لعل أكبر غلطة إرتكبها الزعيم الباكستاني السابق الجنرال برويز مشرف (70 عاما) هو أنه عاد في مارس 2012 إلى بلاده لخوض الانتخابات التشريعية، فتعرض للملاحقة والاحتجاز منذ اليوم الاول لوصوله بسبب سيل من الاتهامات والدعاوي القضائية ذات الطابع الكيدي السياسي من قبل خصومه ، ولاسيما من قبل رئيس الوزراء الحالي “نواز شريف” الذي كان مشرف قد أطاح به في إنقلاب أبيض في 1999 .
في جلسة محاكمته في 31 مارس الماضي، التي انعقدت في العاصمة إسلام آباد من بعد تأجيلات وتسويفات عديدة لأسباب أمنية وصحية، والتي ترأسها القاضي “فيصل عرب” بمعاونة القاضي “ياور علي” والقاضية “طاهرة صفدار”، تمت إدانة مشرف في خمس تهم تمثل في مجموعها تهمة واحدة هي الخيانة العظمى التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
وقرار المحكمة المذكور يشكل في الواقع سابقة تاريخية في هذا البلد المتأرجح منذ تأسيسه ما بين الحكمين المدني والعسكري. ذلك أنه لم يسبق أن أدين قائد للقوات المسلحة، التي لعبت على الدوام دورا مؤثرا في شئون باكستان، بالخيانة وهو ما قد يثير رفاق مشرف من ذوي البذلات الكاكية والرتب النحاسية فيرون فيه مساسا بمؤسستهم المنيعة وبالتالي تزداد شقة الخلاف بينهم وبين الساسة المدنيين.
ولئن كان مشرف سيدخل التاريخ كأول قائد سابق للجيش يُحكم عليه بالخيانة العظمى في باكستان، فإن القاضية البلوشية “طاهرة صفدار” دخلت التاريخ كأول قاضية تنطق بمثل هذا الحكم في تاريخ بلادها، بعدما كانت قد دخلته كأول سيدة من إقليم بلوشستان المحافظ تعمل في سلك القضاء، وذلك بفضل جهود والدها المحامي “سيد ممتاز حسين باقري حنفي” الذي شجعها على إكمال تعليمها في المدارس والجامعات الحكومية حتى نالت ليسانس وماجستير الحقوق إضافة إلى درجة الماجستير في آداب اللغة الأوردية، وهو ما أهلها لصعود سلم المناصب القضائية ما بين عامي 2008 و2011.
واشتملت لائحة الإدانة التي تلتها صفدار المولودة في أكتوبر عام 1957 في “كويتا” عاصمة بلوشستان على إتهام مشرف بخرق مواد الدستور عبر قيامه في الثالث من نوفمبر 2007 بفرض حالة الطواريء وبالتالي تعليقه لحقوق المواطن الباكستاني، وإتهامه بالقيام بإجراء تعديلات غير قانونية في مواد الدستور في الفترة ما بين نوفمبر وديسمبر 2007 ، واتهامه بوضع صيغة قسم خاصة يقسم عليها كبار قضاة المحاكم العليا، وإتهامه بإقصاء عدد من القضاة ممن لم يستجيبوا لرغباته مع فرض الاقامة الجبرية عليهم. أما التهمة الخامسة فتعلقت بقيامه بتعليق الدستور.
وبطبيعة الحال رفض مشرف كل هذه التهم ودفع ببرائته منها، بل قدم مرافعة قوية شدت الإنتباه لبلاغتها وما تضمنته من مقاربات ومقارنات. فقد قال على سبيل المثال أنه يتحدى أي شخص أنْ يقول أنّ ما صنعه في بلوشستان مثلا خلال 8 سنوات في السلطة أقل من المصاعب التي واجهها هذا الإقليم خلال 60 من التنمية الإجتماعية والاقتصادية، مشيرا على وجه الخصوص إلى مشاريع بناء ميناء غوادر، والطرقات السريعة، وتسع جامعات حكومية. ثم أضاف أنه كان يقود البلاد بخطوات صاروخية نحو العلا في عام 2007 لولا قيام بعض الشخصيات الحاقدة عليه بخلق أوضاع مربكة، مشيرا إلى أن أولئك هم المتآمرون والخونة من وجهة نظره، ومضيفا أنه لم يخرق قط القانون ومواد الدستور، بل لم يقدم على أي خطوة دون القيام بإستشارة رئيس الحكومة والوزراء وذوي الخبرة في البلاد.
ومن بعد أن كرر إحترامه للقضاء الباكستاني وأحكامه، وتأكيده على أنه يؤمن بعدالة القانون بدليل وقوفه أكثر من 16 مرة خلال عام واحد أمام محاكم في كراتشي وإسلام آباد وراوالبندي وجه مشرف مرافعته نحو وجهة أخرى فقال ” لقد وصفتموني بالخائن ، أنا الذي كنت قائدا عاما للجيش لمدة تسع سنوات، وخدمت في المؤسسة العسكرية لمدة 45 سنة، ودافعت عن وطني في ثلاث حروب فهل هذا في نظركم خيانة؟”. ثم أضاف ” أنا لست خائنا لأن الخائن هو ذلك الذي يسرق المال العام ويُخلي الخزينة العامة” وذلك في إشارة على ما يبدو إلى الساسة المدنيين الذين ثبت في حالات كثيرة فسادهم وسرقتهم للمال العام.
لم يكتف مشرف بما سبق، بل إستغل الوقت الذي منحه القضاة له للدفاع عن نفسه أفضل إستغلال فراح يقول: ” إن الخائن يا حضرات القضاة هو الذي يبيع أسرار وطنه، ويرتشي، ويخاطر بأمن شعبه، ويضع السلاح جانبا في مواجهة أعدائه. أنا لم أقدم على أي فعل من هذه الأفعال، فلم أمنح الرشاوي، كما لم أسمح لأي أحد أن يرشيني، ودافعت عن بلدي كما يجب، وقلصت معدلات التضخم، وواجهت بكل شجاعة ما كان يُشاع في الخارج من أن باكستان دولة فاشلة، وضمنتُ عدم وقوع سلاح باكستان النووي في أيدي الجماعات الارهابية. وحينما تركت السلطة كانت الخزينة العامة تحتوي على 17 بليون دولار، لكني لا أعلم كيف تقلص هذا المبلغ إلى 3 بلايين دولار، وخلال فترة حكمي كان حجم الدين الخارجي هو 37 بليون دولار، لكنه اليوم وصل إلى 70 بليونا.. فهل هذه هي الطريقة التي تكافأون بها رجلا أخلص لبلده وأحبه وأعطاه كل ما يملك دون أن يأخذ منه شيئا؟”
ويعوّل محامو مشرف في كسب القضية لصالح موكلهم على جملة من العناصر: أولها عدم صلاحية المحكمة للنظر في قضيته لأنها محكمة خاصة. وثانيها أن مشرف لم يتخذ قراراته المثيرة للجدل حول وقف العمل بالدستور وتغيير بعض مواده وإقصاء بعض القضاة إلا بعد إستشارة رئيس السلطة التنفيذية وقتذاك “شوكت عزيز” ووزراء الأخير الذين أوصوا بأن حالة البلاد الأمنية تتطلب إجراءات حازمة وحاسمة. وثالثها أن هناك سابقة لقائد للجيش إرتكب ما هو أفدح مما إرتكبه مشرف ولم يــُقدم للمحاكمة أو يُدان، وذلك في إشارة إلى قائد الجيش ورئيس البلاد الأسبق الجنرال يحيى خان الذي شن حرب البنغال في 1971 فتسبب برعونته في إنسلاخ الجناح الشرقي للدولة الباكستانية. ورابعها أن القضايا المرفوعة ضد مشرف كيدية بالدرجة الأولى وذات طابع إنتقامي.
ولايستبعد المراقبون أن ينجح مشرف في إبعاد حبل المشنقة عن رقبته إذا ما أخذنا في الاعتبار أن من يترافع عنه طاقم من أمهر المحامين بقيادة الدبلوماسي المخضرم ووزير الخارجية الأسبق وسكرتير مؤسس البلاد محمد علي جناح والمدعي العام زمن الجنرالين محمد أيوب خان ويحيى خان المحامي “شريف الدين بيرزاده” الذي عمل مع كل قادة باكستان العسكريين، ويجمع الكل على إحترامه على الرغم من وصف البعض له بـ”محامي الشيطان” وتشبيههم له بالمحامي الفرنسي الراحل “جاك فيرغيس” الذي دافع عن شخصيات مثيرة للجدل مثل الإرهابي كارلوس والنازي كلاوس باربي والرئيس العراقي السابق صدام حسين.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh