أثناء نقاش مع زملاء حول فصل الدين عن الدولة، سار الموضوع باتجاه تعريف الدولة الدينية. ثم كان لي هذا الرأي، الذي وددت أن أطرحه مع العديد من الإضافات:
حينما يُطرح مفهوم الدولة الدينية، فما هو المقصود من ذلك؟ هل المقصود هو الدولة الفقهية؟ أم أن هناك مفهوما آخر؟ وما هو هذا الآخر؟ إذا لم يكن المقصود بالدولة الدينية هو الدولة الفقهية، يجب توضيح المراد من الدولة الدينية.أمّا إذا كان المراد هو الدولة الفقهية فسنكون أمام معضلة، وهي عدم وجود علاقة بين الفقه كمعرفة قديمة تستمد مبانيها الفكرية من أسس الحياة التاريخية، وبين الدولة كمفهوم حديث. بعبارة أخرى، سنكون في مواجهة مع أمر معرفي لا ينتمي للحاضر، لا في بنائه ولا في أطره أو في قوانينه. وبما أن بناء الفقه هو بناء تاريخي قديم لا يمت بصلة لأسس الحياة الحديثة، لن تستطيع الدولة الدينية الفقهية مجاراة الحياة الحديثة ولن تكون قادرة على العيش في إطار شروطها.
أحد أسس الحياة الحديثة هو الدفاع عن حقوق الإنسان بمختلف عناوينها، وهذا شرط أساسي لقبول مسألة التعدّد والتنوّع السياسي وغير السياسي. يأتي على رأس هذا التنوّع الاعتراف الكامل بالمواطنة، والتي تنفي كل صور التمييز المقرّة في الفقه، كالتمييز بين المسلم وغير المسلم وبين المرأة والرجل وبين العبد والحر.
إن المثالية والطرح القطعي النهائي غير مطروح في كل الأفكار المتعلّقة بمشروع الدولة، لأنه مشروع بشري يقوم على الاجتهاد العقلي ويستند إلى الاتفاق على الحلول الوسط، أي على الفهم النسبي. بينما لا نجد في الرؤى الدينية الفقهية هذا الفهم، بل ما يهيمن في الفقه هو الفهم المعبّر عن المشروع المثالي، وهو عصي على التحقيق طال الزمن أو قصر.
الدولة الحديثة، هي الدولة القائمة على أوّلية حقوق الإنسان، ويتشكّل بناؤها على العيش في ظل الحقوق وتنوّعها، وعلى تجاوز كل ما يمثّل المثالية الدينية أو المثاليّات المؤدلجة، وعلى الجرأة في إنتاج حقوق جديدة باستمرار. وهذا غير متوافر بتاتا في الفقه، وبالتالي لا يمكن إقراره في مشروع الدولة الفقهية.
هناك من يقول بأن الدولة الفقهية، رغم أنها تلك التي يقودها الفقيه، لكنها لابد أن تقوم على الالتزام بالعدالة والحكمة والعقلانية. ورغم أن العدالة والحكمة والعقلانية موجودة في كل زمن، غير أن المسألة ليست في وجودها أو في عدم وجودها، إنما المسألة في مصاديقها، والتي تختلف باختلاف الحياة وتغيّر مبانيها وتبدّل معاييرها. وبما أن الفقه الراهن معني بمعايير الحياة القديمة ومبني عليها فإن دولته ستلتزم بالعدالة والحكمة والعقلانية التي تشكّل أسس الحياة القديمة وستنتج مصاديق تناسب تلك الحياة.
لذا المصداق الذي كان يُعتبر عادلا بالأمس قد لا يكون عادلا اليوم، والمصداق الذي كان يُعتبر عقلانيا بالماضي قد لا يعتبر عقلانيا في الحاضر. وهذا ينطبق على الدولة أيضا. فمصاديق حكمة وعقلانية وعدل دولة الماضي ليست بالضرورة هي مصاديق دولة اليوم. مثلا، مصاديق عدل دولة الإمام علي بن أبي طالب ليست بالضرورة هي مصاديق عدل الدولة الحديثة. ومن يعتقد بأن مصاديق العدالة والحكمة والعقلانية في إدارة الإمام علي للمجتمع العربي القديم صالحة لكل زمان ومكان، فهو لا يعترف بتغيّر الحياة وتطوّرها ولا يعترف بأن المصاديق تتفاعل مع التغيّر. فالإمام علي عاش العدالة وسعى إلى تحقيقها وفق صور الحياة السائدة آنذاك. وغيره من الخلفاء سعوا إلى نفس الأمر. وبما أن صور الحياة الراهنة تختلف كلية عن صورة الحياة القديمة فإن مصاديق العدالة وآليات تحقيق تلك العدالة ستختلف أيضا.
هنا لابد أن نسأل: لماذا تتغيّر المصاديق؟ تتغيّر بسبب تغيّر صور الحياة. ويمكن أن نضرب مثالا: إذا كان مصداق العدالة في زمن ما هو التمييز بين المرأة والرجل وبين المسلم وغير المسلم، فذلك يعتبر راهنا مصداقا مناهضا للعدالة. والأمثلة كثيرة في هذا الإطار. إذاً، ما يمثله السلوك التاريخي والشريعة التاريخية من مصاديق للعدالة، هي ليست بالضرورة مصاديق للعدالة راهنا. فالعالم يتغيّر وبسرعة، والتطورات الحقوقية تضاهيها بالسرعة، فيما الفقه لا يزال يبحث – مثلا – في استمرار أو عدم استمرار التمييز في الديّة وفي استمرار أو عدم استمرار التمييز في الإرث وغيرهما من موضوعات قديمة عفا عليها الزمن. فالتغيّر الفقهي على هذه الشاكلة لا يستطيع ملاحقة السلحفاة فما بالك بالحداثة. وبذا يكون الفقه المرتبط بالدولة غير قادر على مجاراة تغيّرات الحياة، ولا يستطيع أن يتوافق مع الحقوق الحديثة، وبالتالي هو على بعد قرون زمنية مما تريده المرأة من حقوق ومما تراه لذاتها في البلدان الكافرة. فالفقه – مثلا – ليس في طريقه لرفض التشريعات التاريخية المناهضة لكرامة المرأة وحقوقها، في الرئاسة وفي تحصيل العلوم وفي الحياة الاجتماعية وفي العلاقة مع الزوج وفي تسيّد المناصب وفي ممارسة مختلف الأنشطة وغير ذلك من مسائل وقضايا. الواقع شيء والكلام غير المبني على معطيات حديثة شيء آخر.
يردّد البعض بأن كل نص يتعارض مع العقل لابد أن يرمى عرض الحائط. لكن من هو العقل المقصود هنا؟ وإلى أي حقبة يجب أن ينتمي؟
أتصوّر بأن النص، أي نص، يجب أن لا يتعارض مع عقل المرحلة الزمنية، فلكلّ زمن عقله وعقلانيته، وإذا تعارض معه فالغلبة لرأي العقل. فما بالك إذا كان هذا العقل هو العقل الحديث فيما النص هو النص القديم المنتمي إلى حقبة زمنية لا تنتمي ثقافيا ولا اجتماعيا إلى الزمن الحديث؟ كذلك لا بد من الإشارة هنا إلى نقطة مهمة تنتمي إلى الموضوع، وهي ضرورة وجود اتساق بين عناصر الموضوع العلمي، بمعنى عدم إمكانية حدوث تعاون علمي بين العقل القديم وبين العقل الحديث، أو بشكل أوضح بين علم الفقه الذي مبناه غير حديث وبين – مثلا – علم الاجتماع الحديث وعلم النفس الحديث وعلوم أخرى حديثة، وإذا ما حصل ذلك نكون قد أرغمنا العلم الحديث على التعاون مع العلم القديم لمجرد أنه لا يمكن تمرير المسألة العلمية الحديثة من دون توافقه مع الفقه وتوقيع الفقيه. لذا لا تستطيع المباني القديمة المؤسسة للعلم، أيّ علم، أن تكون قاعدة لاستخراج حلول علمية للمسائل والظروف الحديثة. مثلا: لا يمكن لمبنى يرى غير المسلم مجرّد إنسان من الدرجة الثانية، ثم أن نلجأ لهذا المبنى لوضع تصوّر أو لطرح رأي حول المواطنة والذي ينبني على تساوي الحقوق بين المسلم وغير المسلم في الحقوق. فإذا كانت المباني القديمة تحدّد القواعد والأصول، نكون ساهمنا في تحويلها راهنا إلى أيديولوجيا، أي سيكون المسلم ملزما بالأخذ بها حتى لو كانت غير متوافقة مع الواقع.
إن الفقه، الذي يحدّد صورة الدولة الدينية الفقهية، ليس إلاّ أيديولوجيا، ومبانيه التاريخية لا تمت بصلة للواقع، وتحوله إلى أيديولوجيا هو بمعنى تحوله إلى ناطق باسم السماء. وهنا تكمن الخطورة. فإذا أردنا نزع الأيديولوجيا عن الفقه علينا أن نعتبره شأناً نسبياً، مثله مثل مختلف الرؤى العلمية البشرية الأخرى. وهنا سنصطدم بمطابقة الفقه مع الواقع وقدرته على العيش فيه. فهو لا يمت للواقع وللحداثة بصلة. هو شأن تاريخي كان متماشيا مع شأنه الثقافي التاريخي. لذا سنظلم الفقه بل سنظلم الدين إذا اعتبرنا الفقه مرجعا للدولة في الحياة الراهنة.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي