يبادرني محدثي العائش في الولايات المتحدة عبر السكايب، قبل نهاية العام الماضي، بما يفسد بهجتي بلقائه افتراضياً: “الحرب العالمية سوف تندلع. أنا متأكد من ذلك. ليست تعقيدات الشرق الأوسط فقط… الأزمة الاقتصادية أيضا… تعلمين، تاريخياً… أزمة اقتصاد ثم حروب…”.
يتابع على هذا المنوال، مضيفاً سوريا… محيطها… الصراع الدولي حولها… حتى يتوقف عن الكلام. كأنه يتذكر شيئاً وخَزه. ثم يقول بخوف واثق: “ولكن لا تنسي الواحد والعشرين من كانون الثاني المقبل…”.
ماذا؟ لماذ؟
“انه الوقت الذي ينتظره العالم بأسره. انه موعد نهاية العالم”.
أنا: “آه… أعرفه هذا التاريخ، قرأت عنه من دون مبالاة كثيرة. تاريخ وحسابات فلكية لدى المايا، أو الأزتيك، أليس كذلك؟ “.
نعم نعم.
“الكثيرون هنا في بوسطن ينتظرون هذا اليوم بخوف. يتكلمون ليل نهار عنه في الاذاعات، فيما بينهم، في سهراتهم…”.
وهو يستفيض في هذه اليوميات الأميركية، أتذكر أشياء، عن مجموعات من الناس سكنت منذ الآن في مغارات سحيقة، موزعة هنا وهناك في أنحاء الأرض، ومعها كل حاجيات الحياة. مغارات محددة، واحدة منها في تركيا، تؤمن هذه المجموعات بأنها تنقذها من نهاية العالم. أصغي اليه ثم أعود فأشرد في روايات قرأتها عن نهاية العالم، في أفلام شاهدتها. ولا صورة واحدة تشبه الأخرى. مرة حريق كوني، مرة أخرى كوكب عملاق يصطدم بأرضنا، أو فضائيون يغزوننا ويدمروننا، أو طوفان، أو إنفجار، أو شتاء من الأسيد، أو نضوب الشمس وحلول الصقيع… كل هذا مثل موسيقى تصويرية لإسترسال محدّثي، لحماسته في التأكيد على خطورة الحادي والعشرين من كانون الثاني المقبل… يزداد الأدرنالين في دمي. لكنني لا أحمله:
“لا تذهب بعيدا يا عزيزي. فقط تذكر كم خفنا قبل ان يحلّ علينا العام 2000… عن نهاية ألفية وبداية ألفية جديدة…. وعن نهاية، أيضاً، لعالمنا. حينها لم نترك رعباً لم نطرقه. ولا تنسى أن في ليلة رأس سنة ذاك العام، تبخر كل شي، ورقصنا ونسينا، حتى الالفية الثانية… ولم يحصل شيئ!”.
“صحيح… ولكن….” أجابني…
هكذا، حتى مرّ التاريخ المحدّد لنهاية العالم، ولم يتغير شيئ في نظام الأرض، أو بالأحرى تغير، ولكن بخطى غير ملحوظة، غير مرئية.
ما من حضارة، ما من ديانة، ما من حقبة إلا ولها نهاية عالمها، أو يوم قيامتها من بين الأموات. من بابل، الى نوح… ثم انهيار الامبراطورية الرومانية التي أعقبها مئة وثلاثة وثمانون إعلان عن نهاية العالم، فالألفية الأولى والثانية. والغريب ان أوروبا في القرن الثامن عشر، أي في عزّ نهوضها الصناعي والديموقراطي، وهي تبني أممها ودولها، وتعِد نفسها بالإستعمار، عرفت العشرات من النبؤات بنهاية العالم…
وبعد التحقّق، كل مرة، من أكذوبة نهاية العالم، يكون السؤال: ألم تتعلم كل هذه الأجيال… ألم تمكنها ابداعاتها واختراعاتها من تخليصها من فكرة نهاية العالم؟ ألم تلاحظ انها، أي الفكرة، من اختراعها المحض؟ حسنا، لم تتعلم. تعلمت التنقل جوا وبرا وبحرا، تعلمت التكنولوجيا والفضاء وكل ما شبه. لكنها بقيت مصرة على تحديد مواعيد لنهايات العالم؛ معبرة كل مرة عن حاجة ملحة الى… الخوف من نهاية العالم. مصدر هذه الحاجة هو، ربما، الرغبة الدفينة بطرد الخوف. الخوف من الموت الذي يلازم كل انسان مدرك. نحن اذا امام معضلة روحية وجودية: من أجل ان نعيش، نحتاج الى ان نشعر بالخلود. ولكن من دون ان ننسى لحظة واحدة بأننا زائلون. فنخاف. وعندما نخاف، نحتاج الى ما يقاوم هذا الخوف. وافضل مقاومة هي مواجهته، على ما رسخ في آلياتنا الروحية والنفسية. انها واحدة من أوجه لعبتنا مع الموت. ولكنها ليست الأكثر تراجيدية. نحن نمسرح خوفنا، كأننا مؤمنون برسالته، نرفع له الخشبة، نتمثله. ونعامله معاملة الانتاج الهوليودي، أو أفلام الرعب والفظاعات. ولكننا نتابع حياتنا، نقيم المشاريع والخطط، نتأنق، نتجمّل… كل هذا مفارقة شاسعة، ممتدة على الاجيال، نصدق خوفنا ونكذبه في آن.
وتكذيب تواريخ نهاية العالم، مثل مرورها من دون حصولها، لا ينهي فكرتها، كما تبيّن. في العالم 1954، في ولاية منيابوليس الاميركية، يسمع العالم الاميركي ليون فوسيتجير، بأن مجموعة دينية صغيرة حدّدت موعداً لنهاية العالم، نقلته اليها كائنات فضائية، وبأن كل الذين ينضمون اليها سوف ينجون بعد هذه النهاية. فقرر العالم الاميركي دراسة هذه المجموعة، مع فريقه، وقد تسلل بعضهم الى المجموعة. كانت فرصة ثمينة لمتابعة دقيقة لتطور أفكار أفراد هذه المجموعة، بعدما تبيّن لهم ان هذه النهاية لم تحصل. حينها اكتشف العلماء ما سوف يكون، خلال العقود التالية، احدى قواعد علم النفس الاجتماعي: فبعد لحظات من عدم حصول هذه النهاية، رافقها الاندهاش والاضطراب الشديد، يقتنع افراد المجموعة بأن نهاية العالم قد ارجئت نتيجة صلواتهم، وبأنهم عليهم الآن الخروج الى الناس ليبشّروا بالرسالة. وبعد أيام من تكذيب نبؤة هذه المجموعة، ارتفع عدد أعضائها، عشر مرات اكثر مما كانوا يوم النبؤة. فعاليات نهاية العالم منحت العلوم الانسانية فرصة ثمينة لمعرفة آليات التفكير البشري…
في عالمنا نحن، الموضوع ليس بهذا الزخم. نهايات العالم لدينا مقترنة بيوم القيامة الديني، أو بظهور المهدي. طبيعة ثوبها الديني، ربما، لا تسمح بإطلاق خيال من نوع آخر. على الأقل في الراهن، مما نعلمه، كل تواريخ نهاية العالم حدّدتها البلدان الغربية منذ أوسط القرن الثامن عشر. القليل غير الغربي منها آسيوي أو افريقي. أما نحن، فأكثر ما فعلناه ان بعضنا سمع عن هذه النهايات، والقليل الآخر استهلكها. لكننا لسنا مصدراً لهكذا أفكار ولا مصنعاً لمخيلاتها، بأشكالها وألوانها المختلفة. السبب؟ ربما اننا لا نحتاج مباشرة الى هذا الخوف. وقد يعود إنعدام هذه الحاجة، الى ان عوالمنا بالأصل في حال مستمر من النهايات. لا نحتاج الى الخوف، انما إلى الاطمئنان، امام مشاهد وقصص اخفاقاتنا الفردية، التي تستظل بالفشل الأوسع. انظر فقط الى صورة إحدى مدن سوريا، التي لا تبعد عن بيروت اكثر من مئة كلم. نحن لا نحتاج إلى خوف من نهاية العالم. نحن تجاوزنا هذه الحاجة. ونهاية عوالمنا ماثلة أمامنا…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل