائيل“، لكن مازال لا يمكنهم استيعاب “الصهيونية” كحركة علمانية اسست دولة إسرائيل. وهنا تذكَّرت نصيحة أحد الصالحين لي عندما تحدثت إليه حول تلك النقطة، قال أن “الصهيونية ليست كلمة سهلة لمعظم العرب“. بهذه الجملة المقتضبة، كان يوجَّه عقلي للتفكير بصورة أنضج بشأن معالجة المفاهيم الخاطئة في المنطقة، بأنه أمامنا الكثير من العمل لجعل الشعوب أقرب لبعضها البعض وعلينا أن نُسير نحو هذا العمل خطوة بخطوة.
واجهت بعض دول المنطقة معضلة سفينة ثيسيوس المُتعلَّقة بالهوية…
منذ عدة سنوات مضت، كانت تسعى الإمارات جاهدة في تجديد هويتها كدولة. كان ذلك التجديد يتمثل في محاولة القيادات الإماراتية جعل دولتهم دولة قومية متفردة، بعيدة عن القومية العربية ككتلة واحدة. ربما نجحوا في ذلك بتوجيه وعيهم نحو المستقبل وإقامة علاقات تخدم مصالحهم وهذه العلاقات جعلت الإمارات تلعب دور الوسيط في تحسين علاقات الشعوب ببعضها البعض – ذلك لم يعنِ أنها تخلصت بشكل كامل من رواسب الفكر القومجي العروبي –، لذلك يُمكن التعويل عليها كوسيط في النهوض بباقي دول المنطقة على مستويات أخرى.
بعد توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية بين المغرب والإمارات والبحرين من طرف وإسرائيل من الآخر، شرعت الدول العربية الثلاثة في تجديد بعض الأجزاء الرَثَّة في هويتها الثقافية. بدأ ذلك من تحريك المياه الراكدة بين كافة الأطراف المعنية بالاتفاقية، اعتمادًا على قوة الشباب في ذلك من خلال إطلاق مبادرات تجمع الشباب ببعضها البعض، ليشاركوا ثقافتهم و عاداتهم سويًا.
كما بدأت منذ عامًا مضى المملكة المغربية في تغيير المناهج الدراسية لديها من خلال إضافة الكثير من المعلومات عن الثقافة اليهودية كجزء من الثقافة المغربية، يتبعها في ذلك دولة الإمارات حيث بدأ حذف الأجزاء المعادية للسامية من المناهج الدراسية واستبدالها بمناهج تحث على التسامح والتعايش والسلام بين كافة الشعوب في منطقة الشرق الأوسط. تأثرت المملكة العربية السعودية بدولة الإمارات كونهم خليجًا واحدًا؛ فاتجهت نحو عملية تغيير المناهج الدراسية هي الأخرى. ربما سعي السعودية مؤخرًا نحو التجديد، هو ما دفع إلى إجراء محادثة دبلوماسية بين الطرفين لحدوث هكذا تأثير، وتعتبر تلك الخطوة إحدى التأثيرات الإيجابية للاتفاقية الإبراهيمية على دولة لم توقع اتفاقية سلام مع إسرائيل بعد!
يستوجب كل ذلك التجديد طرح سؤال، هل ستؤثر الاتفاقيات الإبراهيمية في استعادة آلية السلام الشعبي المفقود بين مصر وإسرائيل؟!
إن الدول العربية الآن تعي تمامًا بأن إسرائيل لم تعد عدوًا لها، وهذا الوعي أصبح جليًا مؤخرًا. يكون الشعور الدائم بأنه ثمَّة عدوًا متربصًا بموارد الدول ويجب التصدي له ككتلة واحدة، جزء من الفكر القومي. توجَّه الوعي العربي الآن نحو التركيز في التصدي لعدو جديد وحقيقي وهو إيران بميليشياتها من جهة، وتركيا وقطر كراعيين للإخوان من جهة أخري، وهذا على الصعيد السياسي. على الصعيد الدبلوماسي، فالاتفاق علي المصالح المشتركة يخلق مساحات حوارية يمكن من خلالها تحقيق أهداف مهمة مثلما حدث في السعودية كتأثير إبراهيمي إيجابي. إذًا لماذا لا تتوسط الدول المعنية بالسلام في محاولة خلق مناخ أكثر طبيعية بين الشعب المصري والإسرائيلي؟
أشار واينبرغ أن تدارك القنبلة الموقوتة الخاصة بالتعليم في مصر، أمر في غاية الأهمية. ذكر أنه وفقًا لإحصاءات الحكومة الأمريكية والمصرية، أن نسبة الذين يتلقون تعليمًا معاديًا للسامية في مصر من المراحل التعليمية الأولى حتى نهاية التعليم الثانوي أكثر من إجمالي عدد سكان الإمارات والكويت وعمان وقطر مجتمعين، وبالطبع هذا يعود للكثافة السكانية في مصر. لذلك، تغيير المناهج الدراسية في المملكة المغربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة السعودية هو بالفعل خطوة إيجابية جدًا في خلق شباب أكثر تقبلًا للآخر، لكن تُقتلع ثماره قبل أن تنمو من جانب آخر وهذا يستوجب وساطة حوارية حول تلك الإشكالية بين القيادات صانعي القرار، لأنه لا صوت في الدول العربية يعلو فوق صوت الحُكام من جهة، ومن جهة أخرى عدم الاعتراف بأهمية تدخل الحكومات – سواء كانت سياساتها مقبولة ام لا– في حل بعض الأزمات يفاقم من المُشكلة لا يحلها.
علينا الاعتراف أيضًا أن كل المحاولات الفردية – في ظل غياب الديمقراطية– فشلت في فرض مناقشة إشكالية السلام العالق بين الشعوب على الساحة العامة!
أعي تمامًا أنه هناك الكثير من الإشكاليات التي يجب مناقشتها، السلام الذي يأتي بعد تاريخ طويل من الحروب ليس من السهل تقبُّله، لكن مرت عقود كثيرة على الحروب وأيضًا على اتفاقية السلام. نشأت أجيال كثيرة لم تعاصر حربًا واحدة لذلك علينا أن نعلّمهم أن الاحتفاء بالسلام أهم من الاحتفاء بذكرى الحروب، و أنه لا يجب الحُكم على طرف دون معرفته. حان الوقت لخلق جيل من الشباب أكثر وعيًا وفهمًا لمفهوم “المستقبل“ ولديه آفاق فكرية ومعرفية متعددة، وعدم دفعه ليكون جزءًا من قومية لا تعنيه!
لمشاهدة الحوار حول الطائفة اليهودية في القاهرة وحماية التراث اليهودي في مصر، إضغط هنا
للإطلاع على مقالة “Egyptian Textbooks Send Mixed Messages about Jews”
على الرغم من كل ما قيل, لن يتحقق سلام عربي إسرائيلي حقيقي ودائم إلا بعد حل عادل للقضية الفلسطينية. بدون عدالة الفلسطينيون لن نحصل على السلام. ومع ذلك ، حتى ذلك الحين ، يجب على المرء أن يعمل من أجل التفاهم بين شعوب المنطقة ومن المؤكد أنه يجب اتخاذ إجراءات ضد مرض معاداة السامية وشيطنة جميع اليهود والإسرائيليين.
مرحبا, لقد قرأت مقالتك باهتمام كبير. باعتباريناشطة سلام, شاركت قبل أكثر من 20 عامًا في نشاط مشترك مع الأصدقاء المصريين في حركة السلام المصرية المعروفة باسم “جماعية القاهرة للسلام” بقيادة المرحوم الصحفي والكاتب السيد لطفي الخولي وتلاه المرحوم السفير محمد البسيوني. لقد دمر رد الفعل الشعبي اسلبي والمعادي لنشاطنا في مصر محاولتنا الإسرائيليين والمصريين لبناء حركة سلام مشتركة تعمل كهيئة واحدة لتعزيز السلام والتفاهم بين شعوب المنطقة. فللاسف الشديد أعترف بصواب وبصحة كلماتك, وهذا حقيقة أمر مؤسف للغاية … ومع ذلك ، يجب أن تعرفين الحقائق الدقيقة: ان هناك العديد من الكتب التي ترجمها عمرو زكريا من العبري إلى العربية… قراءة المزيد ..
« نشأت أجيال كثيرة لم تعاصر حربًا واحدة لذلك علينا أن نعلّمهم أن الاحتفاء بالسلام أهم من الاحتفاء بذكرى الحروب«
مقال جيد وتحليل منطقي.
رغم ذلك ، هناك ثابتة واحدة وهي :
لا ولن تستقيم العلاقة بين اسرائيل والدول ” العربية- الأسلامية ” الا بعد توقيع اتفاقية سلام مع المملكة العربية السعودية .
ولحينه ستبقى العلاقات الأسرائيلية / العربية غير سوية .