الشمول لفظاً هو مصدر شمل، بمعنى عمّ وغطى. والشمولية وصف لما هو منسوب إلى الشمول. فالنظرة الشمولية هي النظرة التي تعم على الموضوع وتغطى كل عناصره، والحكم الشمولي هو الحكم الديكتاتوري، الذي يتولى الحكم فيه، بكل العناصر وفى كل المسائل وفى شتى الأمور، حاكم مفرد، أو مجموعة منفردة (المعجم العربي الأساسي، مادة شمل).
والثقافة الشمولية صياغة تعبيرية للثقافة، أو التراث، الذي يحكم كل عناصر الحياة، وشتى أوجه النشاط، بحيث لا يترك للشخص أو للشعب أي بادرة للإنشاء، أو الإبتكار أو التجديد أو التطوير أو التنامي أو التسامي أو التعالي، وهى من ثم تأسر كلا من الشعب والشخص في أطرها الجامدة، وقالاتها الدارجة، وألفاظها المعدودة، وأبعادها المحدودة، ومأثوراتها الشعبية، وتراثاتها الفولكلورية، الأمر الذي لابد أن يشل كل إرادة، وأن يغلّ كل فكر، وأن يفل أي رأي، وأن يزل أي قول.
وعلى الإجمال، فإن الثقافة الشمولية لا تُبقى الإرادة حرة، ولا تدع الفكر سلسا، ولا تجعل الرأي صائبا، ولا تترك القول سويا؛ إنما ينال كلّ” عوار، ويشوب كل نقص، ويداخل كل تشويه، ويخالط كل زلل.
وحتى يخرج الأمر من نطاق التنظير إلى مجال التطبيق، يحسن أن تكون ثم دراسة للثقافة العربية، التي أثرّت في الثقافة الإسلامية، وفى كل شعوب وشخوص الشرق الأوسط خاصة، حتى غير المسلمين وغير العرب منهم.
فالعرب، قبل الإسلام، كانت شأن غيرها من الأمم (القبائل) البدائية غير البربرية، صافية الذهن سريعة الملاحظة، وكانت تتمتع فوق ذلك بحدة الشعور وبلاغة التعبير. غير أنه لظروف البيئة القاسية والمناخ القارس، كانت قدراتها التعبيرية تقف عند حدود القول اللفظي السريع، وتقصر دون التركيب العقلي السليم والتشييد الفكري القويم (Construction, Restriction)، وهذا هو ما يظهر في الشعر العربي، في عهد ما قبل الإسلام، المسمى بالعصر الجاهلي.
في الشعر الجاهلي، قال الدكتور طه حسين عام 1927، إنه شعر منحول، وضعه بعض الشعراء المجهولين في عصر التدوين، وهو العصر العباسي الثاني. لكن طه حسين لم يقدم على ذلك أدلة قوية متساندة، وإنما دلل عليه بدلائل غير قوية، يظهر فيها التعمّل الذي يستهدف تأكيد رأى مسبق، بما يعنى أن الرأي لديه جاء قبل الأدلة وليس نتيجة لها، فهو يبرر أكثر مما يدلل.
والتقدير المقابل لرأى الدكتور طه حسين، يرى أن الشعر الجاهلي في معظمه، شعر قيل في عصر ما قبل الإسلام، المسمى بالعصر الجاهلي، لأسباب عدة، قد تتسع دراسة فيما بعد لبيان أوفى، عنها وعن غيرها:
(أ) فهو شعر موافق للظروف الإجتماعية والبيئية والمعتقدية في ذلك العصر، مما يجعله مرآة لعصره، الذي قصد الإسلام أن يغير بعض دعائمه ويقوض بعض قوائمه، ومنها الشعور القبلي، أي شعور الإنتماء إلى القبيلة من خلال رابطة الدم، واستعاض عنه بالشعور الأخوي بين المؤمنين، من خلال علاقة الإيمان.
مثال ذلك، مجرد مثال، لأن الاتساع يؤدى إلى الاستطراد، فيخرج بالدراسة عن موضوعها الأساسي، مثال ذلك التحدث عن الصعاليك، وهم فقراء ولصوص كان منهم شعراء مشهورون، وقضى الإسلام على الصعلكة فكرا وفعلا. وعن الصعالكة يقول حاتم الطائي:
لحى الله صعلوكا مناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
ويقول:
عُنينا زمانا بالتصعلك والغنى
كما الدهر في أيامه العسر واليسر
ويقول عمرو ابن كلثوم في نزعة قبلية:
لحى الله أدنانا إلى القوم زلفة
والأْمُنا خالا.. واعجزنا أبا
ويقول وائل ابن ربيع، في نفس النزعة القبلية:
إنك في حمى كليُب الأزهر
حميته من مذاجح وحميْر
ويقول المهلهل ابن كليب، في اتجاه قبلي كذلك:
إن في الصدر من كليب شجونا
هاجسات نكأن منه الجراحا
ويقول عنترة العبسى، بما يدخل في عبادة الأشخاص التي حظرها الإسلام تماما:
ولو صلّت العرُب يوم الوغى
لأبطالها، كنتُ للعرب كعبة
(ب) وقد تضمن الشعر الجاهلي ألفاظا وعبارات ومعاني تغيرت مفاهيمها كثيراً بعد الإسلام، وصار من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تدور في خلد مسلم أو أن يعبر عنها بنفس مفاهيمها الجاهلية، من ذلك ما قاله عدىّ ابن زيد:
سعى الأعداء لا يألون شرا
عليك ورب مكة والصليب
وقال امرؤ القيس:
أتت حجج بعدى فأصبحت
كخط زبور في مصاحف رهبان
وقال الأعشى:
واستشفعت من سُراة الحي ذائقة
فقد عصاها أبوها والذي شفعا
وقال عدىّ ابن زيد:
ينتاب بالعرق من بقعان معهده
ماء الشريعة أو فيض من الأجم
وقال زهير ابن أبى سلمى:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
وقال زهير كذلك:
دار لأسماء بالغمرين نائلة
كالوحي ليس بها من أهلها إرم
وقال:
لمن الديار غشيتها بالفدفد
كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقال الحصين ابن همام:
وخفت الموازين بالكافرين
وزلزلت الأرض زلزالها
وقال عنترة ابن شداد:
تمشى النعام به خلاء حوله
مشى النصارى حول بيت الهيكل
وقال ورقة ابن نوفل:
أقول إذا صليت في كل بيعة
تباركت قد أكثرت إسمك داعيا
وقال النابغة الذبياني:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
(ج) ومن المعروف أن عمر ابن الخطاب كان يتساءل وهو يردد شعرا لامرئ القيس “هل كان أمرؤ القيس مطلعا على اللوح المحفوظ؟”، من فرط ما كان يجد من تشابه بين شعره وآيات القرآن، كما كان يُعجب بالحكَم التي وردت في قصيدة زهير ابن أبى سلمى، الميمية، وكان يعتبره أشعر العرب من أجلها وفيها يقول زهير:
فلا تكتمن الله ما في صدوركم
ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه فيندم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
كذلك فإن علىّ ابن أبى طالب، وهو يخطب في أنصاره عندما خالفوه، استشهد ببيت من الشعر قاله دريد ابن الصمة:
نصحتهم نصحي بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وهذا الإستشهاد من عمر ابن الخطاب وعلى ابن أبى طالب يقطع بوجود الشعر المستشهد به قبل بدء الإسلام ومثل هذين المثلين كثير.
إذن، يمكن أن يقال إن الشعر الجاهلي في مجموعه شعر قيل في عصر ما قبل الإسلام، وإن كان يمكن أن يدخل عليه النحل والإدعاء والإختلاق في أبيات أو أكثر، في قصيدة أو أكثر، كما يمكن أن يدخل النحل على الشعر المعاصر، وعلى الشعر في شتى العصور. أما التأكيد على نحل الشعر الجاهلي وحده، فهو تقدير ينتهي إلى الشك في كل التراث، عنصراً بعد عنصر.
ينتج عن ذلك، أن الشعر الجاهلي، والذي هو في مجموعه شعر صدر عن عرب فترة ما قبل الإسلام، تضمن كثيرا من الحكمة والأمثال والآراء التي بلغت حد النضوج والإكتمال، والتي تعد من التعبير الإنساني الخالد، الصالح لكل زمان ولكل مكان، ما دامت الأزمنة متشابهة وما ظلت الأمكنة متقاربة، وهذا هو الذي دعا العرب إلى الإستشهاد بها في أحاديثهم والإحتفاظ بها في دواوينهم، حتى اليوم.
وثم رأي بأن الذي ساعد العرب على الوصول إلى هذا الشأن وهذا الشأو، أن مدينة مكة بالذات كانت في ملتقى طرق القوافل من الشام ومصر واليونان وروما إلى اليمن والهند وفارس، وبالعكس، وأن في أسواق مكة وما حولها كانت تقام حلقات الخطابة والوعظ والشعر والحكمة، فصبّت لدى العرب آراءاً وأفكارا وحكما ومعتقدات من كل البلاد، من الشام ومصر واليونان وبلاد ما بين النهرين (بابل وأشوريا) ومن روما واليمن والهند وغيرها، فصفّاها العقل العربي في أبيات من الشعر، واضحة المعنى، موجزة اللفظ، دقيقة التعبير، صادقة القول، موافقة الطبيعة.
غير أن الأثر السلبي لذلك أن انحبست العرب في هذا الشعر وانحصرت داخل أبياته، بمبانيها ومعانيها، بكلماتها وألفاظها، حتى أصبحت تردَّد ولا تزود، تقلد ولا تجدد.
وفى ذلك المعنى يقول الشاعر عنترة العبسى:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
ويقول زهير ابن أبى سلمى:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
فعنترة يقصد أن الشعراء، وهم حكماء ونصحاء وعلماء وزعماء العرب، لم يعد بمكنتهم أن يغادروا مواضع ومواقع ومعاني ومباني، من سبقوهم، وهو المعنى الذي أكده زهير، إذ يقرر أنه وغيره من الشعراء، الحكماء الفصحاء، العلماء الزعماء في العرب آنذاك، لا يقولون ألفاظاً وأفكاراً، ولا حكما، ولا علما، إلا وهو مستعار من غيرهم ممن سبقهم، أو معاد مكرر من أقوالهم.
بهذا التقرير الحاسم، الذي استقر لدى العرب قبل الإسلام، وعبر عنه عنترة وزهير، وهما من أهم شعراء الفترة، يظهر القطع بأن العرب كانت قد خلصت آنذاك إلى أن ما لديها من شعر وفكر، وحكم وعلم، هو فصل الخطاب وختْم الكتاب، وأنه غاية العلم ونهاية الحُكْم (أي الحكمة). وهكذا انغلقت أبواب التفكير والتعبير والتفسير والتغيير. وفى هذا الانغلاق التام تزدهر الشمولية وتتعاظم الطغيانية فتقبض بشدة على كل إرادة، وتربط بحدة أي طلاقة، ويكون من المتعين على كل فرد أن يساير الأعراف السابقة، وأن يجارى التقاليد المستقرة، وأن يتداول التعبيرات الدارجة، وأن يتعامل بالتأويلات المألوفة، وأن يتجمد في الرواسم (الأكليشيهات) السطحية.
ثم يجيء الإسلام بما يخالف ذلك تماما، فيزلزل الشمولية ويقلل الطغيانية، ذلك بأن القرآن أكد على التعقل والتفكير والتدبر، بما يُلزم إعمال العقل في الأعراف والتقاليد والتعبيرات والتأويلات، قبل الإيمان بها أو الإستسلام لها أو الإذعان لما جاء فيها. يضاف إلى ذلك أن القرآن دعا المسلمين، في كل عصر وفى كل مصر، إلى الوعي بالإرادة الذاتية، وإلى المسئولية عن هذه الإرادة، فيما يظهر منها وما يبطن ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ سورة الإسراء 17: 36 ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ سورة الإسراء 17: 13﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ سورة الكهف 18: 29 ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ سورة الأنفال 8: 42. بل إن القرآن حمل على الذين لا يُعملون فكرهم ولا يستقلون بأمرهم، وإنما يلجأون إلى الأحبار والكهان يستفتونهم في شئونهم ثم يتّبعونهم بعد ذلك فيما يفتون، فاعتبر أن هؤلاء الذين يتبعون الأحبار (جمع حبرْ) والرهبان (جمع راهب) دون فكر منهم أو إرادة لهم، إنما يعبدونهم من دون الله،
أي إنهم ليسوا بمؤمنين قط، ذلك لأنهم ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ﴾ سورة التوبة 9: 31.
غير أن هذه الدفعة القوية والدفقة العفية والسوْرة النقية التي أحدثها الإسلام لم تستمر طويل وقت، بعد أن غلبت التقاليد السابقة وظهرت المواريث السالفة، فعاد العرب إلى الشمولية الإجتماعية والطغيانية الفكرية، دليل ذلك استمرار الإستشهاد بأبيات الشعر الجاهلي حتى العصر الحالي، وطول عصور الإسلام، لأنها توافق مقتضى الأحوال وتطابق واقع الأمور التي ما زالت على وضعها منذ العصر الجاهلي، فلم تتزلزل ولم تتقلقل، ولم تتغير ولم تتبدل. وفى تثبيت هذه الطغيانية وتلك الشمولية، ينسب إلى عبد الله ابن عباس ابن عم النبي (صلعم)، والموصوف بأنه حَبْر (أي عالم) الأمة الإسلامية أنه قال (قلد ولا تجدد، اتبع ولا تبتدع)، والذي قوامه منع الابتدار وقمع الابتكار، وحظر التجديد وبتر التزويد (أي تكوين وتجميع الحاجات الأساسية التي لا يمكن بدونها التقدم والنمو، المعجم العربي الأساسي، مادة زود).
الشمولية والطغيانية التي عادت لتسود في الأمة بعد فجر الإسلام، تؤدى إلى نتائج وخيمة على كل من الشعب والشخص يمكن إجمالها فيما يلي:
(أ) التطرف الذي لا يعرف الوسطية، ويتنكب الاعتدال، فقلد قال الشاعر في العصر العباسي وهو مُشرب بالفكر الجاهلي:
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ففي الثقافة الشمولية لا تكون ثم وسطية أو تفاهم أو اعتدال أو تنازل أو قبول للحلول الوسطى، وإنما تتركب النفوس وتتكون الفهوم على التطرف الجانح الجامح، الذي لا يقبل إلا أن يكون في الصدارة أو يكون في القبور، ولا يرتضى إلا أن يأخذ كل شيء أو يفقد كل شيء، ولا يوافق إلا على أن يكسب دون سقف أو يخسر بغير قاع، وهو أسلوب يلائم الشخصية المقامرة أو يعززها أو يوجدها، وإذا ما كانت الأمور في الحياة لا تسير على الغالب في مجارى التطرف ومساري الجموح، فإن نتيجة السلوك المتطرف أن يصبح الشعب أو يصير الشخص بعيداً عن الواقع نائياً عن الحقيقة، يكسب مرة باعتباطية ويخسر مرات بجدارة.
هذا الطبع التطرفي المقامر أدنى ما يكون إلى الطبع الصعلوكى الذي كان منتشراً في عصر ما قبل الإسلام على ما سلف بيانه. فالصعاليك كانوا على الغنى الظاهر أو على الفقر الشديد، على شبع ورى أو على جوع وظمأ، على حرب وغزو أو على عبث ولهو. وفى ذلك يقول عنترة العبسى وهو يصف الصعلوك:
يعد الغنى من دهره كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح طاويا
يحب الحصى عن جنبه المتعفر
هذا الطابع الصعلوكى المتطرف، كان القرآن قد قصد إلى نفيه واختزاله، حيث يقول ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ سورة البقرة 2: 143، لكن الإعراض عن الوسط والجنوح إلى التطرف غلب من ثقافة الصعاليك التي توطىء إلى ثقافة التطرف.
(ب) العدوانية الشديدة، سواء على الأقارب أو على الأباعد، ذلك أن التطرف يورث حبا جامحا أو كرها جانحا، فلا توسط بين هذا وذلك، ولا هوناً هنا أو هونا هناك، ولما كان جنوح الكره أشد وأعتى من جموح الحب، خاصة مع ندرة ولوع الحب وكثرة وقوع الكره، وتعدد دواعيه، من خلافات ومنافسات وصراعات وعصبيات، وجهالة وضلالة ورزالة، فإن النتيجة التي تكون دائماً، هي تمحّض الثقافة الشمولية عن عدوانية شديدة مع الغريب ومع القريب، على حد سواء، تعمد إلى التحرش المستمر، والعدوان المتصل، والإيذاء الدائم، والقتال الذي لا يقف ولا ينتهي. وفى هذه المسالك العدوانية يرتد الشخص أو الشعب إلى البدائية الأولى، أو يظل فيها فلا يعرف ولا يدرك ولا يرجو طريقاً للتحضر أو سبيلاً للرقى أو دليلاً للسلام.
ويتأدى عن ثقافة العدوان والإستفزاز والتحرش (Aggravating Culture) أن تكون الرياسة للدناءة القولية والبذاءة اللفظية، والمثل المصرى العامى الذي يعبر عن ذلك أصدق تعبير، هو الذي يقول (الغجرية ست جيرانها). فالجماعة (الأمة) التي تغلب عليها الثقافة العدوانية الإستفزازية التحرشية تلتف حول متدنى القول بذىء اللفظ، هذا الذي يسب ويشتم ويهدد ويتوعد، دون أن يفعل شيئاً جاداً، بل حتى لو ألحق بالأمة هزيمة منكرة أو أودى بها إلى إنكسار شديد، إذ يبقى الناس متعلقين بسبابه وشتائمه، بتهديداته وتوعداته، دون أن يفكروا في نتائجها أو فيما أحدثته من مآس ومهالك، تماما كما تردد الأمة أهاجى الشعراء، وسبهم بعضهم بعضا، بل تعمل بعض المناهج الدراسية حتى الوقت المعاصر، على ترسيخ هذا الإتجاه، حين توازن وتقابل وتقارن بين أبيات من الشعر الهجائى لتبين أهجى بيت من الشعر وأقذع معنى في الهجاء. بصرف النظر عما حدث للشاعر أو لقبيلته نتيجة هذا الهجاء. وفى ديوان المتنبى، وهو من هو بين الشعراء العرب، قصيدته التي هجا بها شخصا اسمه ضُبَة، وقال فيها سبابا موجعا مقذعا، كان نتاجا للثقافة العدوانية الهجائية، ومع ذلك فإن الكثيرين جدا لا يعرفون أن المتنبى دفع حياته ثمنا لهذه الهجائية بالذات، إذ رأى فيها خال ضبة أنها خدشت عرض أخته فقتل المتنبى لذلك، مع أن المتنبى قال قولا بذيئا ولم يفعل شيئا قط، وهذا القول ذهب مع الريح فلم يؤثر، وما كان ليؤثر في عرض امرأة عفيفة، لكنها ثقافة الإستفزاز، تدفع إلى القول البذىء أو اللفظ الجارح، ويُرَدّ عليها بعنف وجموح، يزيد على الحد ويفوق أي توقع (Excessive reaction).
(ج) وفى الثقافة الشمولية لا ترى الشعوب ولا الشخوص إلا طريقا واحدا، ورأيا مفردا، وحلا مطلقا. ذلك أن الشمولية الإجتماعية والفكرية تؤدى لا محالة إلى الشمولية الفردية والذاتية، فيكون الشخص كما الشعب صاحب عقلية فيها اتجاه واحد وطريق مفرد، بما يقال عنه بالإنجليزية (One Track Minded).
هذا الأتجاه يمنع كلا من الشعب والشخص أن يرى وجهة نظر أخرى أو يدرك مفهوما مختلفا عن مفهومه، أو يتصور عالما آخر غير عالمه. فهو يسير ويدور، ويلف ويرفّ (أي يأنس ويتحرك) بفكرة واحدة أو رأى واحد أو طريق مفرد، فلا يرى ولا يريد أن يرى، ولا يعرف ولا يريد أن يعرف سواه، ومن ثم يظل محصورا (Obsessed) في نفسه، محبوسا في نظرة واحدة، محجوبا عن الرأي الآخر والفهم المغاير والفكر المخالف والنقد الصحيح، لا يقبل أيا منها،ويرى فيها عدوانية عليه (وهو إسقاط لعدوانيته هو على الغير) وتهديدا لذاته وتقويضا لكيانه، وفى هذا الحال الوخيم، يوصف الغير بأنه عدو، ويُرى في الآخر أنه خصيم، ويطلق على الناقد أو المصلح لفظ الكافر أو لفظ الخائن.
حال الإستقطاب في إتجاه واحد لا يمكن أن يرى الماضى، أو يعرف الحاضر، أو يدرك المستقبل، فهو على الدوام محصور في اللحظة الراهنة مسجون في الفكرة القابضة، لا يرى كل عناصر الماضى ولا يعرف كل عوامل الحاضر، ولا يدرك كل نتائج المستقبل؛ ومن ثم فهو لا يستطيع أن يحسب الأمور حسابا صحيحا أو يتخذ قرارا محسوبا بدقة (Well Calculated). ويزيد الطين بلة، والأمر سوءًا على سوء، أنه يعمل لا على نفى الرأي أو الفرد أو الشعب المخالف فحسب، بل يعمد إلى فرض رأيه ونفسه ووضعه عليه، حتى يجبره ويقسره على تبنى اتجاهه هو، بغير جدال أو نقاش أوتفاهم.
الثقافة الشمولية تحول كل فرد إلى شمولى طاغية دكتاتور حين يتمكن، وتجعله ذليلا جاهلا خاملا مستضعفا قبل أن يتمكن أو إن لم يتمكن. وهذا التقلب بين النقيضين والتغير بين المتضادين يحير الكثيرين ويضل الأكثرين؛ وعلى من يريد أن يفهم لب الحقيقة، ويدرك كنه الصواب أن يدرس بعلم وفهم طبيعة الثقافة الشمولية، ونتائجها المرذولة، وأثارها المدمرة.
saidalashmawy@hotmail.com
• القاهرة
الثقافة الشمولية
هذه النظرة الشمولية نظرة غير شمولية بل هي نظرة عقيمة يأنفها علماء الإسلام لأن النظرة الشمولية في الإسلام أعطت تفسيرًا للقضايا الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، بحيث يشعر الإنسان بالطمأنينة من خلال معرفة أصله ونشأته، ومصيره ونهايته، وعلاقته بخالقه، ودوره في هذا الوجود، فلا يبقى الإنسان حائرًا ضعيفًا بدرب الحياة، بل يجد الملجأ والملاذ ويشعر بالطمأنينة والاستقرار
وكذلك صانت الإنسان من الاعتماد على التشريعات والأنظمة غير الإسلامية، حيث إن الإسلام اشتمل على كل هذه التشريعات التي يحتاج إليها الإنسان في حياته الخاصة والعامة. لو أنكم تعقلون