في خطر “الهندسة المالية” ومشروع الموازنة على اللبنانيين

0

“ليس من المستحيل أن تبرهن، بالتكرار وبمعرفة نفسية الناس المعنيين، أن المربّع هو فعلاً دائرة”.

جوزف غوبلز، وزير البروباغندا لدى هتلر

تطورات الوضعين النقدي والمالي الناتجين تباعاً عن عمليات لمصرف لبنان وعمليات الموازنة تنذر بمخاطر كبيرة على الاستقرار الاقتصادي. يجب التنبّه لهذه المخاطر بدل تكرار الشعارات التي لا تستند إلى وقائع، ومواجهتها بإجراءات محددة، قليلة، وسريعة التأثير.

 

في “الهندسة المالية”


منذ الصيف الماضي يقوم مصرف لبنان بعمليات تُسمّى “هندسة مالية” بهدف مُعلن هو استجلاب ودائع بالدولار لديه، وهدف آخر غير معلن هو تعويض خسائر بضعة مصارف كبيرة نتجت عن عمليات لها في الخارج. وتمّت غالبية تلك الهندسة خلال شهر آب الماضي بحيث حسم مصرف لبنان، بسعر صفر بالمئة، سندات خزينة وشهادات إيداع بالليرة لصالح بضعة مصارف فقط. وقد دفع مصرف لبنان فوراً وبالكامل مبالغ إضافية بالليرة توازي حوالى 5 مليارات دولار هي فعلياً بمثابة هدية أو عمولة لأنها دُفعت بالإضافة إلى سعر السوق للسندات وشهادات الإيداع المحسومة.

إليكم الترجمة الحرفية لما قاله صندوق النقد الدولي عن هذه الهندسة في تقريره الأخير عن لبنان، المتوافر على صفحة الصندوق على الانترنت (صفحة 11): “لقد قُدّمت للمصارف حوافز كبيرة للمشاركة في العملية … إن حسم السندات وشهادات الإيداع بسعر صفر بالمئة شبيه بضخ رأسمال نقدي (من دون أي حصة في الرأسمال في المقابل … يوازي 10% من الناتج المحلي)”. أي أن مصرف لبنان أعطى أرباحاً للمصارف، من دون مقابل، تساوي بحسب أرقام الصندوق 5,2 مليارات دولار.

من أكثر الأمور استغراباً بالنسبة إلى تلك الهندسة موجة الدفاع عنها التي انبرت فجأة وبقوة من كل الجهات تقريباً: في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، ومن قِبل سياسيين، واختصاصيين، وحتى من أقلام لم تكتب يوماً عن تلك الأمور، وكل هذا من دون أي سند واقعي أو علمي. نود التذكير هنا بالإجراءات التي تتبعها كل المصارف المركزية حين يواجه مصرف تجاري صعوبات مالية أو نقصاً في الرأسمال أو الأموال الخاصة. بدايةً، يُطلب من أصحاب المصرف المساهمة بأموال إضافية من أموالهم الخاصة إذ إن المصرف مؤسسة تجارية بحتة تتمتع بالأرباح وعليها في الوقت نفسه تحمّل الخسائر من أموالها الخاصة وليس من الأموال العامة. وإذا تعذَر هذا الأمر، يُعطى عندئذ المصرف قرض مقابل ضمانات عينية، كما فعل مصرف لبنان في كل الحالات المشابهة في الماضي. وإذا تعذّر هذا الأمر أيضاً، يبقى الحل الأخير بضخ أموال نقدية من السلطة النقدية إنما مقابل حصة في رأسمال المصرف، كما أشار صندوق النقد الدولي في تقريره المذكور أعلاه، وليس كهبة. أما بالنسبة إلى مقولة إن ما قام به مصرف لبنان شبيه بما فعله المصرف المركزي الأميركي في عام 2008 إبان اندلاع أكبر أزمة مصرفية عرفها العالم، فهذا التشبيه في غير محلّه لأن المصرف المركزي الأميركي لم يعطِ المصارف شيئاً من دون مقابل بل أعطاهم قروضاً واشترى منهم أصولاً لكي يمدّهم بالسيولة، علماً أنه باع هذه لاحقاً وحقّق أرباحاً من جرائها.

أخيراً تجدر الإشارة في هذا السياق إلى هدف آخر تفوق أهميته لدى مصرف لبنان أهمية أي هدف آخر. فبالإضافة إلى دعم احتياطاته بالعملات الأجنبية ومساعدة بضعة مصارف في التعويض عن خسائرها، فإن مصرف لبنان بحاجة أيضاً إلى مبالغ متعاظمة من العملات الأجنبية لتسديد الفوائد الكبيرة على ديونه. نقدّر أن ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لديه تراوح حالياً بين 50 و55 مليار دولار، يدفع عليها فائدة سنوية بين 4% و7%، في حين تجني أمواله بالعملات المودعة في مصارف أجنبية حوالى 0,5% فقط كمعدّل فائدة. هذا الواقع يرتّب على مصرف لبنان أن يدفع كلفة فوائد صافية مقدارها حوالى 2,6 ملياري دولار سنوياً!

هذه نتيجة السياسة النقدية التي تقضي بدفع فوائد للمصارف أعلى بكثير من فوائد السوق، وقد أدّت تلك السياسة المتبعة منذ 15 عاماً على الأقل إلى تراكم خسائر مصرف لبنان وإدمان المصارف على إيداع أموالها لديه بدل استثمارها في الاقتصاد. ويتمثّل ذلك بأن 61% من موجودات المصارف هي ديون على الدولة اللبنانية بشكل ودائع في مصرف لبنان وسندات خزينة، في حين أن 25% فقط من تلك الموجودات هي قروض للقطاع الخاص. والخطر الكبير في تلك السياسة يكمن في ربط وضع المصارف ربطاً عضوياً بالوضع المالي لمصرف لبنان وللدولة عامة. لقد أصبحت مساءلة ومراجعة السياسة النقدية، وهذا أمر لم يحصل بتاتاً منذ ثمانينات القرن الماضي، ضرورة قصوى خصوصاً وأولاً لمصلحة المصارف اللبنانية نفسها، نظراً لأهميتها الاستراتيجية والمركزية بالنسبة للاقتصاد اللبناني.

في مشروع الموازنة
يعطي النقاش العام عادة أهمية خاصة لموضوع الضرائب، بالنسبة إلى حجمها وتوزيع عبئها على مختلف الطبقات الاجتماعية، وهذا أمر طبيعي. إلا أن الأمر الأهم يتعلق بوجهة النفقات التي تموّلها الضرائب. أتموّل الضرائب الجديدة نفقات استثمارية لتحسين البنية التحتية وإنتاجية الاقتصاد، كما يجب أن تفعل، أم تموّل نفقات جارية كرواتب وأجور وتحويلات عدة يخفي معظمها مساعدات لأسباب سياسية وشخصية، كما هي الحال في لبنان؟

خلال السنوات الـ 24 الماضية 1993-2016، كان مجموع النفقات الحكومية حوالى 210 مليار دولار منها الثلثان على الرواتب والأجور والفوائد على الدين، بشكل متوازٍ تقريباً بين البندين. أما النفقات الاستثمارية فلم تحظَ سوى بأقل من 9% من المجموع، بما فيها الهدر والتسربات المختلفة. لقد أصبحت الموازنات غالباً عمليات تمويل لتوظيف مناصرين وتابعين لسياسيين في مراكز عليا، وتمويل مشاريع تحمل منافع خاصة كبيرة، وتحويلات لمؤسسات خارج القطاع العام تخدم مصالح سياسية وخاصة. والأمور تزداد سوءاً إذا أضفنا المؤسسات العامة وشبه العامة، بدهاليزها وحساباتها المكتومة.

مشروع موازنة 2017 لا يختلف عن هذا النمط. ولا يسعنا الكلام عليه بدقة لأنه تغيّر كثيراً خلال مناقشته في مجلس الوزراء. إلا أن الواضح حتى الآن هو أن كلفة سلسلة الرواتب والأجور كما غالبية الضرائب التي وُضعت لتمويلها أصبحت خارج الموازنة، وأن مستوى العجز سيبقى بالرغم من هذا تقريباً على ما كان عليه في عام 2016، أي أقل بقليل من 5 مليارات دولار. إلا أن العجز الفعلي سوف يتخطى هذا الرقم بكثير ليصل إلى حوالى 6 مليارات دولار، وهذا حتى من دون كلفة السلسلة، نتيجة للعجز الإضافي شبه الدائم في عمليات الخزينة التي تتم خارج نطاق الموازنة.

كلمة أخيرة عن مشكلة أساسية في السلسلة لا يجرؤ مسؤول الكلام عليها، وهي متفرّعة عن مشكلة كبيرة في مجمل كلفة الرواتب والأجور. إن تحسين مستوى رواتب الأساتذة وغيرهم في القطاع العام مبرّر وضروري. لكن لكل موظف مستحقّ ثمة أكثر من موظف غير مستحقّ دخل جنّة الوزارات بوساطات سياسية، وغالبأً ما يفتقر إلى المؤهلات الضرورية ولا حاجة إدارية له. وإذا أضفنا إلى واقع تضخّم العمالة في القطاع العام تضخّم العجز في الموازنة بفعل تطبيق السلسلة يزداد آنذاك مجمل الوضع المالي تأزماً. ولم يشِر أي مسؤول حتى الآن إلى مسألة العجز المتنامي في مشروع الموازنة.

في الحل الآني
عندما يظهر دخان حريق، كما هو الحال في الوضع المالي والنقدي في لبنان، تكون الأولوية المطلقة لإخماد الحريق قبل انتشاره، مهما كان البناء متداعياً وبحاجة إلى الترميم.

نقترح إجراءين فقط للحدّ من مخاطر التدهور المالي والنقدي. أولاً، وبعد اتفاق الرؤساء الثلاثة، أن يفرض مجلس الوزراء سقفاً على عجز موازنة عام 2017 مقداره 4 مليارات دولار (أو سقفاً أدنى إذا أمكن)، يتبعه خفض تدريجي في العجز ﺑ 500 مليون دولار على الأقل كل عام، وذلك لبضع سنوات ومهما كانت الإجراءات الضرورية لتحقيق هذا الهدف. إن لتطبيق هكذا إجراء وقعاً قوياً وسريعاً على الأسواق المحلية والأجنبية إذ يظهر، وللمرة الأولى منذ سنين عديدة، جدية السلطات اللبنانية في إدارتها المالية وفي نيتها احتواء التدهور المالي. لن يشكّل هذا الإجراء حلاً لمشاكلنا المالية المتراكمة إنما سوف يخفّف من مخاطر الانهيار المالي ويعطي فترة سماح تمتد سنوات للقيام فعلاً بإصلاحات طال أمد تطبيقها.

ثانياً، يجب مساءلة مصرف لبنان عن سياسته النقدية، بما فيها هندسته المالية، بالأخص عن موجبات دفع تلك الفوائد الباهظة للمصارف والتي لا يمكن تبريرها بأي معيار مصرفي أو اقتصادي. والمستغرب وربما الفريد في الأمر أنه من طبيعة المصارف المركزية أن تقرِض المصارف في حين أن مصرف لبنان يقترض منها!

هي إجراءات محددة ويمكن تطبيقها بسرعة وفعالية لفرملة قطار التدهور المالي، وإلا فشدّوا الأحزمة.

gaspall5@cyberia.net.lb

(كاتب وخبير اقتصادي)

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.