استعاد الغرب بعض خيوط اللعبة السورية، ولم تعد موسكو تمسك لوحدها بزمام المبادرة. لكن الأهم سيبقى في التشكل الحاسم لميزان القوى الإقليمي كي تتكشف آفاق رسم خارطة سوريا المستقبلية في سياق إعادة تركيب الإقليم.
تحولت سوريا بعد سبع سنوات من اندلاع الاحتجاجات ضد المنظومة الحاكمة، إلى ساحة تتواجه فيها مجموعة من القوى الإقليمية والعالمية بشكل مباشر أو بالوكالة في عدة حروب ضمن الحرب، وتأتي الضربة الغربية الثلاثية التي جرت في 14 أبريل محدودة في حجمها العسكري ومهمة في بعدها السياسي لأنها تكشف حجم التعقيدات والمصالح.
لكن هذا المنعطف يبقى رمزيا لأنه لم يعدّل في ميزان القوى العسكري ويفتح الباب على مواجهات ومعارك أخرى أبرزها الحرب بين إيران وإسرائيل التي سترسم ربما الصورة النهائية لمناطق النفوذ أو لإعادة تركيب سوريا والمشرق.
اقتصرت الضربة الأميركية الفرنسية البريطانية على استهداف البنية التحتية للسلاح الكيمياوي للنظام، وكأنها تنطوي على استمرار التسليم باستخدام الحلف الروسي- الإيراني- السوري كل أسلحة الفتك الأخرى، والسماح باستمرار التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي عبر اقتلاع مئات الآلاف من السوريين ونقلهم إلى الشمال السوري حيث هناك تخوف من تحضير لمقتلة كبرى في إدلب وريفي حلب وحماة.
وكما استخدمت روسيا الساحة السورية كميدان لتجربة أسلحتها والترويج لمبيعاتها، أرادت القوى الغربية إثبات تفوقها واستعراض صواريخها المجنحة والذكية، ولم يكن الهجوم قادرا على البدء في تعديل ميزان القوى، بل على توجيه رسائل سياسية في عدة اتجاهات باستثناء رسالة الواجب الإنساني المنسي في حماية المدنيين والمسؤولية السياسية في تمييع جهود الحل السياسي.
أتت الضربة المحدودة لتؤكد على ضبابية وعدم بلورة استراتيجية متكاملة، ولذا لم تكن الضربة إلا لتأكيد الحضور واحترام الخطوط الحمر إزاء استخدام مفترض لسلاح محرم نظريا منذ الحرب العالمية الأولى، وكانت خلاصة الحد الأدنى من التفاهمات الغربية التي لا تريد الصدام مع موسكو لكنها لا تقبل التحكم الروسي المنفرد بالورقة السورية وبإدارة روسيا لتقاطعات التحكم وخصوصا تقاسمها العمل مع طهران.
وإذا أضفنا إلى الغارة الصاروخية الضربة الإسرائيلية ضد الحرس الثوري الإيراني في مطار تيفور في التاسع من أبريل، نستخلص المزيد من الاحتدام وفتح الأفق أمام مرحلة تصفية الحروب السورية التي لها تواصل مع حرب اليمن والتوازنات الإقليمية والدولية، وتجعل من هذه المنطقة أكثر مناطق العالم خطورة مع تراجع التصعيد في المسألة الكورية.
بعد الحسم العسكري من قبل محور النظام في الغوطة الشرقية ومحيط دمشق، تتجه الأنظار نحو درعا وإدلب، وكان كلام علي ولايتي مستشار المرشد الإيراني للشؤون السياسية واضحا في تحديد ورقة الطريق عبر التحضير لمعركة إدلب وطرد الأميركان من شمال وشرق الفرات. تتصل معركة درعا مركز انطلاق الحراك الثوري بالمصالح الأمنية لكل من الأردن وإسرائيل، خاصة بعد عدم احترام الاتفاق الأميركي- الروسي حيال منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري الموقع في يوليو 2017 والذي اعترضه استمرار التغلغل الإيراني في الجنوب السوري وقرب قطاع الجولان.
أما معركة محافظة إدلب وجوارها التي تعتبر المعقل الأهم للمعارضات السورية المسلحة والتي تمثل كثافة سكانية تصل إلى حدود أربعة ملايين نسمة، فتمثل اختبارا لديمومة اتفاقية أستانة ولقدرة الجانب التركي على إدارة الوضع هناك، إن بالتفاهم مع الروس حول مستقبل تنظيم النصرة، وإن بعدم الصدام مع المحور الإيراني خاصة بعد “الحلف المقدس” ضد الأكراد.
ثالث الحروب السورية المرتسمة في الأفق تشمل شمال وشرق الفرات، أي المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من حوالي ثلاثة آلاف جندي أميركي (ومئات الجنود من حلف شمال الأطلسي) وقواعد تمتد من منبج والرميلان إلى التنف حيث المثلث الحدودي الأردني- العراقي- السوري.
وهكذا يشكل الوجود الأميركي على حوالي ثلث مساحة سوريا في مناطق غنية بموارد الطاقة تماسا استراتيجيا مع تركيا ونقطة مراقبة لتواصل الطريق الإيرانية عبر العراق إلى سوريا ولبنان، وما يعنيه ذلك لإسرائيل.
من هنا يأتي الكلام عن برمجة الانسحاب الأميركي على ضوء تصريحات الرئيس دونالد ترامب تعبيرا عن التخبط الاستراتيجي الأميركي وغطاء لاستدراج التمويل والحضور الحليف. لكن ذلك لن يؤثر على قرار المؤسسات الأميركية في البقاء على مدى متوسط، وكلام ترامب يذكّر مثلا بكلام الرئيس السابق باراك أوباما عن إغلاق معسكر غوانتانامو والذي لا يزال مفتوحا بعد تركه البيت الأبيض.
يمكن أن تخشى واشنطن من استعداد إيراني لاستهداف هذا الوجود الأميركي كما ورد في برقية أبلغتها وزارة الدفاع الروسية لغرفة العمليات العسكرية الأميركية في سوريا وقالت فيها إنها “لا تستطيع توفير أي غطاء لأي قوات أميركية داخل الأراضي السورية خصوصا في حال الرد عليها أو مهاجمتها من قبل قوات إيرانية تحديدا”.
وبالفعل فإن هذا التلميح فيه تهويل أو ابتزاز ولكنه يبرز سعيا لتكريس الأمر الواقع وتقاسم مناطق النفوذ، حيث تسيطر تركيا في بعض الشمال شرق نهر العاصي وتدعم أميركا الأكراد في شرق الفرات وتتقاسم روسيا وإيران والنظام مناطق “سوريا المفيدة”، وتبقى منطقة الجنوب السوري والبادية محور تجاذبات رسم حدودها على ضوء تناقض المصالح بين إسرائيل وطهران.
لا شك أن قرار دونالد ترامب بخصوص الاتفاق النووي الإيراني المفترض اتخاذه قبل 12 مايو، سيكون له الأثر الكبير في تحديد المسارات وتموضع اللاعبين وتعجّل أو تؤخر الصدام الإيراني- الإسرائيلي. لكن ذلك يكشف حجم مأزق الرئيس فلاديمير بوتين الذي يريد الحفاظ على النظام وإيران معا في تركيبته للسيطرة على القرار السوري، لكن تفاعلات ما بعد الضربة الثلاثية والقرار الإسرائيلي بمنع الوجود الإيراني في سوريا ستضع الإنجازات الروسية في الميزان.
تقرع طبول الحرب في الأسابيع أو الأشهر القادمة تبعا لكلام الحرس الثوري الإيراني عن الرد الحتمي على ضربة مطار تيفور وعن الاعتداد بوجوده في شرق المتوسط وشمال البحر الأحمر، والاستعدادات الإسرائيلية للانخراط في رسم الصورة النهائية لسوريا التي يمكن أن “لا تبقى حدودها كما هي” حسب قول سيرجي لافروف.
هكذا يدخل في العمق الاستراتيجي للصراع الإيراني الإسرائيلي بلورة المواقف الحاسمة لواشنطن وموسكو، وتصل الخشية عند أوساط أوروبية من مخاطر نزاع عالمي بسبب حرب إقليمية محتملة.
لكن مراقبة احترام القوى الكبرى للخطوط الحمر بين بعضها البعض، وأهمية حفاظ بوتين على مكسبه باستعادة النفوذ الدولي من خلال الساحة السورية، تدفع للاعتقاد أن التماسك الاستراتيجي بين روسيا وإيران لن يصمد، وأن تأهيل النظام السوري الذي عملت من أجله موسكو سقط على ضوء تداعيات معركة الغوطة الشرقية.
في مواجهة “الرسالة الكيمياوية” ردت باريس وواشنطن سياسيا بتشكيل حلف أميركي أوروبي مضاد، وعسكريا بإظهار الروس بمظهر “العاجز” عن حماية بشار الأسد طويلا، ما اضطر الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا للقول إن بشار حليف للغرب أكثر منه صديقا للروس.
استعاد الغرب بعض خيوط اللعبة السورية، ولم تعد موسكو تمسك لوحدها بزمام المبادرة. لكن الأهم سيبقى في التشكل الحاسم لميزان القوى الإقليمي كي تتكشف آفاق رسم خارطة سوريا المستقبلية في سياق إعادة تركيب الإقليم.
khattarwahid@yahoo.fr