(الصورة: طلبة فلسطينيون وإسرائيليون في حيفا في مؤتمر للطلبة)
بين عامي 1994 و1995 اتيحت لي فرصة لم تتح لكثير من الكتاب العرب أو الإسرائيليين! فقد عشت في قطاع غزة، وتنقلت بين كل مدن فلسطين وإسرائيل خلال تلك الفترة، وكانت معيشة عمل ومعاشرة حقيقية بين الناس.لم تكن زيارة يومين لعمل تحقيق صحفي لجهة معينة، ولم تكن زيارة لموظف الإغاثة بمنظمة الأمم المتحدة، ولم تكن زيارة رسمية من ضابط مخابرات مصري للالتقاء بزعماء « حماس » لوقف إطلاق النار مع إسرائيل!
ولكنها كانت زيارة مهندس مدير مشروع لبناء مجمع سكني في معسكر « جباليا » بقطاع غزة. لذلك اتيحت لي فرصة التعامل مع الناس البسطاء ابتداء من العامل الذي يقوم بتنظيف موقع المشروع وانتهاء بالرئيس ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية، مرورا بمسؤول الخارجية الأمريكية المسؤول عن برنامج المعونة الأمريكية المموِّلة للمشروع،
ولم تكن لدي نية على الإطلاق لكتابة كتاب عن مذكراتي في تلك الفترة، بدليل أني لم أكتب تلك الذكريات إلا بعد مرور أكثر من ربع قرن على حدوثها. واعتمدت في الكتابة على الذاكرة غير المدوّنة، وأيضا على ذاكرة بعض الزملاء والأصدقاء الذين عملوا معي في مشروع غزة. والسبب الأساسي الذي دعاني لكتابة تلك الذكريات هو حرصي على إقرار السلام. لأني رأيت أنه بالرغم من مبادرة الرئيس السادات للسلام عام 1977 عندما زار القدس وتوقيع معاهدة كامب دافيد عام 1979 بين مصر وإسرائيل، وبالرغم من توقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994، وبالرغم من توقيع معاهدة أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل عام 1993، وبالرغم من اعتراف بعض البلاد العربية مؤخرا بإسرائيل وتبادل السفراء معها، إلا أني أرى أن السلام لا يزال بعيداً! وفي رأيي أن السلام الحقيقي لن يحدث إلا عند انتهاء حالة الكراهية المتبادلة بين العرب واليهود!
فلن يكون هناك سلام أبداً مازالت تلك الكراهية متأصلة وموجودة ولا نزال نرضعها لأطفالنا، من جانب المتطرفين من الجانبين! ولقد رأيت السلام والتعامل الإنساني متواجداً بين أفراد الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي في حيفا ويافا والقدس! وفي نفس الوقت لا يزال هناك توتر في الخليل ونابلس بسبب المستوطنات الإسرائيلية، وأنا لست هنا بقادر على وضع حل للمشكلة الفلسطينية-الإسرائيلية التي بدأت منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر (كان غيري أشطر)!!
ولكني هنا أحاول أن أصف مشاهداتي التي بعثت في نفسي الأمل بإمكانية أن يتعايش الشعبان على أرض واحدة هي أرض فلسطين التاريخية! وبادئ ذي بدء، يجب أن يتخلى الفلسطينيون المتطرفون عن فكرة إلقاء اليهود في البحر، وأن يتخلى الإسرائيليون المتطرفون عن استمرار احتلالهم وقمعهم للشعب الفلسطيني، والتخلي عن فكرة إبعادهم للصحراء سواء صحراء سيناء أو صحراء شرق الأردن.
ومن ملاحظاتي وجدت أن هناك اختلافا كبيرا بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي! اختلاف واضح في الديانة (وذلك بالرغم من أن كثيرا من تعاليم الديانة الإسلامية أقرب إلى الديانة اليهودية منها للمسيحية)! وجدت أيضا اختلافا كبيرا في طريقة التفكير: معظم الإسرائيليين (وخاصة من يسيطرون على السياسة والاقتصاد) جاءوا من أصول أوروبية وفكرهم يعتمد على التحليل العلمي والمنطق والواقعية والقوة، بينما معظم الفلسطينيون فكرهم يعتمد على العاطفة والرومانسية والأحلام والحق والأصولية الدينية!
وقد لاحظت أن التعامل مع التاجر الإسرائيلي صعب للغاية قبل توقيع العقد لأنه يود أن يحصل على حقه وأكثر! لكن، بعد التوقيع على العقد، يحترم توقيعه. ولاحظت أن التاجر الفلسطيني أسهل كثيرا في التعامل قبل التوقيع على العقد، ولكن بعد ذلك “أنت وحظك“، أذا سارت الأمور بسلالة فتجده يحترم توقيعه، ولكن إذا لم “تأت الرياح بما لم تشته السفن“، فتجده يحاول التملص من توقيعه بشتى الطرق والكباريّ!!
وبسبب مسألة صعوبة التعاقد وكتابة العقود تجد أن كثيرا من محامي التعاقد والشركات حول العالم من اليهود. وأيضا، بسبب الصدق في التعامل، تجد اليهود حول العالم يسيطرون على البنوك وشركات التأمين، لأنك لن تضع أموالك في بنك يملكه يهودي إلا أذا كنت متأكدا من صدق تعامله! والحقيقة أنه هناك سببا تاريخيا لذلك، لأن اليهود كان ولا بد لهم أن يشكوا ويتشككوا كثيرا قبل التعاقد لأن اليهود طوال تاريخهم كانوا ولا يزالوا أقلية في البلاد التي عاشوا فيها، وفي كثير من الأحيان، كانوا أقلية مضطهدة. ولذلك، وبطبيعة الحال، كانوا يشكون في الأغلبية حولهم! وأيضاً، باعتقاد اليهود الديني بأنهم “شعب الله المختار” رسخت لديهم فكرة أن الأغلبية تضطهدهم لأنهم متفوقون عليهم بإشعار أو إعلان إلهي! وفي الوقت نفسه، كان ولا بد لهم أن يصدقوا في التعامل مع الأغلبية التي تسيء معاملتهم! لذلك، فليس لديهم خيار آخر سوى الصدق في التعامل وإلا سوف يذهبوا في “ستين داهية“!
وجدت أن الفلسطيني يفتح صدره وبيته للغريب بكرم شديد، حتى لو جاء هذا على حساب أولاده، بينما الإسرائيلي يحسب حساب كل شيء ولن يستضيفك على حساب أسرته. والنكت عن البخل اليهودي مثل كل النكت التي تقال عن مجموعة معينة من البشر (مثل النكت التي تقال في مصر عن بخل سكان دمياط أو عن سذاجة الصعايدة أو عن غباء الشقراوات في أمريكا) لا بد وأن يكون لها أساس في الواقع.
وجدت أن الإسرائيليين أكثر انضباطا في الشارع من حيث احترام المرور، والسير على الأرصفة وعدم إشغال الأرصفة بكل أنواع التجارة غير القانونية. ولم أجد هذا الانضباط في غزة أو الضفة الغربية، ولكنث وجدته في القدس الغربية وحتى الشرقية! ولما سألت عن سر الانضباط في القدس الشرقية قال لي بعض سكان القدس العرب بأن القدس الشرقية أكثر انضباطا بعد أن تم ضمها إلى إسرائيل!!
لاحظت في غزة أن كل البنات والسيدات وحتى الأطفال البنات من سن السادسة يرتدون الحجاب أو النقاب، حتى المسيحيات تم اجبارهم على ارتداء الحجاب، وفي إسرائيل السيدات متحررات جدا في الملابس باستثناء قلة من اليهود المتطرفين تجد نساؤهن يغطون الشعر ويرتدون ملابس طويلة وأكمام طويلة.
وقد لاحظت أيضا بأن اللياقة البدنية ورشاقة الفتيات في إسرائيل عالية جدا بشكل ملحوظ حتى بالمقاييس الغربية، وعندما سألت عن السبب قيل لي أن السبب هو كل الفتيات في إسرائيل يتم تجنيدهن في سن الثامنة عشرة في الجيش الإسرائيلي ويخضعن لتدريبات لياقة عالية لمدة سنتين. ولذلك عندما يتركن التجنيد تكون لديهن تلك اللياقة العالية. ولكني لم أشاهد جمالا نسائيا لافتا للنظر (إلا فيما ندر) سواء في غزة أو في إسرائيل!
ولاحظت أن سيدات غزة إما حوامل أو تقمن بإرضاع طفل وفي يدهن طفل آخر، وأمامهن زوج وفي كل يد طفل وعلى كتفه طفل آخر!
فالوضع الطبيعي لدى معظم أهل غزة أن يكون لدى الأسرة من خمسة إلى سبعة أطفال، ووجدت بعض الأسر لديها عشرة أو دستة أولاد وبنات. وكل هذا يضع ضغطا شديداً على الخدمات التعليمية والصحية وغيرها، وكلمة تحديد النسل أو حتى تنظيمه غير واردة في قاموس الإسلام السياسي، سواء في غزة أو خارجها. ولذلك تجد أطفالا كثيرة (تتكعبل فيهم) في كل مكان تذهب إليه في غزة. أما في إسرائيل فلا تجد أطفالا كثيرة إلا إذا ذهبت إلى بعض مناطق اليهود المتطرفين في القدس الغربية، فهم أيضا لا يؤمنون بتنظيم النسل.
أماكن الترفيه في غزة تكاد تكون معدومة، فلا يوجد سوى المقاهي. وشاهدت بنفسي آثار احتراق آخر دار سينما في غزة لأن السينما “حرام“! لم يكن لدينا أي وسيلة للترفيه عندما عشنا في غزة سوى شاطئ البحر المتوسط في الصيف أو نذهب إلى عسقلان (أشكلون) في إسرائيل.
وهناك فرق شاسع بين مستوى معيشة أهل غزة ومستوى معيشة أهل إسرائيل. وهذا الفرق الكبير هو فرق مؤسف وخطير ويتحمل مسؤوليته الطرفان. وهذا الفرق في مستوى المعيشة تجده خاصة في مجالات خدمات التعليم والصحة والمواصلات والترفيه والأبحاث. فإسرائيل لديها سبع جامعات من أفضل الجامعات ليس فقط في المنطقة، ولكن على مستوى العالم. وإسرائيل تحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم في أعلى نسب الصرف على التعليم كنسبة من الدخل القومي. لذلك ليس مستغربا بأن لدى إسرائيل أفضل مراكز أبحاث على مستوى المنطقة. ولدى إسرائيل (البالغ تعدادها تسعة ملايين نسمة، بما فيهم مليونا عربي) أربعة علماء حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء وعالمان حصلا على جائزة نوبل في الاقتصاد، وكل العرب البالغ عددهم 360 مليون نسمة لم يحصلوا على أي جائزة نوبل في العلوم، حتى العالم المصري الراحل أحمد زويل لم يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء إلا بعد أن عاش في أمريكا وقام بأبحاثه هناك.
ولا بد أن أذكر تلك الأرقام والمعلومات حتى أثير غيرة كل العرب وأقول لهم “بطلوا تعيشوا عالة على العالم” افعلوا شيئا … قدموا شيئا للعالم!
…
وبالرغم من الفوارق الفكرية والحضارية والاجتماعية والدينية والاقتصادية بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا أنه تجمع بينهم أشياء عديدة منها على سبيل المثال:
أولا: سواء أرادوا أم رفضوا، فإنه تجمهم أرض واحدة هي أرض فلسطين التاريخية من نهر الأردن شرقا وحتى البحر المتوسط غربا، ومن مصر جنوبا وحتى لبنان وسوريا شمالا، ويجب أن يتعلموا من الناس في حيفا ويافا والقدس كيفية التعايش في سلام.
ثانيا: يجمعهم التاريخ المشترك, فكل العرب واليهود هم من الجنس السامي. ومن الاتهامات المضحكة للعرب أحيانا من جانب بعض اليهود أن العرب معادون للسامية، وكلنا سواء يهود أو عرب ننتمي للسامية.
ثالثا: المسلمون والمسيحيون يحترمون كل أنبياء بني إسرائيل. فتجد المسيحيين يؤمنون بالعهد القديم، والمسلمين يؤمنون بكل أنبياء اليهود إبراهيم وسليمان وداوود ويعقوب وموسى، لذلك فالفارق الديني ليس بالفارق المخيف.
رابعا: في الديانة اليهودية تقاليد وطقوس وواجبات تشبه إلى حد كبير الديانة الإسلامية: عدم أكل لحم الخنزير، تربية اللحى، تغطية الرأس، الصوم، الصلاة تجاه القدس، ختان الذكور وغيرها.
خامسا: رقصة “الدبكة” الفلسطينية تشبه كثيرا رقصة “الهورا” الإسرائيلية اليهودية وكلاهما من أصول بلقانية (من بلاد البلقان) وانتشرت تلك الرقصة بتنوعات مختلفة في بلاد الشام واليونان وروسيا وأوكرانيا وغيرها.
سادسا: الأكلات الشعبية تتشابه في إسرائيل وفلسطين، فأكلات الفلافل والحمص والثومية وغيرها تجدها في المطاعم الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء. وإسرائيل تدعي بأن الحمص والفلافل هي أكلات يهودية. والمصريون يعتقدون أن الفلافل (الطعمية) هي أكلة مصرية صميمة، وأنا أعتقد أن الفلافل أكلة مصرية قبطية صميمة! وحسب ما جاء في الإنترنت فإنه: ” تعتبر الطعمية جزءاً لا يتجزأ من مطبخ مصر وتاريخها عتيق حيث انها طعام الأقباط في العصور القديمة كوجبة صيام نباتية خالية من أي لحوم. وفي الإسكندرية أول من أطلقوا عليها اسم فا–لا فل وهي كلمة قبطية تعني “ذات الفول الكثير”. وتعد الطبق الرئيسي لوجبة الإفطار في الصباح لدي الملايين، وطبقاً رئيسياً في طعام نسبة لا يستهان بها من المصريين على مدار اليوم وذلك لما للطعمية من صلة وثيقة بطبق الفول في الأيام العادية.” والشوام بصفة عامة يؤمنون بأن الحمص تخصص شامي. وعلى أي الأحوال، فإن الفلافل والحمص أصبحا من الأكلات النباتية العالمية. وطعاما أساسيا في إسرائيل وفلسطين.
سابعا: يجمعهم جميعا الأخوة في الإنسانية من حيث محبة الخير وكراهية الشر والاهتمام بالعائلة والرغبة في الحياة بسلام وأمن ونبذ الحروب، حتى الجنود في الجيوش (داخليا) ترفض الحرب ويذهبون للحرب مرغمين. أذكر في أيام حرب أكتوبر 1973 وعندما تم الاتفاق على وقف إطلاق النار في 24 أكتوبر، كان الجنود المصريون والإسرائيليون على طرفي الجبهة يرقصون فرحا بوقف الحرب، ولقد شاهدت هذا بنفسي.
…
ولتحقيق السلام يجب أن يتنازل كل طرف عن جزء من مطالبه للوصول إلى حل وسط، وارواح شباب مثل الورود وأبرياء مدنيين أثمن كثيرا من أي قطعة أرض أو من أي مستوطنة، ولا يعرف معنى فقد جندي في مقتبل الشباب إلا من جربه ورآه بعينيه.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الثانية والعشرون، العلاج في مستشفى « هداسا » بالقدس