هناك ثغرات كثيرة في السياسة الروسية المتبعة تجاه سوريا. بين هذه الثغرات الدعوة الى عودة اللاجئين السوريين الى بلدهم. من يؤمن سلامة ايّ لاجئ يمكن ان يعود الى ارضه في ظلّ نظام وضع تهجير السوريين من هذه الأرض التي ولدوا وعاشوا فيها في مقدّم اولوياته وذلك من اجل بلوغ هدف واضح كلّ الوضوح؟
يتمثل هذا الهدف، الذي يتشارك فيه النظام السوري مع النظام الايراني، في تغيير التركيبة الديموغرافية لسوريا تعزيزا لقيام حلف الاقلّيات الذي يؤمن به، للأسف الشديد بعض اللبنانيين من المسيحيين الذين يتمتعون بمقدار كبير من التعصّب الطائفي ومن فقدان بعد النظر في آن.
يغيب عن بال هؤلاء كلّيا ان كلّ ما فعله النظام السوري قيامه يتمثل في تقليص حجم الوجود المسيحي في لبنان من اجل تحويل هذه الكتلة البشرية الى مجرّد تابع للنظام السوري. هذا النظام السوري الذي هو قبل كلّ شيء نظام امني تتحكّم به اقلّية معروفة. ليس سرّا من شجع الفلسطينيين على حمل السلاح في لبنان وإقامة “جمهورية الفاكهاني” التي لم يكن من هدف لها سوى تدمير المؤسسات اللبنانية الواحدة تلو الأخرى بدءا برئاسة الجمهورية وذلك وصولا الى تدمير لبنان لمصلحة النظام السوري.
ليس سرّا من هجر سكان القرى المسيحية في كلّ المناطق المحاذية للحدود مع سوريا، لا تزال مجزرة القاع ابلغ دليل على ذلك. ليس سرّا في كلّ وقت من الاوقات من شجّع على تلك المواجهة بين الجيش اللبناني و”القوات اللبنانية” في العامين 1989 و 1990 عندما كان الجنرال ميشال عون، الرئيس الحالي، في قصر بعبدا كرئيس لحكومة موقتة مهمتها تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس امين الجميّل الذي انتهت ولايته في أيلول – سبتمبر 1988. رفض امين الجميّل طوال عهده، الذي ينتقده كثيرون، ادخال الجيش في مواجهة مع “القوات”. كان يعرف جيدا ما الذي سيعنيه ذلك وكيف سيستفيد النظام السوري من مثل هذه المواجهة التي تعني بين ما تعنيه قتالا مسيحيا – مسيحيا. في 1989 و 1990 حصلت اكبر هجرة للمسيحيين من لبنان. كان مهمّا في كلّ مرحلة من المراحل اضعاف الوجود المسيحي في لبنان. دخل اغتيال النظام السوري للرئيس رينيه معوّض في هذا السياق. كان الهدف من التخلص من الرجل تغيير طبيعة اتفاق الطائف من اتفاق يتمتع بغطاء عربي ودولي الى اتفاق ذي مرجعية واحدة هي النظام الأمني السوري.
على مثل هذا النظام الأمني ذي الطبيعة الطائفية المعروفة، تسعى روسيا الى العودة الى لعب دور محوري في الشرق الاوسط. لا يمكن لمثل هذا النظام ان يكون أساسا يبنى عليه. هذه هي الثغرة الاهمّ في السياسة الروسية تجاه سوريا وفي المشروع الروسي. في النهاية، لا يمكن البناء على نظام لا يمتلك أي شرعية من ايّ نوع كان. نظام جاء نتيجة مباشرة لانقلاب عسكري نفذّه في الثامن من آذار – مارس 1963 ضباط موتورون ينتمون في معظمهم الى حزب البعث الذي لم يكن في يوم من الايّام سوى مطيّة للانتهازيين من العسكريين الآتين من كل حدب وصوب والذين لا هدف لهم سوى الانتقام من القيم الحضارية للمدينة.
ما يدركه الروس، قبل غيرهم، ان هذا الانقلاب الذي سمّي “ثورة الثامن من اذار”، لم يكن سوى مقدّمة لتولي حافظ الأسد السلطة على مرحلتين. كانت المرحلة الاولى في الثالث والعشرين من شباط – فبراير 1966 عندما تخلص الضباط العلويون، على رأسهم صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمّد عمران من الضباط السنّة. وكانت المرحلة الثانية في السادس عشر من تشرين الثاني – نوفمبر 1970 عندما تخلّص حافظ الأسد بدوره من كلّ منافس له بدءا بكبار رفاقه من الضباط الاسماعليين كاحمد المير وعبدالكريم الجندي والدروز مثل حمد عبيد وسليم حاطوم وصولا الى العلويين، أي الى محمد عمران (الذي استبعد قبل العام 1970)، ثمّ صلاح جديد في نهاية المطاف.
على من يبني على مثل النظام الذي اورثه حافظ الأسد الى نجله بشّار، والذي تحوّل بعد السنة 2000 الى ما هو اقرب الى نظام عائلي مافيوي اكثر من ايّ شيء آخر، التنبه الى ان حلف الاقلّيات لن تقوم له قيامة في يوم من الايّام. كذلك، لا تستطيع روسيا ولن تتمكن يوما من لعب أي دور إيجابي في المنطقة في حال بقيت تراهن على بشّار الأسد وعلى ايران في الوقت ذاته.
لن يتقدّم المشروع الروسي في سوريا خطوة الى امام في غياب القدرة على الخروج من لعبة حلف الاقلّيات. تستطيع روسيا مساعدة بشّار الأسد في عملية تأديب الدروز. وهذا ما حصل بالفعل في تموز – يوليو الماضي لدى ارتكاب “داعش” مجزرة السويداء بالتفاهم التام مع النظام السوري والميليشيات المذهبية الموالية لايران التي تدعمه. لن يصبح دروز سوريا في يوم من الايّام عملاء للنظام القائم. انّهم يعرفون تماما انّ لا مصلحة لديهم في حلف الاقلّيات لانه يعني اول ما يعني نهايتهم كاقّلية مهددة من جهات عدة، خصوصا بعد إقرار الكنسيت الاسرائيلية لقانون يجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية.
تستطيع روسيا أيضا توظيف أصوات مسيحية لبنانية تعتقد انهّا قادرة على استعادة حقوق المسيحيين اللبنانيين عبر سلاح “حزب الله”. ما لن تستطيعه يوما تحويل النظام السوري الى نظام شرعي او جعل اكثرية اللبنانيين تنظر اليها والى دورها نظرة إيجابية في أي مجال. ستبقى روسيا في كلّ وقت بالنسبة الى أكثرية السوريين واللبنانيين الطرف الذي لعب دورا محوريا في إبقاء سوريا أسيرة نظام لا مستقبل له، نظام لا يؤمن سوى بلغة القمع وإلغاء الآخر.
يمكن لروسيا الاستفادة الى ابعد حدود من الحلف الذي اقامته مع إسرائيل ومن غياب الاستراتيجية الاميركية الواضحة في الشرق الاوسط عموما وسوريا على وجه التحديد. يمكنها ان تستفيد من الميليشيات المذهبية الايرانية الموجودة في الأراضي السورية الى ابعد حدود ومن التذرع بان ليس في استطاعتها اجبار ايران على الانسحاب من كلّ سوريا. ما لا تستطيعه روسيا في نهاية المطاف تكرار أخطاء الماضي عبر البناء على نظام غير شرعي يظن ان لديه القدرة على اللعب على التناقضات. يظل اللعب على التناقضات شيئا والواقع الشرق الاوسطي شيئا آخر. لو كانت لروسيا علاقة بهذا الواقع لما كانت اخذت سوريا ومعها العرب الى حرب 1967 ولما كان أنور السادات أعاد لمصر أراضيها المحتلة بعد ابتعاده كلّيا عن الاتحاد السوفياتي والمشاريع التي كان يطرحها لكسب الوقت ليس الّا.
من يريد الخير فعلا لسوريا، وبالتالي للبنان، يبتعد قدر الإمكان عن حلف الاقلّيات. هذا الحلف الذي يجمع حاليا بين النظام السوري وروسيا وايران وإسرائيل لا افق له. انّه الطريق الاقصر لتهجير الاقلّيات ولتفتيت المنطقة. هل هذا هو الهدف الروسي من إبقاء بشّار الأسد في دمشق وتوسيع رقعة المناطق التي تسيطر عليها الالوية التابعة له والتي تفتقر اكثر فاكثر الى العنصر البشري؟