المتن الأساسي للخطة الروسية يتضمن التأكيد على أن هزيمة الجهاديين تتطلب جيشا لديه معدات جيدة وتدعمه قوة جوية، وهذا ما يتطابق مع جيش بشار الأسد لا غير.
قطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشك باليقين، وأصر على التمسك ببقاء بشار الأسد في منصبه، وتبرع بالإعلان عن استعداد صديقه لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في سوريا (“مجلس الشعب” تنتهي ولايته في مايو 2016)، واقتسام السلطة مع “معارضة بناءة”.
وقبل القيصر الجديد أكد وزير خارجيته، سيرغي لافروف، على أن “بشار الأسد رئيس شرعي، والجيش السوري هو القوة الفاعلة الوحيدة على الأرض لمحاربة “داعش”. وكل ذلك يعني بوضوح أن الرهانات على تغيير في الموقف الروسي ليست دقيقة على الأقل في المرحلة الحالية (بعض المتفائلين أو الواهمين يراهنون على إمكان قبول موسكو على مدى قصير بفكرة منصب شرفي للأسد، وصولا إلى فكرة الرحيل بعد فترة محددة) ولكن ذلك يعني أيضا، بكل بساطة، رفض رأس النظام السوري مدعوما من حليفه الإيراني لكل تفسير واقعي وعملي لمسألة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي التي نصت عليها وثيقة جنيف 1 التي يربو تاريخ إقرارها إلى 30 يونيو 2012، وما يترتب على ذلك من إعادة المحنة السورية إلى المربع الأول مع استمرار الاهتراء وتقاسم مناطق النفوذ واستمرارية استخدام الساحة السورية في أول نزاع إقليمي – دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين.
في موازاة التشدد السياسي والدبلوماسي، تستعرض روسيا عضلاتها، وتعددت المؤشرات وشهادات العيان على تعزيز الوجود العسكري الروسي في شمال غرب سوريا، عبر إقامة منازل جاهزة الصنع يمكنها استقبال مئات الجنود الروس، إلى بناء برج مراقبة، إلى تكرار رحلات طائرات نقل عسكرية ضخمة. بعد إنكار ومماطلات حول كشف حجم التورط، اعترفت وزارة الخارجية الروسية بذلك بعد منع بلغاريا مرور طائرات النقل الروسية، وتأكيدها أن موسكو قد تدرس تقديم مساعدات إضافية لدمشق في إطار مكافحة الإرهاب.
بيد أن التهافت الروسي أكبر من ذلك بكثير، إذ تؤكد مصادر أوروبية تسلم القوات الجوية السورية مؤخرا 6 طائرات اعتراض من طراز “ميغ 31” يرافقها طيارون وفنيون روس إلى قاعدة المزة بالقرب من دمشق، وتزامن ذلك مع تفريغ طائرة نقل روسية لشحنة من ألف صاروخ كورنيت مضاد للدبابات وصواريخ جو – جو من طراز أر – 33. وربما يهدف هذا التعزيز إلى مساعدة سلاح الجو السوري في منع تركيا من إقامة منطقة آمنة لأنه من المستبعد أن تصل الأمور إلى مواجهة الطيران الأميركي أو الإسرائيلي الذي يتحرك في الأجواء السورية.
وللتدليل على تدفق الدعم العسكري الروسي تكفي الإشارة إلى تسريع القوات البحرية الروسية منذ بداية شهر أغسطس الماضي لرحلاتها نحو الموانئ السورية. وحسب مصدر من حلف شمال الأطلسي، عبرت مضيق البوسفور أكثر من عشر سفن إنزال برمائي روسية، بالإضافة إلى سفن نقل تجارية روسية في طريقها إلى السواحل السورية. وتزامن الأمر مع رصد استخدام الجيش السوري للمرة الأولى مركبة مشاة قتالية جديدة (من طراز BTR 82A) في المعارك الدائرة. كما جرى بتاريخ عشرين أغسطس الماضي رصد عبور سفينة إنزال روسية كبيرة قادرة على نقل عشرين دبابة أو أربعين مركبة مصفحة. ووصل هذا الدعم الروسي اللوجستي جوا إلى مطاريْ دمشق واللاذقية، وبحرا نحو الساحل السوري حيث تمّ أخيرا تعزيز وجود الخبراء الروس في قاعدة جبلة للرصد.
لا يتعدى إعراب واشنطن عن قلقها إزاء تعزيز الوجود الروسي التعبير الروتيني من دون تتمات، لأن الأزمة السورية التي كانت رهينة الحسابات الأميركية قبل الاتفاق النووي مع إيران، ستكون، على الأرجح، في مرحلة ما بعد الاتفاق رهينة بلورة التفاهمات أو تفاقم التجاذبات بين موسكو وواشنطن. والملاحظ أيضا أن غياب ردود الفعل الأوروبية والعربية إزاء التدخل الروسي يدعم وجهة النظر القائلة بوجوب تبني رأي موسكو القائل بـ“ضرورة التحالف مع الأسد (على الرغم من ارتكابات نظامه) لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”، وهذا ما أفصحت عنه تصريحات وزير خارجية النمسا سباستيان كيرتس، التي لم تأت من قبيل المصادفة، بل تعكس أجواء مشاورات تجري منذ فترة بين موسكو وعواصم أوروبية متعددة تتقدمها برلين. وقد لوحظ أيضا تغير الخطابيْن الفرنسي والبريطاني بخصوص الالتحاق بالضربات الجوية ضد داعش وإمكانية التفاوض حول طبيعة دور الأسد في المرحلة الانتقالية.
مع استمرار انخراط المحور الإيراني في الدفاع عن النظام السوري، ومع استمرار التردد الأوبامي (المصالح الأميركية العليا غير مستهدفة واستمرار النزيف السوري ربما يكون إحدى علامات نزاع سوري لم يستنفد وظائفه في اللعبة الكبرى لإعادة صياغة المشرق أو بلورة مستقبله)، تبرز مناورة فلاديمير بوتين، الذي تعوّد على أسلوب القضم بعد التسلل والتدخل كما حصل مع أبخازيا وجارتها في 2008، ومع شبه جزيرة القرم في 2014، عبر الترويج لموقفه الداعم للأسد من خلال الربط بين مشكلة اللاجئين وخطر تصدير الإرهاب وحالة الفوضى في سوريا. والمتن الأساسي للخطة الروسية يتضمن التأكيد على أن هزيمة الجهاديين تتطلب جيشا لديه معدات جيدة وتدعمه قوة جوية، وهذا ما يتطابق مع جيش بشار الأسد لا غير.
على الأرجح سيقنع هذا الترويج البعض في أوروبا والعالم العربي، لكن المملكة العربية السعودية وتركيا، كما باريس ولندن، تبدو حذرة جدا لأن كل التهافت الروسي يهدف إلى إنقاذ الأسد ونظامه، ولا يمهد لحل سياسي في سوريا. وتزداد قناعة المطلعين والمتابعين والمعنيين في الملف السوري بأن أي حل لا يمر على شكل قرار أممي ممهور بتواقيع الكبار وتحت الفصل السابع، لا نصيب له في النجاح في خضم الاستقطاب وتوزع مناطق النفوذ في سوريا.
من خلال هذا الانخراط الكبير وهذا التهافت، ربما أراد القيصر الجديد وريث الاتحاد السوفيتي تكرار تجربة أفغانستان، لكن هذه المرة لحماية النظام الصديق أو منطقة نفوذه الحالية، ويبدو أن في ذلك نسيانا لمصير محمد نجيب الله، رابع رئيس لجمهورية أفغانستان الديمقراطية الشيوعية سابقا، الذي أعدمته حركة طالبان في كابول في 27 سبتمبر 1996.
يغامر السيد بوتين لأن المستوى الحالي من مناخ الحرب الباردة يعطيه الانطباع بحرية حركة في سوريا لا تزعج إسرائيل أيضا والتي يهتم بوتين بأمنها. لكن ترك النزاع السوري يتفاقم لن يكون في مصلحة سيد الكرملين، ومن الصعب تكرار تجربة غروزني في دمشق وضمان نجاحها على المدى المتوسط.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr