(مخيم الزعتري للاجئين- الأردن)- البقايا المحروقة للخيمة تبقى على حالها لساعات بعد المأساة. مِزَقُ الثياب والأحذية شبه المحترقة لا تتميز عن رماد كل ما التهمته النيران. لكن، كما جرت العادة في مخيمات اللاجئين، لم يكن هناك الكثير ليحترق. قماش الخيمة، كما هو الحال في الخيمات المجاورة، كان الأول في التلاشي، محولاً ما كان يجب أن يكون ملاذاً إلى شعلة حاصرت لميس صلخدي، ذات الأعوام العشرة فقط، في داخلها.
“كنتُ مع زوجة شقيقي والأطفال في الخيمة حتى منتصف الليل، وفي تلك الساعة ذهبتُ إلى خيمتي للنوم”، يشرح لنا مكتئباً أبو مريم، عم الضحية. “خيمتي كانت قريبة، وعند اضطجاعي سمعتُ صيحات. خرجتُ راكضاً ورأيتُ هذه الخيمة تحترق والجيران يسحبون أولاد أخي”. واحد من السكان الأكثر قرباً، محمد المقداد، يحضر عند سماع الجلبة الناجمة عن الزيارة. “أنا كنتُ نائماً عندما أيقظتني الصرخات ورأيت ألسنة اللهب. لففتُ نفسي ببطانية وسحبتُ واحداً من الأطفال، بينما كان آخرون يقومون بالشيء نفسه. إلا أننا لم نستطع سحب الطفلة”، يقول مشيرأ إلى بقعة داكنة على الأرض، هي حيث يؤكدون أنهم وجدوا الجثة.
تحولت لميس صلخدي في يوم الثلاثاء التاسع عشر من شباط| فبراير إلى الضحية قبل الأخيرة التي يحصدها اللجوء السوري. عمها، الذي مضى عليه شهر في مخيم الزعتري الأردني للاجئين، حيث يتقاسم ستة وسبعون ألف لاجىء سوري البؤس والشك والاحتياجات، يؤكد أنه في هذه الأسابيع الأربعة مات ثلاثة أشخاص في ثلاثة حرائق مختلفة. إليهم يجب أن يُضاف ضحايا البرد المبلَّغ عنهم من قِبل السكان وأيضاً ضحايا الفيضانات في أوائل كانون الثاني| يناير، عندما أغرقت عاصفة لا سابق لها خيماً بأكملها مضطرة اللاجئين الذين كانوا يشغلونها إلى البحث عن ملاذ في دورات المياه والمطابخ المشتركة.
الأم واثنان من أشقاء لميس (كانوا أربعة أطفال في مجملهم) يخضعون اليوم للعلاج من حروق في الوجه والأذرع والأيدي في عيادات أردنية. ليس واضحاً ما الذي أطلق عنان المأساة، لكن كل شيء يشير إلى أنها كانت شمعة. غياب التيار الكهرباء -الحاضر بضع ساعات في اليوم فقط- يحول الليالي إلى كابوس جليدي بالنسبة للاجئين، الذين يلجأون إلى أية طريقة للاستنارة أو التدفئة. أسطوانات الغاز حيث تُسخَّن الشاي هي مشعل آخر محتمل. لكن النار ليست الخطر الوحيد القاتل الذي يواجهه السوريون في ما يُفترَض أن يكون ملجأ لهم.
أم روعة، ثمانية وعشرون عاماً، كان لديها ستة أطفال حتى أواسط شهر شباط| فبراير. “في صباح أحد الأيام، عندما استيقظتُ، لم يكن الصغير محمد يتحرك. كان ميتاً، إلى جانبي. أخذته بين ذراعي ومشيتُ إلى المستشفى، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء”، تشرح هذه اللاجئة الهرمة مبكراً المحاطة بأولادها الخمسة الباقين. كلهم يمشون بالصنادل، بدون جوارب، بالرغم من درجات الحرارة المنخفضة في الشتاء الأردني. الثياب البالية التي يرتدونها ليست كافية لتدفئتهم.
تحكي لنا أن محمد، البالغ سنتين، كان قد وصل مريضاً إلى المخيم قبل ثلاثة شهور، عندما استقرت فيه العائلة. “كان محموماً، كان نعساناً دائماً. حملتُه مرات عديدة إلى المستشفى، لكن الأطباء كانوا يقولون لي إنه لا يشكو شيئاً. لكنني كنت أعلم أنه لم يكن على ما يرام. عندما مات، حملتُه إلى الأطباء أنفسهم. قلت لهم إنه مات بسببهم”. سلطات المخيم لا تعتقد أن الوفيات التي حصلت حتى الآن ترجع إلى درجات الحرارة المنخفضة، مشيرة إلى أن الضحايا كانوا قد وصلوا مرضى جراء الأوضاع الصعبة في الداخل السوري. إلا أن سكان المخيم ينحون باللوم في الوفيات على درجات الحراراة ونقص المساعدة الإنسانية -في تشرين الثاني| نوفمبر سجلت ثلاث حالات أخرى، وفي كانون الثاني| يناير، عندما أغرقت الأمطار خمسمائة خيمة، تم الإبلاغ عن وفيات- على نمط تسير عليه مخيمات أخرى في تركيا وفي داخل سوريا.
ماتت هبة وهي في الشهر السابع من العمر وحسب. وفق والدها، فؤاد، سبعة وعشرون عاماً، فإن ما قتل طفلته هو غازات الشرطة الأردنية، عندما كان عناصرها يخمدون احتجاجاً للاجئين. “كان هناك أناس حاولوا الهروب من المخيم والشرطة هاجمتنا. أطلقت قنابل دخانية، وإحداها سقطت بالضبط أمام خيمتي”، يروي الرجل، بين سيجارة وأخرى، جالساً على بلاطة من الاسمنت وسط مخيم الزعتري. “أمضت الطفلة ليلتين في المشفى. أما أنا، فإنهم لم يسمحوا لي حتى بالدخول. في اليوم الثالث، عندما ذهبتُ للاستفسار عن حالتها، قالوا لي إنها توفيت. كان علي أن أدفع مائتي دينار أردني (حوالي مائتي يورو) من أجل الدفن”.
يروي اللاجئون أن المآسي متواصلة في المخيم. “قبل يومين، كان هناك مظاهرة عفوية للمطالبة بالمزيد من المساعدات. أنا كنت أمشي في المنطقة فقط: تدحرجت قنبلة دخانية بين ساقيّ”، يؤكد عبد الله، ثمانية وعشرون عاماً، وهو ميكانيكي قديم أسس نوعاً من الكافتيريا في الزعتري لكسب بعض الدنانير التي تتيح له شراء الحفاظات وحليب الأطفال لابنته الوحيدة، ذات الشهرين من العمر. “كان هناك ما يقرب من عشرة مواجهات مع الشرطة” يقول لاجىءآخر.
الأوضاع المعيشية في الزعتري بائسة. أبو حسن، ثلاثة وثلاثون عاماً، واحد من المحظوظين الذين حصلوا للتو على مقصورات معدنية تبرع بها النظام السعودي، في ما يُفترض أن يكون تحسناً في مستوى حياته. كانت خيمته قد غرقت في عاصفة كانون الثاني| يناير. “كنتُ في الداخل مع زوجتي وأولادي الأربعة. أمطرت بغزارة، وبدأت الخيمة بالامتلاء بالماء. أعتقد أنه قد تجمع فيها ما يصل إلى أربعين سنتيمتراً. خرجنا بما علينا ولجأنا إلى خيمة أخرى، متموضعة في جهة أخرى من المخيم، واستقبلتنا العائلة التي كانت تقيم هنالك. فقدنا كل ما أحضرناه من سـوريا تقريباً. في منطقتنا فقط أطاحت المياه بخمس وثلاثين خيمة. ومات طفل في ذلك الوقت”.
المقصورات المعدنية، كل واحدة منها لإقامة عائلة، تصل بالقطارة.إنها مخصصة للمقيمين الأكثر قدماً، بينما الجدد -عشرات ، بل مئات، من الأشخاص يصطفون كل يوم أمام مكتب التسجيل في المخيم- يبحثون عن مكان لنصب خيمتهم. تعلم المقيمون حفر الأخاديد حول الخيم لتجميع مياه الأمطار ومنع الفيضانات، لكن طبيعة الميدان -المحفور وسط الصحراء- تحول جهدهم إلى محض مستنقع في كل مرة يهطل فيها المطر. حتى الأمم المتحدة انتهت إلى الشكوى من أن المخيم الضخم، المسؤولة عنه الحكومة الأردنية، قد تم إنشاؤه بالطريقة التي تمت فيها. “لا أعتقد أن أحداً في الأردن من قبل قد أقام مخيم لاجئين بهذا الحجم في وسط الصحراء”، يؤكد بانوس مومتسيز، المسؤول عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة من أجل سوريا. “تنقصنا الرياح الأكثر لطفاً (لصنع عاصفة رملية)”، كما لفت الانتباه إلى ذلك في تشرين الأول| أكتوبر الماضي، مضيفاً أنه في ذلك التاريخ كان مائة وخمسون طفلاً يعالجون يومياً جرّاء مشكلات تنفسية.
في بعض الأحيان، تقرر العائلات، بعد أيام من رفع خيمها، تغيير المكان من أجل الاقتراب من جيرانهم وأقربائهم، مضطرين إلى تنظيم عمليات انتقالهم. التعاقد مع سيارة تساعد في شحن الأمتعة والمفارش التي تخصصها الأمم المتحدة تستدعي استخدام جزء من مدخرات كل عائلة. البعض الآخر يقررون الاقتراب من الشارع الرئيسي في المخيم، الأكثر قيمة ضمن هذا البؤس نظراً لأن اللاجئين أقاموا فيه مقصورات تستقبل محلات تجارية متعددة الألوان: من صالونات الحلاقة إلى المطاعم مروراً بمحالَ بيع الفاكهة ومحال بيع الأحذية والثياب المستعملة أو مطاعم مرتجلة تقدم المناقيش والكباب. كل خيمة تحمل اسم رأس الأسرة التي تقيم بها، مرسوماُ بالقلم العريض يدوياً، والمنطقة التي جاؤوا منها. محافظة درعا هي مصدر القدوم الأكثر شيوعاً، إلا أنه يمكن رؤية خيم فيها عائلات من دمشق أو حِمص.
الفوضى في المخيم، على بعد 10 كيلومترات عن الحدود مع سوريا و85 كيلومتراً عن عمَّان، تزداد مع كل وصول لأعضاء جدد، والسلطات الأردنية تقدر أن ثلاثة آلاف شخص يعبرون الحدود كل ليلة بطريقة غير شرعية. إذا كان الزعتري، الذي أقيم في الصيف الماضي لإيواء ستين ألف شخص كحد أقصى، إذا كان قد استقبل خمسة عشر ألف مقيم في آب| أغسطس فإن الرقم الإجمالي اليوم يناهز ثمانين ألفاً. في المجمل، تقدِّر وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أنه يوجد حوالي 290000 لاجىء سوري في الأردن، لكن الغالبية منهم قد تكون مقيمة مع أقرباء أو أصدقاء، أو استأجروا بيوتاً خاصة بهم بدلاً من الحضور إلى المخيم، المُعتَبر خياراً أخيراً.
مجمع المدارس الذي أقامته اليونيسيف، حيث سجل لهذا الفصل الدراسي خمسة آلاف وخمسمائة طفل، أصبح صغيراً. لذا تقيم وكالة الأمم المتحدة للطفولة كتلة أخرى مشابهة مع قاعات للصفوف في ما يعرف بـ “المنطقة السعودية”، حيث تقام الخيم المقدمة من الرياض وحيث الساحات التي باتت محددة تنتظر مقيمين جدداً.
مسؤولو اليونيسيف يقدرون أنه لا يحضر إلى الصفوف أكثر من 4365 طفل. قسم من البقية انتهوا إلى العمل، غالباً ببيع البضائع الصغيرة في أزقة المخيم ليساعدوا عائلاتهم من الناحية الاقتصادية؛ قسم آخر يهربون مع عائلاتهم، سواء إلى مدينة أردنية أخرى، أو عودة إلى سوريا أمام الوضع اليائس الذي يوجب عليهم الاعتماد على المساعدة الإنسانية للحصول على قوتهم اليومي. “يأتون من بيئة ريفية حيث التعليم ليس أولوية. أولئك الذين كانوا يدرسون، مضى عام أو اثنان على تركهم للمدرسة”، كما تبرر ذلك شروق فاروقي، مستشارة التعليم في اليونيسيف.
“العنف الذي تعرض له الأطفال داخل وطنهم وحالة عدم اليقين من يوم إلى آخر نسفت العادات العائلية الرتيبة” تشرح كونادي كوني، مسؤولة اليونسيف للتنسيق مع المخيم. “الناس ما عادوا يأكلون مع عائلاتهم، لا يقضون أوقاتهم معهم، الكبار بدأوا يضربون الأصغر سناً والأمهات بتن منهكات بسبب الوضع وأيضاً بسبب التغير في سلوك أولادهم”، تواصل قائلة. “الدعم النفسي تحول إلى جزء حيوي من برنامجنا”، تواصل كوني كلامها في غرفة الأساتذة في المجمع المدرسي الكبير.
مدرسو المركز -مائة أردني، مدعومين بمائة وثمانية لاجئين متطوعين كانوا يمارسون التدريس قبل الثورة- تم إعدادهم لمواجهة الأحوال النفسية الخاصة للطفل الذي تعرض لتوه لتجارب صادمة. ليس من غير الشائع العثور، من بينهم، على أحداث عنيفين. الطلاب، إضافة إلى ذلك، اعتادوا المرور قبل وصولهم إلى صفوفهم بواحد من الثمانية عشر “فضاء آمنا” التي أُقيمت في المخيم. “حيث يمكنهم استعادة الألعاب والعودة إلى الشعور بطفولتهم مرة أخرى. إنها أماكن مسيَّجة، بعيداً عن البالغين، توجد فيها مرافق رياضية متواضعة ومقصورات حيث يستطيع موظفو اليونيسيف القيام بورشات عملية تُشْغِل الحاضرين وتساعدهم على التعايش مع واقعهم الجديد.
في بعض هذه الورشات يتم تعليمهم فن التصوير الفوتوغرافي فتوزع الكاميرات ويشجعون على التقاط الواقع في الزعتري عبر العدسة. في البعض الآخر، تُعطى دروس في المعلوماتية. في إحدى الورش، يرسم حوالي عشرة من المراهقين جداريةَ كبيرة.المعلِّمة طلبت منهم أن يشرحوا ما حصل لهم من خلال الفرشاة. في الطرف الأيسر من اللوحة تظهر سـوريا: دبابات وجنود يقتلون أشخاصاً يهربون من قراهم. في الطرف الأيمن، خيام في مخيم تمثِّل الزعتري. واحدة منها تلتهمها ألسنة النيران.
ترجمة: الحدرامي الأميني
موقع: بريوديسمو أومانو
http://periodismohumano.com/en-conflicto/zaatari-morir-en-el-refugio.html