لقد دعا الإسلام منذ لحظته الأولى العرب إلى الخروج من عزلة المجتمع الجاهلي الذي كان يكتنفهم، وتمزيق ظلماته ومحدداته القبلية الضيّقة، والمضي نحو آفاق العالمية الرحبة. لقد كان تبني الإسلام لمنظومة القيم المدنية؛ من استقرار وتعارف واستحكام لعوائد التحضر وأسبابه – كما في تعبير ابن خلدون، إنما، لشرطيتها الموضوعية -كقيم- للتعمير والبناء المادي والروحي، والعمران والتلاقح الإنساني.
وأغلب الإشارات التي تضمنتها مصنفات الأصول لمقاومة الإسلام لفكرة “التعرب” بعد الهجرة، أي ذم العودة إلى الحالة الأعرابية، إنما جاءت بغرض التأكيد على مركزية المدينة في الحضارة الإسلامية؛ حيث المدنية المستقرة والعمران المبدع، سبيل المكاسب الحضارية والاستقرار السياسي، اللذين هما من شروط تدعيم الإسلام ونشر رسالته.
ولا يحتاج القارئ للتراث لبذل جهد كبير ليدرك أن رفض الإسلام لم يكن موجهاً ضد البدوي أو الأعرابي كتمييز فئوي، وإنما للبداوة كسلوك وقيم. “فمعيار النهي هنا معيار معيشي حضاري وليس معيارا موجها ضد الأعراب من حيث هم أعراب كجنس أو عرق” – كما يؤكد الدكتور محمد جابر الأنصاري في دراسته (التأزم السياسي عند العرب). حتى إن ما جاء في الأثر من نصوص، كإشارة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى أن ” من بَدا جَفا” – أي أن من سكن البادية فقد جفا، فإنما قد جفا، لابتعاده عن مصادر الدين الإسلامي، وبالتالي، لابتعاده عن مصادر قيمه وسلوكياته الحضارية.
واليوم، فإن البداوة بصفتها موروثاً شفهياً أو حسّياً، وذاكرة ومخيالاً شعبياً، وقوالب أنثوغرافية تعبيرية فلكلورية تخضع للإشكال الثقافي والمعرفي، لا بأس بها، بل إنها هوية وطنية من ضمن عدة هويات فرعية يحفل بها وطننا الكبير، ونفتخر بها. أيضاً القبيلة بصفتها تنظيماً اجتماعياً، لا بأس بها، متى ما خضعت لترتيب سلم المرجعيات الوطني، وحررت آلياتها الحاكمة من الطابع الأبوي (العصبي). فالبداوة كموروث ثقافي، أو القبيلة كتنظيم اجتماعي، يغدو كل منهما مظهراً من مظاهر الاختلاف، الذي متى ما تم ضبطه بآليات معرفية، يؤسس، بالضرورة، لقيم الحرية والاختيار، ويثري من مظاهر التعدد والتنوع.
أما الحاصل مؤخراً من صعود مزاج اجتماعي عام، يستدعي قيم البداوة وسلوكياتها الاجتماعية، ويقوم على نزع مبدأي تاريخيتها ونسبيتها، في محاولة لتخليد اللحظة البدوية قيماً وسلوكاً، وتعميمها على حساب شروط الحضارة. أو في صعود لسلطة العقل التجزيئي، الذي يرفع من مستوى الولاء القبلي على حساب المواطنة والولاء للدولة، ويخل بشروط التنظيم الاجتماعي وأشكال التعاقد والتفاعل في الدولة الحديثة، فإن كلا التوجهين تقهقر وردّة إلى الخلف – وأي استسهال معهما دون معالجتهما، هو جناية نجني بها على حاضرنا ومستقبلنا.
ونحن حين نتناول مفهومي البداوة أو القبلية بالتحليل والنقد، فإننا، صراحةً نشير إلى أثرهما، الذي عمّ أفراداً من جميع الشرائح الاجتماعية دون تفرقة، أكانوا ممن يسمى اليوم بالبدو، أو كانوا من سكان الأجزاء الحضرية أو المتحضرة. فالبروز العام لأعراض العقل التجزيئي، إنما يحضر ويشيع، دون تفريق. فالتكتل العصبي، قد يكون قبلياً، أو عشائرياً، أو عائلياً، وتقديم الولاء الجزئي على حساب الكلي، إضافة إلى الحالة القبلية، قد يكون في ولاءات فئوية أو أيديولوجية أو طائفية أو مناطقية.
هذا العقل التجزيئي، أو العقل المنطبع بعلاقات الانتظام الانقسامي، الذي لم يكن يعي في ماضيه سوى مشجرات النسب، وتراتبية القبيلة، كمركزية لإنسانيته، ولم يكن يعرف غير مضارب قبيلته وديارها، موطناً يتعصب له ولأفراده ظالماً أو مظلوماً، أو كما جاء في شعر قريط بن أنيف (لا يسألون أخاهم حين يندبهم * في النائيات على ما قال برهاناً). إنما يفصح عن نفسه اليوم في أنماط الالتحام المتمايزة عنوة، وفي نوازع صراعية غير مقننة، تبقى كامنة تارة، وتفصح عن نفسها تارة أخرى في سجالات الفخار القبلي (أو الفئوي) وممارسات العصبية الرعناء، وادعاءات النقاء والتطهرية المستشنعة.
غير أن السؤال الذي يبرز هنا بصورة من الإلحاح والحاجة للفهم، إنما يسأل عن أسباب هذا الصعود الحاد للقيم التجزيئية وللسلوك العصبي، في شكل بات يكتسح عدداً من مظاهر حياتنا؟ وإزاء هذا السؤال نستطيع أن نقول، إن ما يشدّ المجتمع العربي المعاصر إلى الذهنية الأعرابية ومنظومتها القيمية، هو أفول الحضارة الإسلامية، تاريخياً، وتراجع المنجزات الحضارية للدولة الحديثة واتجاه المسيرة نحو الوراء، آنياً، حيث “انقطاع الحضارة العربية الإسلامية قد قطع عقل المجتمع العربي المعاصر أيضاً” – بحسب تعبير عبد السلام نورالدين.
وبالتوازي، فإن غياب منجزات الدولة الحديثة، عن المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، سواء في الإخفاق البيّن في تقنين وأنسنة أشكال ووسائل الصراع الطبقي والاجتماعي، وفي غياب ظاهرة المجتمع المدني (بالدلالتين الفلسفية والإجرائية)، إنما أدى إلى إحكام سيرورة الردّة البدوية، وانغماس الأفراد في ذاتها، في توجّه، هو في الواقع، تعبير عن الإحساس العميق، الذي يصل إلى حد الإحباط والنكسة، بتدهور الحاضر، وانحطاطه، والقنوط من وجود أمل في مستقبل أفضل، الأمر الذي يدفع إلى الهروب إلى لحظة ماضية في الزمان، قد يُعتقَد بيقظتها الروحية أو قد يرجى منها إشعال جذوة الكرامة الإنسانية، مما يجعل النفس المحبطة، راغبة في اللجوء إليها، والاعتصام فيها، والتلويح بها.
والباحث محمد عابد الجابري، الذي خلص في مشروعه المعمّق في نقد العقل العربي، إلى أن “القبيلة والغنيمة والعقيدة محددات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي في الماضي ومازالت تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر” (الجابري: العقل السياسي العربي)، كان قد اعتبر أن ظهور مفعول تلك المحددات التقليدية بالمجتمعات العربية، في شكل طفرات متلاحقة، إنما يعود لسطحية الإصلاحات التحديثية التي طُبقت، ولغياب المفهوم الواسع للمجتمع المدني، والإخفاق في تنمية التنظيمات الأهلية التي تملأ الفراغ السياسي والاجتماعي، فكانت النتيجة الموضوعية من عودة المكبوت إلى السطح.
والمكبوت، الذي لم يطله الإصلاح الجوهري، إنما يصفه عبد السلام نور الدين، في تلك الصورة الأدبية الرفيعة، حين اعتبر أن الفئات الاجتماعية العربية عموماً، “والتي تشب عادة من تربة العصبية الطائفية، حتى إذا ترعرعت تلك الفئات وأورقت واعشوشبت حواشيها تدلت فروعها وحجبت عن الرائي أصولها الوحشية وبان منها الغصن التجاري والزراعي المزجج أحياناً بطرف وحشايا الصناعة أو ما يعرف بالسمات الحضارية. ويتكشف ذلك الجذر العصبي في زي الأعاريب كلما نشب قتال ضار بين العصبيات المتحالفة أو أرادت العيون في حالة اغتراب عن الأصول (السيقان المتسلقة من ذات التربة) أن تعلو على الحاجب. آنئذ يتخلخل ذلك البناء الهش وتتساقط أقنعة الفئات الحضرية غير المستحسنة فإذا هي قبائل وعصبيات وطوائف تسعى”. (نور الدين: العقل والحضارة).
ونحن، لا بد من أن نغالب قلقنا، ونتناول إشكالية الردّة الاجتماعية، ونبحث متعلّقها وأبعادها وجذورها التاريخية، عبر قنوات الرأي العام، وفي أروقة الجامعات ومراكزها البحثية، ونخضعها للشروط العلمية ومن التحليل والنقد والمناقشة. لا بد من استباق أي عوارض، قد تجبرنا فيما بعد على التقهقر، وترفع من موقف النكوص في حياتنا إلى مستوى الأصل، وكي لا يصح فينا بعدئذ، قول الشاعر البردوني، (لماذا الذي كان ما يزال يأتي * لأن الذي سوف يأتي ذهب).
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
*كاتب سعودي
عن الوطن السعودية