إن لم تقم السلطات بعمل حاسم وحازم تجاهها اليوم فقد تندم غدا، خصوصا وأن مجرد حظرها لم يثمر عن شيء.
اعتاد رؤساء أندونيسيا أن يوجهوا خطابا للأمة في السابع عشر من أغسطس من كل عام المصادف لتاريخ الاحتفال بيوم الاستقلال. وفي الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية هذا العام طغى على خطاب الرئيس جوكو ويدودو مسألة التحديات التي تواجه اندونيسيا، كبرى ديمقراطيات العالم الاسلامي من حيث عدد السكان، لجهة انتشالها من الفكر المتطرف الذي بات ينتشر بصورة غير مسبوقة في أوساط بعض التيارات والتنظيمات المحلية، والتصدي لخطره على وحدة البلاد ومكوناتها الدينية والعرقية المتعددة.
وفي هذا السياق شدد الرئيس ويدودو، الذي وصل الى السلطة خلفا للرئيس السابق الجنرال سوسيلو بامبانغ يودويونو في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة في يوليو 2014، على ضرورة العمل الجماعي ليس من أجل اقتصاد قائم على المساواة، وإنما أيضا من أجل فكر يعزز الاجماع الوطني على مباديء دستور عام 1945 ويحميها ممن يسعون إلى الاخلال بها أو تجاوزها. والمعروف أن أندونيسيا منذ ولادتها كدولة مستقلة زمن الرئيس الاسبق احمد سوكارنو سنت لنفسها دستورا يرتكز على خمسة مباديء عرفت باسم “البانتشاسيلا” وذلك قطعا للطريق على من حاولوا تأسيس دولة إسلامية مطبقة للشريعة. وبالتزامن مع ذلك اختارت البلاد “الوحدة من خلال التنوع” شعارا وطنيا لها بهدف حماية الاقليات غير المسلمة وصهرها في المجتمع ورعاية حقوقها ومصالحها.
صحيح أن الغالبية العظمى من الشعب الاندونيسي، الذي يتجاوز عدده اليوم 255 مليون نسمة (إحصائيات سنة 2014)، ملتزمة بالمباديء والشعارات التي تأسست عليها بلادها قبل نحو 72 عاما، بدليل المظاهرات الحاشدة التي خرجت في شوارع جاكرتا في أواخر العام الماضي تأييدا للوحدة الوطنية بغض النظر عن إختلاف الدين أو العرق أو الجنس، وقلقا من ظهور علامات ومؤشرات تفيد بتزايد التعصب العنصري والديني في البلاد.
ولعل الجزئية الاخيرة هي التي دفعت الرئيس ويدودو إلى تخصيص حيز معتبر من خطابه للحديث عما تواجه بلاده المترامية الاطراف من مخاطر التطرف والتشدد التي لم تشهدها إندونيسيا إلا بــُعيد عودة نفر من مواطنيها من ساحات الجهاد الخارجية، وعودة آخرين من جامعات شرق أوسطية وهم مسلحون بإسلام غير الإسلام الوسطي الذي تربوا عليه على أيدي المهاجرين المسلمين الأوائل من عدن وحضرموت. وبطبيعة الحال إستغل هذا النفر أجواء الحريات التي ترسخت بعد سقوط نظام الرئيس سوهارتو في عام 1998 في العمل السياسي وفق أفكاره المتشددة السقيمة.
تقول آخر الدراسات المنجزة حول تنامي ظاهرة التطرف والتشدد في إندونيسيا أن الأخيرة تحتضن تنظيمات خطرة لا تسعى فقط لتغيير هوية الدولة الاندونيسية، وإنما تسعى جاهدة أيضا لمد أنفها في شؤون دول أخرى من خلال التجنيد والتدريب والتسليح وجمع الاموال تحت يافطة “الجهاد لنصرة الإخوة المظلومين والمضطهدين”. وإذا كانت أحد مظاهر هذه الحملة تتجسد في ما قام ويقوم به “منتدى أمة الإسلام” لدعم الروهينغيا المسلمين في بورما، فإن المظاهر الأخرى تجسدها حملات مشابهة لدعم الجماعات الجهادية السورية الأكثر تطرفا. كما تجسدها الحملات التي تقوم بها بقايا أنصار “الجماعة الاسلامية” بقيادة رجل الدين المثير للجدل أبوبكر باعاشير من أجل تحقيق حلم الاخير بإقامة دولة الخلافة المشتملة على أندونيسيا وجاراتها في جنوب شرق آسيا كمرحلة أولى.
إن ما ذكرناه آنفا من حملات، معطوفا على بعض الحوادث التي وقعت مؤخرا في جاكرتا مثل إعتقال الشرطة لخمسة أشخاص كانت بحيازتهم مواد كيماوية لصنع القنابل بغية شن هجوم على قصر مرديكا الرئاسي استرعى إنتباه مراكز الدراسات الغربية المعنية بالشأن الاندونيسي، ولاسيما الاسترالية منها، فعكفت على جمع المعلومات وتحليلها لتصل إلى نتيجة مفادها أنه توجد حاليا في أندونيسيا تنظيمات متطرفة عديدة، إن لم تقم السلطات بعمل حاسم وحازم تجاهها اليوم فقد تندم غدا، خصوصا وأن مجرد حظرها لم يثمر عن شيء.
من هذه الجماعات المتطرفة:
1 ـ جماعة انتشار التوحيد، وهي جماعة تتلاعب بالنصوص الدينية من أجل بلوغ أهدافها. إذ يذكر أنها أصدرت فتوى تقول بأن الذهاب للجهاد في سوريا له الأولوية على الذهاب الى مكة للحج والعمرة. ومن ضمن قيادتها القديمة المدعو أبووردة الذي وضعته الامم المتحدة في قائمة المطلوبين لإرتكابه جرائم بشعة باسم تنظيم القاعدة.
2 ـ جمعية هاسي، وهي لئن كانت تعتبر نفسها في مقام “جمعية الهلال الاحمر الاندونيسي”، إلا أن لا علاقة لها مع الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب والهلال الاحمر، ولا تخضع لمبادئها، كما أنها غير ملتزمة بتوجهات الحكومة الاندونيسية. حيث أنها تأسست على يد بعض النشطاء والجهاديين الشباب ممن يديرونها ويشرفون على أنشطتها ويجمعون التبرعات المالية بإسمها دون حسيب أو رقيب.
3 ـ جبهة الدفاع عن الاسلام، وهي جماعة تأسست في عام 1998 على يد شخص يدعى حبيب محمد شهاب، وبدعم من العسكريين المؤيدين للرئيس الأسبق سوهارتو. وكانت أهدافها في بداية الامر محصورة في القيام بمهمات رجال الحسبة، لكنها شيئا فشيئا تحولت إلى مجموعة تستخدم العنف المسلح والتخريب واشعال الحرائق ضد الاقليات ومصالحها التجارية بدافع الكراهية والترهيب.
4 ـ منتدى علماء اندونيسيا، ويتزعمه المدعو محمد غاتوت سابتونو الشهير بمحمد الكثــّاث، وهو من الذين عملوا طويلا مع “حزب التحرير الاسلامي” الساعي لإعادة دولة الخلافة الاسلامية قبل أن ينشق عنه أو يطرد منه، فأسس مذاك منتدى علماء أندونيسيا ودفع به للتحالف مع جبهة الدفاع عن الاسلام من أجل تأسيس نظام اندونيسي جديد مطبق للشريعة. والمعروف أن الكثاث معتقل الآن بتهمة المشاركة في التخطيط للإطاحة بالرئيس ويدودو.
مما سبق يتضح أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لم يكن يتحدث من فراغ حينما اختار جاكرتا ليشدد منها في مارس الماضي على ضرورة تكثيف الجهود لمحاربة الارهاب وتجفيف منابعه والقضاء على التشدد والتطرف في مختلف الاديان والثقافات.
Elmadani@batelco.com.bh
استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي