اثنان ذكرا، وتذكّرا، فلسطين في وقت واحد. الأوّل خليفة الدواعش، والثاني رئيس وزراء تركيا الأردوغانية. قال الأوّل: “فلسطين التي ظن اليهود أننا نسيناها، كلا ما نسينا فلسطين”. وقال الثاني: لا ننسى غزة، وفلسطين، والقدس، والمسجد الأقصى، حتى في أحلامنا، فكيف في المفاوضات”. ذكر الأوّل، وتذكّر، فلسطين، بعدما ضاعت منه نصف الأراضي التي سيطر عليها قبل عام في العراق. وذكر الثاني، وتذكّر، فلسطين، بعدما ضاعت منه نصف أوراقه الرابحة في سورية.
وإذا كان في ضياع الأرض والأوراق ما يمثل خلفية لبعض ما أسهم في حل عقدة اللسان، وتنشيط الذاكرة، إلا أن الذكر والتذكّر يفتحان أكثر من قوس، ويستحقان أكثر من تعليق. فلنفكر، في الأمر، على النحو التالي:
نتخيّلُ بعض أنصار الدواعش في العالم العربي، والشرق الأوسط، وخارجه، (وبين هؤلاء ساسة، ودعاة، ورجال أعمال، وأصحاب مصارف، وشبكات تهريب، وتجّار بشر، ومخدرات، ونفط، وجهاد، وإعلام الرأي والرأي الآخر طبعاً، وسلاح) وقد أرسلوا الوسيط تلو الآخر إلى “أخيهم” أبي بكر لتذكيره بأن دولته ينبغي أن تكسب تعاطف العرب والمسلمين لتتمكن من البقاء، فأعمال القتل والسبي تُنفّر الناس، ولا بأس “يا أخي” من بعض التقية، فالحرب خدعة، وليس في العالمين ما هو أكثر قابلية للاستثمار في سوق السياسة والكياسة والرياسة والنخاسة من فلسطين.
ونتخيّلُ داود أوغلو يفكّر في إفساد الروس لما كان بين يديه من أوراق في سورية، صحيح يمكن أن يدميهم هناك، ولكنه لن يفعل ذلك دون الغطاء العسكري والسياسي من الناتو والأميركيين، وبراغماتية هؤلاء تجعل الرهان عليهم محفوفاً بالمخاطر، فالروس يمكن أن يُدمونه على أرضه، وأوراقهم كثيرة.
أوغلو هو المُنظّر، والمثقف، وصاحب الاستراتيجية، بينما أردوغان الوجه الشعبوي للإسلام السياسي التركي، ومشروعه العثماني الجديد. لذا، نتخيّله مفكراً على النحو التالي: السياسي الشاطر لا يرمي ما بين يديه من أوراق إذا أصابها البلل، وينبغي إعادة التموضع، وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل فقد أصبحت حليفاً في الباطن لعدد من أصدقاء تركيا العرب، خاصة بعد اتفاق إيران النووي مع الغرب، ولم يعد ثمة ما يبرر توتير العلاقات مع الإسرائيليين.
هذا لا يعني التفريط في ورقة الإخوان، والإسلام السياسي عموماً، فكلاهما جسر العثمانية الجديدة إلى العالم العربي، لأسباب داخلية وخارجية، سياسية، وثقافية، وعاطفية، واستراتيجية، وليس في العالمين ما هو أكثر قابلية للاستثمار في سوق السياسة والكياسة والرياسة والنخاسة من فلسطين. ومع هذا وذاك، لا بأس من حماس في غزة شوكة في خاصرة مصر، وورقة توت في مفاوضات التطبيع مع إسرائيل.
يمثل كل ما تقدّم جانباً مما استدعاه كلام الأوّل والثاني من تعليق محتمل. ومع ذلك، ليس فيه ما يغلق القوس بعد. ففي مناسبات كثيرة يكرر أشخاص في معرض التعريض بالدواعش “إنهم لم يهاجموا إسرائيل، بل قتلوا من المسلمين أكثر مما قتلوا من الإسرائيليين”. والسؤال: هل يصبح قبول الدواعش، ومن هم على شاكلتهم، ممكناً إذا هاجموا إسرائيل؟
وفي هذا الصدد ينبغي أن يكون الجواب لا بملء الفم. فحتى لو انهمرت صواريخ الدواعش على إسرائيل، صباح مساء، لا يمكن، ولا يحق لعاقل، أن يمنح هؤلاء صك البراءة، أو أن يتجاهل وحشيتهم وأيديولوجيتهم المعادية للحياة. والواقع أن مجرد التساؤل بشأن موقف الدواعش من إسرائيل يدل على مدى ما أصاب المسألة الفلسطينية من بوار بالمعنى الأخلاقي والسياسي والإنساني. وهذا البوار، للأسف، ليس جديداً. فنظام آل الأسد، الذي ارتكب أكبر وأخطر جريمة في تاريخ العرب الحديث يبرر وجوده في سدة الحكم، وما ارتكب من جرائم، باسم المقاومة والممانعة والعداء لإسرائيل. وقد سبقه في هذا صدّام حسين، الذي دمّر بلداً غنياً وقوياً في سلسة مغامرات دموية فاشلة باسم فلسطين.
وحتى إذا تجاهلنا البعد الأخلاقي، والإنساني، واكتفينا بالجانب العملي، استناداً إلى فرضية أن الغاية تبرر الوسيلة، فلنقل إن في مجرد وجود الدواعش، ومن هم على شاكلتهم، وصفة مضمونة لتمكين الإسرائيليين من مطاردة وطرد الفلسطينيين من التاريخ والجغرافيا معاً.
ولنقل أكثر من هذا: المسألة الفلسطينية، كانت ولا تزال، قضية تحرر وطني. وبهذا المعنى لا يقاوم الفلسطينيون إسرائيل لأنها يهودية، بل لأنها كينونة كولونيالية، بصرف النظر عن الهوية الدينية لمواطنيها. لم تكن الأمور، دائماً، على هذا القدر من الوضوح. وهذا القدر من الوضوح هو ما يحاول الدواعش، وأمثالهم، شطبه من وعي الفلسطينيين والعرب ومخيالهم السياسي.
أخيراً، نصل إلى مسألة الشوكة في خاصرة مصر، وورقة توت العثمانية الجديدة. فقد طرح الأتراك على الإسرائيليين إمكانية الحصول على تسهيلات معيّنة في غزة على طاولة المفاوضات لتطبيع العلاقات، وذلك لنجدة حماس، والتموضع على الحدود المصرية، كما فعلوا على الحدود السورية والعراقية، مع فارق أن الجغرافيا، هنا، ليست في مصلحتهم هذه المرّة، ومع ملاحظة أن هذا الطلب يمثل محاولة لتأبيد حكم الإخوان المسلمين في غزة، بالتراضي مع إسرائيل.
هذه ثمرة كستناء كبيرة وساخنة. أوغلو كتب كتاباً في عدة مئات من الصفحات عن المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ولم يبرهن، في الواقع، لا في العراق ولا سورية، على أنه قارئ جيد حتى لما خطه قلمه، ولن يكون نصيبه في فلسطين أفضل من نصيبه في سورية، ولكن غزة قد تدفع ثمناً باهظاً لا يبلغ، بالضرورة، ما دفعه السوريون، ولكنه يظل باهظاً في كل الأحوال. وهذا كل ما يمكن أن يقال، الآن، عن الخليفة، ووكيل السلطان.
khaderhas1@hotmail.com
- كاتب فلسطيني