مصيبة أوطاننا أن المطروح أمام المواطن على كل المستويات هو نموذج واحد أحد، هو نموذج التخلف، وليس هناك من بدائل أخرى لأنها جميعاً كافرة. رجل الدين في بلادنا يدعم التخلف ولا ولن يسمح بأى حرية، وسيستميت في المقاومة لوأد الحرية، لأنها لو حدثت فستسمح للنماذج الأخري بعرض نفسها في سوق المفاضلة. الحرية ستطرح على الناس ما لم يكونوا يعرفون، لذلك هم مهما علا صوتهم بالحديث عن الحريات، فإنهم لا يقرون أول وأبسط أسس الإصلاح؛ وهو حرية أن تقول؛ أن تتكلم ؟!! أليست الكتب الممنوعة هى مجرد كلمات؟ هى قول ليس أكثر؟
وعندما يقرون بضرورة الإصلاح، فهو ما يعني الإعتراف بخطأ موجود في مجتمعنا الإسلامي، وبما أنهم وحدهم كانوا المسئولين في حلفهم السلطاني عن هذا المجتمع وعن الإسلام عبر القرون الماضية، فإنهم بالتبعية يكونوا هم المسئولين عما آل إليه من تخلف، ثم في نفس الوقت هم ضد طرح أى نموذج آخر في السوق، لأن أى آخر هو كافر زنديق عميل لأمريكا والصهيونية العالمية، إنهم بعد هذه القرون من امتصاص دم شعوبنا والتسلط عليها لا يريدون ترك الفريسة، بحجة حماية الدين، حتي يجهزوا عليها تماماً بامتصاص آخر رحيق للحياة فيها.
ضمن الخطاب الديني السياسي المخاتل، تكريسه المستمر وتسويقه لفكرة أن الإستبداد السياسي القائم الآن في البلاد الإسلامية، ومن قبله الإستعمار الغربي، ثم الآن أمريكا وإسرائيل، هم السبب الأساسي في تخلف المسلمين، لكن الخطاب الدينى بذلك لايقول كل الحقيقة، لأن الحقيقة الكاملة هي في الاستبداد الديني، فالاستبداد ليس شيئاً حديث العهد اخترعته الحكومات الحالية بدعم من دول الكفر لإضعافنا؛ لأن الدول الإسلامية السابقة لم تكن يوماً راعية لقيم الحرية والعدالة والمساواة ولا حتى في زمن الراشدين؛ نتيجة لخضوع الناس للاستبداد الديني.
في عمل بعنوان (استراتيجيات التغير: أنواع القوة وبدائل العنف) للدكتور فتحي أبو حطب، وهنو كما عرف نفسة باحث بشبكة إسلام أون لاين.
[http://islamonline.net/arabic/mafaheemz/2005/10/article02.shtml
->http://islamonline.net/arabic/mafaheemz/2005/10/article02.shtml
]
يقدم الدكتور بحسبانه باحثاً رصيناً بديلاً لمحاولة تغيير الحكم في بلادنا بالعنف، وبطريقة يبدو فيها مفتوناً بالثورة البرتقالية في أوكرانيا، مما ينتهي بإفراغ السلطة بيد الإسلاميين بأقل خسائر ممكنة.
وفي نهاية موضوعه يرصد 139 بنداً تمثل طرق وأساليب الضغط علي الحكومة كألوان إحتجاج لا عنفى…..أبرزها: الاعتصامات رقم 19 وإرتداء الرموز الخاصة 22 والصلاة والعبادة 23 وإتلاف الناس للمتلكات الخاصة بالنظام 25 وإستخدام أسماء وإشارات جديدة 29 والاعتكاف في دور العبادة وفي الأماكن العامة 34 وتنظيم مواكب في المناسبات الدينية 40، والمقاطعة الإجتماعية العامة لكل الأنشطة المرتبطة بالنظام 55، حرمان النظام من التعاون الإجتماعي معه عندما يكون في حاجة إلي ذلك 58، مقاطعة النشاطات الإجتماعية التي يقيمها النظام 61، إضراب الطلاب 62، والعصيان الأجتماعي 63، الهجرات الاجتماعية إلى أماكن ذات دلالة ولفترات معينة 68، مقاطعة المستهليكين منتجات النظام وحجب منتجاتهم عنهم 73، مقاطعة المزودين والوكلاء لإمداد النظام باحتياجاتهم 74، مقاطعة التجار للأنشطة الإقتصادية المرتبطة بالنظام 75، الإمتناع عن تأجير أو بيع الممتلكات للنظام الحاكم وأعوانه 76، سحب الودائع البنكية من البنوك لإعتماد النظام عليها، إضراب الفلاحين 79، إضراب الصدمة حيث يكون مفاجئاً وبلا مقدمات 86، الإضراب بالاستقالة من الهيئات والمؤسسات الحكومية أو المتعاونة مع النظام 89، إضراب عن طريق رفض التأييد للأنظمة 88، سحب الولاء 92، رفض التأييد العام 93، مقاطعة الهيئات التشريعية 95، مقاطعة الانتخابات 96، مقاطعة الوظائف الحكومية 98، رفض مساعدة الأجهزة التنفيذية 101، قطع خطوط اتصال الأوامر والمعلومات، المماطلة والإعاقة والإرباك لمؤسسات الحكومة 110، إذا نجحت قوى المعارضة في لفت الانتباه الدولي لها يمكنها تأخير وإلغاء الأحداث الدبلوماسية مع النظام الحاكم إلى سحب الإعتراف الدبلوماسي به 115، ورفض عضوية النظام في الهيئات الدولية 119، ثم التدخل الجسدي بالاقتحام 125، وإقامة الحواجز اللاعنيفة 127، والاحتلال اللاعنيف للمؤسسات والمباني المرتبطة بالنظام 128، وإقامة مؤسسات إقتصادية بديلة 132.
بينما يبدأ أبو حطب موضوعه بتعريف النضال الشعبي وأسبابه بقوله: “تناضل الشعوب من أجل حق ضائع أو من أجل الحفاظ علي حق موجود يجب عدم التفريط فيه”.
وعندما تربط هذا التعريف بعنوان موضوعه (إستراتيجية التغيير وأنواع القوة.. بدائل العنف) لن نجد الرابط المنطقي المفترض بين ما ينادي به من نضال من أجل حق ضائع ومن بين بدائل العنف لاسترداد ما ضاع. الرجل هنا لا ينادي بثأر أو إنتقام أوإيذاء أو فوز أو بمغانم أو سلب الاخر ما لديه، لأن النضال بهذا الشكل سيكون جهاداً أى عدواناً وغزوا عنيفاًً غير مشروع، كأى فعل سطو مسلح كانت تمارسه قبائل العرب ضد أى اخر.. لذلك يبدو أنه قد إقتحم العقبة، وتمكن من شجاعة ساعدته علي إستبداله بمصطلح النضال. “من أجل حق ضائع”، وهذا الحق الضائع هو ما يريب في منطق أبي حطب، فما الذي ضاع منا وهو حق لنا ونريد استرداده؟ إن الحق المطلوب النضال من أجله يجب أن يكون في الأصل موجوداً أو مملوكاً للناس، ثم ضاع أو تمت مصادرته، أو سبق سلبه حتى يمكناالقول أنه حق ضائع، أما الذي لا وجود له من الأصل، فلا يتصور بأنه سيضيع ثم نطالب باسترداده، فاللا موجود لا يضيع ولا يسترد.
فإن كان هناك شعب لم يعرف الديموقراطية على طول تاريخه ولم تعرف ثقافته معنى الحرية ولا المساواة بمعناها الحديث ولم يسبق أن تذوق طعمها، مثل هذا الشعب لا تنطبق عليه مقولة “تناضل الشعوب من أجل حق ضائع”.
نحن شعوب لا تعرف الديموقراطية لإنها لم تكن لفظاً معلوماً مبنى ولا معنى في مخزوننا الثقافي، فكيف نسعي لاسترداد ما لم نكن نعرف أصلاً؟ فتاريخنا منذ فجر الخلافة وحتى سقوطها، واستمرار الخلافة مستبطناً داخل كل الحكومات الإسلامية الحالية، هذا التاريخ لا يعرف معنى للمساواة فالناس منازل ومراتب، وليس في معجمه شيئاً اسمه الديموقراطية. موضوعاتنا نعرفها جميعاً، موضوعاتنا شعر الفخر بالقبيلة ولو كانت من أضغاث الناس، وشعر الهجاء ولو لكسرى أو لقيصر، شعر يتحدى شعراً فقط، لدينا الجن والملائكة والفقه، لدينا كل كلام ممكن أن يقال، ولكنه كان يصلح لزمنه، أما اليوم فإنه يظل مجرد كلام غير قابل للتطبيق، لأن المجتمع الذي كان يطبقه قد زال من التاريخ منذ أكثر من عشرة قرون.
ومن ثم يصبح خطاب أبي حطب خطاباً مخاتلاً يستخدم عبارات وهمية تتحدث عن أمور وهمية ومطالب غير موجودة.
إن أبا حطب وضع 139 بنداً لأساليب التغيراللاعنيف للاعنيف من أجل التغير السياسي، هي الخراب عينه، بيد شعب تقنن ثقافته المقدسة التي يرعاها أبو حطب للعبودية، وتشرع له السلب والنهب تقنن درجات البُشر “الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى”/ 178 البقرة، مع تبرير التفاوت في تطبيق الأحكام حسب الرتبة الإجتماعية وحسب الجنس ما بين ذكر وأنثى، بمثل يضربه الله “ضزب الله مثلا عبداً مملوكاً لا يقدر علي شئ، ومن رزقناه رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً، هل يستوون ،الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون”/ 75/النحل “صانعاً تفرقة أخرى بين الغني والفقير، بين الغني الذى تسمح له أمواله للإنفاق في سبيل الله فتزداد درجاته وحسناته وبين العبد الذى لا يملك ما ينفق في سبيل الله فيظل عبداً.
إن أبا حطب يقنن ثقافة يرعاها ويريد أن يفرض الجزية علي شركائه في الوطن، ويقر التسري بالجواري وامتلاك النساء، ويرتب المجتمع بالوراثة وبين أشراف وموالي وعبيد وعرب وفلاحين، وأن يطبقه شرعاً يميز طبقياً، هو تقنين لا يدرك المساواة التى هى أساس معنى الحرية التى هي أساس الديموقراطية وعدو الاستبداد الحقيقي بلا منازع.
إن شعباً يعتقد هكذا لا يجد أن شيئاً هناك ينقصه، لا ينقصه سوى سكوت الضمير العالمي عنه حتى يمكنه أن يقيم حدود الله في الأرض ويشرع القطع والجز والعبودية وقهر الجواري وأهل الذمة. إنه يجد نفسه في النظم الاستبدادية لأنه لم يعرف ماذا تعني الحرية، ولم يسبق أن وصفها له أحد ولا حتى أبا حطب وجماعته، إنهم يذكرونه دائماً بأنه عبد عليه الخضوع والطاعة والمبايعة، عليه أن يسأل شيوخه في كل صغيرة وصغيرة، وألا يفعل شيئاً إلا بفتوى، فأين هو الحق الضائع هنا.. أن من لا يملك لا يبحث عما لم يفقده.
تصورنا نحن عن النضال هو أن الشعوب تناضل كي تتعلم حقوقها الإنسانية كبقية خلق الله؛ وأن تكتشف آداميتها، وتعرف ما فازت به البشرية من كرامة للإنسان في بلاد الكرامة والعزة. فازت معظم البشرية عدانا نحن، وأن نفهم كيف اكتشف الإنسان حقوقه عبر فلاسفته ومعلميه. هؤلاء اكتشفوا أسس الديموقراطية أساساً وراء آخر فعلموها أوروبا في عصر التنوير، ثم تعلمتها البشرية وعرفت كيف تؤسس مجتمعاً مدنياً يرتقى بالإنسان إلي كائن حر لا عبد. البداية بأن يرى الناس الحرية كما مارسها العالم والمساواة الحقيقة لا الزائفة، عندما ترى الناس الحرية وتعلم معناها يمكننا ساعتها أن نقول أن لدينا حقاً ضائعاً، جريمة أبي حطب هنا وهى جريمة حقاً، أنه لا يريد لنا أن نرى حريات ومدنية غيرنا، فيأخذنا إلي عالمه السحري إلي حقوق وهمية ضاعت منا مع ضياع زمن الخلافة، لا أعاده الله ولا رده.
واللطيف أن الدكتور يقول: “ولا شك أن تفسير وفهم الحقوق مسألة مرتبطة بدرجة الوعي لدى الشعب، والتي تتفاوت من مجتمع لآخر، وفق منظومته القيمية الخاصة”. ها هو الدكتور يسمنا بمسيم قيمنا الخاصة التي يجب أن تكون هى ماكينة الفرز وميزان القياس والمعيار، هى حاسة تذوقنا المقدسة لتلك الحقوق التى يطلبها للناس. يربط الحقوق والوعى بقيم الشعب، وطالما أن القيم خاصة فسيكون الوعي خاصاً والحقوق خاصة، لذلك فالوعي لن يتسع لحقوق جديدة لم تكن معروفة في منظومة القيمة الخاصة. ووفق قيمنا الخاصة علينا بداية قبل أن نبدأ النضال، بتضييق الممكن قي حقوق الإنسان والمرأة والعمال وحريات العبادة والتفكير والتعبير، لأن ذلك كله جاء في العصر الحديث والمعاصر ولم يكن معروفاً في منظومتنا القيمية الخاصة. ونصل إلى نتيجة هى أننا إذا إلتزمنا بقيمنا الخاصة فلن يكون لنا حق ضائع نناضل من أجله لأن قيمنا ليس فيها من تلك القيم الحديثة شيء.
المهم ما هو المأمول إذاً؟ وما هو الغرض النهائي لذلك النضال اللاعنفي؟؟
يقول الدكتور: “هو ممارسة أشكال ضغط متنوعة تؤدي إلى ردع الخصم أو تعديل مساره أو تحجيم قوته أو هزيمته”. الهدف النهائي لهذا النضال هو ردع الخصم الذي هو الحكومة، وكأن هدف هزيمة الحكومة وإسقاطها سيؤدي إلي تحقيق فوري لآمال البلاد والعباد، فإن ذهبت الحكومة ظهرت شمس الحريات والديموقراطية من خدرها يزفها العدل والقانون زوجاً للمساواة والتسامح والسلام.
هنا تعود الذاكرة إلي صاحب الزنج عبد الله بن علي بن محمد الذى قاد ثورة عظيمة ضد الخلافة العباسية بمئات ألوف العبيد، واستولى علي مساحات شاسعة من أرض الخلافة وعامل العرب المهزومين بالشريعة الإسلامية، فاستعبد نساءهم وباع أطفالهم في الأسواق، فهو كمسلم لم يتصور أن هناك نظاماً أفضل من نظامه الديني، وكانت المفارقة أن كل ما تبدل هو الأشخاص، السيد أصبح عبداً والعبد أصبح سيداً، لأن عبد الله بن محمد لم يتجرأ على اكتشاف أن العيب في الثقافة نفسها، في النظام، في المجتمع كله.
لقد ثار عبد الله الزنجي بغرض إصلاح أوضاع رأها فاسدة هو وجيوشه، لكنه لم يكتشف أن إلغاء الأوضاع الفاسدة بما فيها العبودية يكون بإلغاء القانون المشرع لها، ولهذا ثارت النخوة العربية في كل الإمبراطورية وأرسلت كل الدعم للإمبراطورية العربية لهزيمة صاحب الزنج الذي تجرأ وطبق قوانين العرب على العرب، وركب نساءهم وأسر رجالهم واستعبدهم. إن مجتمعاتنا تحتاج أن تعلم أن هناك سلوكيات وممارسات غير ما يقول لهم أهل الدين تؤدي إلي إصلاح حال البلاد والعباد. وأن للناس الدور الأول في تعيين حاكمهم، لا أن يذهبوا بعد تعيينه ليباركوا له فيما يعرف بنظام البيعة، فطالما نتحدث عن الشورى والببيعة، فلا حق ضاع منا حتى تاريخه حتى نطلبه بالتغيير اللاعنفي الذي هو كارثة كاملة وخراب كامل للوطن وفق البنود التي وضعها أبا حطب لهذا التغيير المسالم الأليف.
إن الحقوق التي تتحدث عنها البشرية الآن هي شأن جديد مكتسب لم يأتهم منحة من أحد في الأرض أو في السماء، ولم تكن معروفة عند السلف، اكتشفها مفكرون من غيرنا، لذلك يجب أن نفهم من خطاب أبي حطب إنه يطالبنا بالنضال وتدمير المجتمع كله لقتل الحكومة الفاسدة…………. بقتل الوطن، كي نستعيد حقوقنا، وحقوقنا هى أهل الحل والعقد والبيعة والشورى والخلافة والولاه والجزية والسبايا والعبودية في ثوب معاصر.
إن الدكتور أبا حطب يريد أن يقيم صراعاً داخلياً وأن يشيع خصومة بين الشعوب المسلمة وبين حكوماتها، ويتمنى أن ينتهي هذا الصراع بتعديل في المسار، بينما سقوط الحكومة نفسه لن يتغير أو يعدل أى مسار، فتعديل المسار يكون بتعديل الثقافة جميعاً، ويأتي بالتعلم والتثقيف بثقافة الحرية والتحلي بصفات العقل الحر، والاطلاع علي منجزات الشعوب الأخرى وكيف تمكنت من نيل الديموقراطية، وما هى الديموقراطية، وما الفرق بينها وبين الشورى؟ وإن عقلا لم يتمكن من معرفة هذا الفرق لا يحق له أن يطلب شيئاً لم يضع منه لأنه لم يكن يملكه أصلاً. وعليه أن يتساءل لماذا يأخذ كل ما هو نافع من كل بلاد العالم، بينما هذا العالم لم يأخذ منا أى شئ خاصة الغرب المتفوق: لم يأخذ بنظام الشورى والبيعة، وعليه أن يفهمنا ما هى المساواة وما هو الحق وما هو الخير وما هى حقوق الإنسان والمرأة والطفل والعمال، ما هى قوانين الحرب المعاصر وما الفرق بينها وبين حروبنا المجيدة السالفة. إن تعديل المسار هو ذات نفس العقل الحر.
إن نظرة سريعة على بنود أسلحة النضال اللاعنيف التى سجلها الدكتور تعطي للصورة خلفية هندية بريطانية من زمن غاندي، يذكرنا بنضال الهند ضد الإستعمار الإنجليزي نضالاً سلمياً بالعصيان المدني المستمر، بهدف تدميرالإقتصاد وتحميل الإستعمار تكاليف باهظة تجعل إستمرار وجوده بالهند مكلفاً مما يضطره إلي الجلاء.
ومثل هذا النوع من النضال إنما يريد تخليص تراب الوطن من الإستعمار مع بقاء الوطن على حاله إن لم يأخذ بفلسفات جديدة. ومثل هذه الصورة الاستعمارية لم تعد موجودة، ولم تعد هناك حاجة لغاندي وفلسفته، نحن في حاجة لفلاسفة مصلحون يعلمون الناس الطريق نحو النور، فإن تنور الناس اصبح بإمكانهم الفرز بين المخاتل وبين المخادع وبين المراوغ، ولأمكنهم التخلص من رهاب القداسة، إن أسلحة النضال اللاعنيف المطلوبة هي أسلحة عصر التنوير الأوروبي.
إن العودة إلى طريق غاندي لن تكون في حالتنا ضد مستعمر بل هي ضد حكومات الوطن، وإسقاط النظام الممسك لأشتاتنا دون بديل، عندما مات النبي فجأة ولم يحدد للصحابة شكل النظام ولم يعين له خليفة، ذبح الصحابة بعضهم في الفتنة الكبرى، وسقوط الحكومة اليوم هو استعادة للفتنة الأكبر، هو دمار للمجتمع لأننا لسنا صحابة ، ولو كانت الفتنة الكبرى قد أفادت البشرية لأخذت بها بقية الدول بتشغيل الدين في السياسة والصراعات المصلحية.
إن ما يعرضه (أبو حطب) هو ضد المجتمع والدولة وليس ضد الحكومة، إنه ضد الأرض كلها. يريد تدمير المجتمع المصري لأنه لا يريد حسني مبارك؟! البنود التي طرحها تكاد تطابق في بعض جوانبها مع رؤية جماعة التكفير والهجرة للمجتمع. ان بنود الدكتور في النضال اللاعنيف لا تقيم عندنا إصلاحاً بل تقيم خصومات وثارات ومواجهات وحرب أهلية، من أجل تغيير أشخاص الجالسين علي الكراسي فقط، رغم أن الخلافة العباسية أزالت الخلافة الأموية والخلافة العثمانية أزالت الجميع، ولم يحدث أن طرأ أى تحسن علي أحوال المواطن ولا ظهر شئ عن حقوقه السياسية أو الإنسانية، فظل العبد عبداً والمولي مولي والحر حراً والعلج علجاً واليمني يمنياً والقرشي قرشياً.
نتابع قراءة الموضوع إذ يقول سيادته: “يمكن القول بأن الإختلاف بين أشكال النضال هو في حقيقة الأمر إختلاف في تفسير مفهوم القوة (القدرة) حيث يرى أنصار النضال العنيف والمسلح القوة في صورتها الأولية والنمطية المتمثلة في الإيذاء المادي للخصم، وهو أمر لا يمكن معارضته ونحن نتحدث عن حق الأمة في الدفاع عن وطنها المحتل، كما هو الحال في العراق وفلسطين”. ها هو الرجل عاد إلى مقعده الوثيرإلي زمن معني القدرة البدائي معطياً الشرعية للمناضل العنيف، فلماذا كل وجع الدماغ في موضوع حمائمي المظهر يتحدث عن النضال اللاعنفي؟ وإذا كان قد جعل الحكومات في البلاد الإسلامية الحالية مساوية للاستعمار ويطالبنا النضال ضدها علي الطريقة الغاندية، فما له لا يطبق ذات المبدأ علي الاحتلالين الإسرائيلي لفلسطين والأمريكي للعراق؟ بالأخذ بمبدأ النضال اللاعنفي؟ وهو بالمقياس علي كل الظروف سيكون هو الأجدى هنا والأكثر عائدية.
ثم وزيادة علي ذلك أنه إذ يعرض لنا مفهوم اللاعنف كمخالف للعنف المسلح في صورته الأولية المتمثلة في إيذاء الخصم، فإن الأسلوب الذي عرضه علينا هو عنف لتدمير أسس المجتمع كله، يدمر المجتمع كله للتخلص من آفة إصابته. إن ما يعرضه سيادته سيؤدي بنا إلي هولوكوست وطني.
أما بشأن العراق وفلسطين، فلو كان الرجل صادقاً حقاً مع اللاعنف لتذكر أن عالم ما قبل الحرب الثانية غير عالم ما بعد الحرب الباردة، وأن عالم ما قبل سبتمبر 2001 هو غير ما بعده، فقد أصبح حق الدفاع عن الشعوب المحتلة إن وجدت، هو حق المجتمع الدولي، تقوم به هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وقد تحررت دول عربية كثيرة عن هذا الطريق من اليمن إلي كل دول الخليج. خاصة وأن مشكلتي العراق وفلسطين لم تعودا محليتين، إنما إتخذنا بعداً دولياً.
ولتذكر أيضاً أن محاولات مصر بجيشها وجيوش بعض الدول العربية مدعومة من الجامعة العربية، لم يتمكنوا من فرض إرادتهم فوق الإرادة الدولية، وفي النهاية تم حل معظم مشاكلنا عن طريق الهيئات الدولية، وفقاً لرؤية المجتمع الدولي وليس طبقاً لرؤية الدول العربية وجيوشها وجامعتها.
ان رؤية الدكتور أبي حطب في النضال اللاعنيف من أجل الاستيلاء علي السلطة تقوم علي توظيف قوي المجتمع كلها للتصدي للنظم الحاكمة بنفس الأساليب التي تواجه به قوى الإستعمار. فإذا كانت الحكومات تتصرف بأساليب غير صائبة وبها عيوب، فإن مواجهة ذلك يكون بالتقويم والعلاج وطرح الحلول البديلة، أما إذا كانت عيوب الحكومات في المنهج وأنها معيبة في أمانتها، وفي ولائها لشعبها ووطنها، فإن هذه تكون عيوباً قيمية أجتماعية هى بنت ثقافة المجتمع، ولذلك مهما قمنا بإستبدال الحكومات فلن يتغير في الواقع شئ سوى خسائر تحدثها القلاقل الإجتماعية المصاحبة لذلك التغير. إذا كانت الحكومات فاسدة مستبدة، تفكر بطريقة تؤدي إلي خسائر وطنية في الأرض أو الكرامة والإقتصاد، فتلك أمراض نابعة من ثقافة تهيمن علي المجتمع بأسره، بما فيه الحكومات وشعوبها، قيم مريضة ترفع الدين فوق الوطنية وتحكم الناس بأساليب بدائية. في مثل تلك الحال التى هى حالنا لا نكون في حاجة إلى النضال اللاعنيف الذي يقترحه أبو حطب، لأنه سيضيف هدماً ودماراً إلي كيان ذلك المجتمع المريض ثقافياً ويعاني هو وحكومته ومثقفيه من ضحالة فكر، وعدم تحديد دقيق لمفاهيم الحريات والحقوق والمساواة، ويكون في العصيان المدني المطروح القضاء التام علي هذا الكيان المعتل بألف علة. إنه بحاجة لإحلال ثقافة الحب محل ثقافة الكراهية؛ ثقافة الوطن محل ثقافة أمة لا إله إلا الله، ثقافة الحرية محل ثقافة العبودية، ثقافة المسلم المستنير المسالم مكان ثقافة الدم.
في مصر منذ سبعة آلاف عام، بلغ بها الإستقرار مبلغاً كانت تسوده ثقافة التسامح والحب وكراهية القتل والتدمير، ينصح الفلاح ولده قائلاً: “لا تغضب علي ولدك.. لا تغضب علي زرعك”. إنه النصح بعدم الإنفعال الذي يضل بصاحبه السبيل، بعدم الغضب المؤدي للكراهية والخسائر. الزرع كالولد سواء بسواء في المعاملة، الغضب علي الولد والزرع يدمر المجتمع، لذلك إذا جفت ساق النبتة وآلت إلي ذبول كان لا يغضب، فيقلعها من جذورها ويتخلص منها، إنما كان يدعمها بساق آخر سليم ويفسح لها التربة لتتنفس ويجبر جرحها ويغني لها أغاني الحب حتى تستقيم، فكانت ثقافة الحياة وليس ثقافة الموت، ثقافة الحب لا الكراهية، فأين مصر اليوم بعد إعادة فتحها بالمذهب الوهابي. إن ما يطرحه الدكتور من توظيف للنضال اللاعنيف لتغيير أنظمة الحكم هو نوع من الإتقلاب تقوده الجماعات السرية التى ربما تنتهي إلى تغير شكل النظام مع بقاء الجوهر كما هو، فالنضال دون تقديم فكر جديد وفلسفة جديدة هو إستبدال الخليفة بعبد الله بن محمد صاحب الزنج ليس أكثر، مع كل الخسائر المفترضة.
نقرأ المزيد لنفهم، يقول الدكتور: “إن السبب الرئيسي وراء العجز وسلبية بعض الشعوب، هو هذا الاعتقاد السائد بأن العنف هو الأسلوب الوحيد للمواجهة وهو أمر غير صحيح، فالعنف لم يعد خياراً مطروحاً ولا مقبولاً في رحلة بحث الشعوب عن لحظة خلاصها من أنظمتها السياسية المستبدة، وأصبح العنف واحداً فقط من خيارات كثيرة، ربما صارت أكثر فعالية وتأثيراً من الإنقلابات والثورات”.
ها هو يعترف بهدؤ لكن دون أن يشير لمن يمكنه دعم نضال الشعوب السلمي، هو يقول إن العنف لم يعد خياراً مطروحاً ولا يقول لنا لماذا، الإجابة الواضحة أن الضمير العالمي الراقي بمؤسساته أصبح كاشفاً له، إذا قارنه بغيره، ثم يقول: “فمساوئ إستخدام العنف تتمثل في النقاط التالية: 1-تتفوق الأنظمة الدكتاتورية في مواجهة خيار العنف بل وفي توظيفه لصالحها. 2- تكلفة عالية علي المستويين البشري والمادي.3- خيار العنف يفقد الدعم والتعاطف الشعبي والدولي علي المدي الطويل”. لهذا يطرح بديله (النضال اللاعنيف) منعاً لهذه الخسائر التي يسببها النضال العنيف.
هذا الرجل من المتأسلمين لكنه يقر بتغير الواقع ويراه بعيون مادية بحت، لا تنتظر ولا ترجو قرب وقوع أى معجزات أسطورية كما يفعل بعض المشايخ بأنتظار الطير الأبابيل وويوم يتكلم شجر الفرقد، وهو في حد ذاته أمر محمود، لكنه لا يرى أن الأنظمة الإستبدادبة لا تقوم إلا في بيئة صالحة لها، تغذيها وترعاها وتنميها وتمنحها رحيق الحياة والاستمرارية، بدليل عدم ظهور هذه الأنظمة في بريطانيا أو أمريكا أو إسرائيل، فالنظام الاستبدادي لا يظهر ولا يوجد إلا في مجتمع قابل للاستبداد مؤمن بفلسفته. والحكمة القديمة تقول: “إن شعباً من الخراف يخلق حكاماً من الذئاب”، فالنظم تفرزها حركة المجتمع وثقافته، ويقوم علي هذه الثقافة المفكرون والفلاسفة، وعندنا يقوم عليها المشايخ والإخوان، يفكرون لنا بفكر ابن كثير وابن القيم وابن تيمية وبقية الأسماء اللوامع من موتى التاريخ؛ بثقافة تسوق الناس بالزواجير والسياط إلي جنة النعيم، مثل هذة الثقافة يمكنها اليوم أن تؤدي إلي اعتياد وجود المعتقلات والسحل والهتك وتدمير الناس بالشبهات، لأنها تقوم علي عقائد في الضمائر تقبل دون أن تشعر بأى جزع بقطع اليد وجز الرقبة وتهشيم الرؤوس رضخاً بالحجارة وسوق النساء إلي أجنحة الحريم والأطفال إلي أسواق النخاسة، مثل هذه الثقافة لا تجعل المواطن يري في المعتقل شيئاً عجبا. مثل هذه الثقافة تجعل الأدني يتماهى في نفسية العبد ويقبل بها، وتحول الوجهاء والمشايخ والسلاطين إلي سادة بالحق الإلاهي في تقسيم الأرزاق وتحديد من يكون السيد ومن يكون العبد، إن ثقافة أول ما تعلم الطفل تعلمة آيات كيف يكفر عن ذنبه بعتق رقبة، تجعل وجود الرقبة اعتيادياً في النفس والضمير.
elqemany@yahoo.com
* القاهرة
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونبة من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومى الخميس والجمعة
التغيير اللاعنيف أم الخراب العاجل؟ (1 من 2)
الدكتور القمني يرى خراب مصر في اعادة فتحها بالمذهب الوهابي في حين ان خراب الدول الاسلامية كلها بسبب دينها و تدخله في الشأن العام في العصور الحديثة لتطور البشر قبل ان تأتي بعض المذاهب السلفية الحديثة. من السخف التركيز على الفروع (النتائج) و نسيان الاصول (الاسباب الجذرية) في التحليلات الخاصة بانحطاط حضارة ما . الحضارة الغربية وصلت الى ما وصلت اليه بعد ان اعادت الدين الى الشأن الشخصي والخاص وحرمته على الشأن العام…