دعنا نتخيل أن القطار الذي حمل لينين من سويسرا إلي روسيا عبر ألمانيا عشية الثورة البلشفية، اتخذ الطريق المعاكس إلي الحجاز عبر ألمانيا فتركيا فبغداد، تري هل كان ممكناً لهذا المنظّر والمنظم الماركسي الفذ أن ينقل مجتمع الحجاز ولو خطوة علي طريق التحديث بله الثورة؟
بالطبع لم يكن هذا ممكناً، ذلك لأن الظروف الموضوعية للحجاز كانت تفتقر إلي العناصر التي توفرت لروسيا في ذلك الوقت، فليس ثمة رأسمالية ولا بروليتاريا ولا حتى إصلاحات شبيهة بتلك التي جرت في عهد القيصر الاسكندر الثاني(1855 إلي 1881) بمقتضيات التطور الصناعي حيث حٌرم الرق ، وأنشئت الحكومات الذاتية في الأقاليم،ومٌدت خطوط السكك الحديدية,ووضع نظام متطور للتعليم….الخ. فكانت تلك كلها إصلاحات نقلت بالفعل روسيا المتخلفة إلي مشارف الدولة الحديثة. وأما بالنسبة للحجاز، فلم يكن شيء من هذا قد حدث إطلاقاً، فماذا كان علي لينين أن يفعله سوى أن يجلس كسائح في شرفة فندقه، محتسيا ً الشاي ومدخنا ً سجائره المصرية المفضلة!
والمغزى أن الظروف الموضوعية،والتي تتمثل في الواقع االديموجرافي ودرجة التطور الإنتاجي وبالتالي الاجتماعي والسياسي, هي التي تسمح أو لا تسمح للأفراد- أيا كان شأنهم- أن يحققوا من خلالها مشاريعهم وأمانيهم.
فإذا صحت هذه الرؤية للأحداث التاريخية الكبرى- وهي صحيحة من وجهة نظر علم الاجتماع- لانتفت نظرية المؤامرة التي تتبناها اتجاهات ما قبل الحداثة Pre-Modernism تلك التي تتغلب عندها العوامل الذاتية علي ما هو موضوعي لا غش فيه.
ومن هنا فإن قول القائلين بأن التعديلات الدستورية الأخيرة والتي جرت في مصر، ليست إلا تمهيداً لمبدأ توريث السلطة، يغدو محض تخمينات، أو علي الأكثر يبدو كمناورات سياسية هدفها نقل الخصم السياسي إلي خنادق الدفاع ، أو تشكيلات غير فنية تنقش بالألوان على حائط تبرئة الذمة. بينما هي في الحساب الختامي تعبير عن التقاعس، وازورار عن العمل الجاد القاصد إلى استثمار الظرف المتاح، تحقيقاً لأهداف تحريرية طالما كبلها التاريخ.
و الحاصل أن حركة التاريخ في مصر، كما قد تبدو للرائي غير المدقق، تكاد أن تكون جامدة تماماً، وهي كذلك بالفعل عند من يؤمنون يعرف بديمومة “النمط الآسيوي للإنتاج” Asiatic mode of productionالمعبر عن أشكال الحياة في مجتمعات الزراعة علي حوض النهر الواحد،أو حتى الحوضين، إذ يحتاج الناس لدواعي الإنتاج واستقراره إلي حكومة مركزية قوية، ما تلبث حتى تتحول إلي دولة شاملة ، وتنبثق عن شموليتها فكرة ألوهية الحاكم ومعصوميته مقابل هامشية المحكوم ورضوخه القانع.
والحق أيضاً أن هذا النمط لا غرو متسبب في طبع الجميع بطابعه التراتبي الهيراركي ابتداء برأس الدولة وحتى رأس العائلة أو الأسرة، فالكل مستريح إلي وضعه ولا يحبذ غيره بديلا. هكذا ظلت مصر خاضعة للفراعنة ثم للإغريق فالرومان فالعرب الولاة والسلاطين، مكسوة ً بثقافة “الاستقرار خير وأبقى”.
بيد أن الغائب في تلك الرؤية التي تكرس ” الثوابت” المتوهمة، وتأبي الاعتراف بالمتغيرات الملموسة Concrete، أن المجتمعات الإنسانية ليست نظماً مغلقة علي ذاتها – بل ولا يوجد في الكون بمجراته وإلكتروناته ما يمكن أن يسمى بالنظام المغلق – وآية ذلك أنه منذ ولدت الرأسمالية مع مشارف القرن السادس عشر، راح التغيير يكتسح النظم الإقطاعية في أوربا حتى أطاح بها جميعا، ليس النظم فحسب بل وثقافتها أيضاً. ومع الرأسمالية انطلقت حركة الاستعمار تفتح الأسواق في كل مكان علي الأرض، وكان طبيعياً أن ُ تنشيء تلك الحركة ُ صناعاتٍ معينة ً في بلدان المواد الخام ذاتها، الأمر الذي شجع هذه البلدان على إقامة صروح خاصة بها، لكي تلحق بركب التطور الذي أبصرته يمر أمام أعينها مرور الضوء في الظلام.
في ذلك التدفق التاريخي فإن محمد علي والي مصر بتحد ٍ منه لمبدأ النمط الآسيوي ؛ ما لبث حتى ارتدى تحت عمامته العثمانية قفاز ” الأوْرَبة ” Europization مندفعا ً إلى” تصنيع الأرض الزراعية” من خلال زراعة القطن، حيث مثل القطن نفس الدور الثوري لاكتشاف البخار في أوربا، وبهذا ظهرت حاجة البلاد إلي أسواق لتصدير منتجات النسيج، فكانت الحروب التوسعية لدولة محمد علي أمرا ً منطقيا ً. ولعل هذا أن يفسر أسباب صدام محمد علي مع انجلترا في النصف الأول من القرن 19 وقد أدت الهزيمة إلي انكفاء مصر علي نفسها لعقود تالية، تلعق فيها جراحها وتحاول الخروج من الأزمة المالية الطاحنة بفعل الإنفاق العسكري علي الحروب العديدة التي خاضتها البلاد، وأيضاً جراء إغلاق الأسواق الخارجية في وجه المنتج المصري الوليد.
هنا لم يكن أمام الدولة من سبيل سوي أن تقلص من احتكارها لملكية الأرض الزراعية ببيع جزء كبير منها للأعيان وللتجار وكبار الموظفين وضباط الجيش, ومن أجل ذلك صدرت اللائحة السعيدية عام 1852 وقانون المقابلة عام 1857 لتظهر بعدهما طبقة ملاك زراعيين، سرعان ما طالبت بالمشاركة في السلطة، بل وعمدت بالتحالف مع الضباط” المصريين” إلي انتزاعها بالفعل فيما يعرف بالثورة العرابية. حينها أصدر مجلس النواب المصري أول دستور للبلاد عام 1882 أساسه إرادة الأمة، ومبناه الحياة الديمقراطية. ولكن ، مع فشل الثورة ووقوع البلاد في قبضة الاحتلال البريطاني تم حل هذا المجلس وجرى تعطيل ذلك الدستور.
وبالرغم من هذا، بل وبسببه اندفع المصريون وراء طبقة بورجوازية ولدت في خضم الصراع الدولي بين القوي الرأسمالية في العالمية الأولي، كان هدفها تصنيع ورسملة البلاد، والمساومة من خلال الثورة للحصول علي موطأ في سوق التجارة العالمية،فكانت ثورة 1919 تأكيداً على صحة ارتباط التغيير في الواقع الإنتاجي بالتغيرات السياسية، حيث أجبر الملك فؤاد علي إصدار دستور ديمقراطي حقيقي عام 1923 تمخضت عنه حياة حزبية وسياسية شديدة الثراء.
فإذا انتقلنا إلي مرحلة ما بعد 23 يوليو 1952 فمن الجلي أن نرى كيف استطاعت الدولة أن تستعيد كامل هيمنتها علي البلاد، وذلك من خلال قيامها بتأميم الشركات الصناعية والبنوك والتجارة الخارجية، مستعيدة بذلك هيئة الفرعون الأب البونابرتي المسئول وحده عن أبنائه الرعايا، الذين سيكتفون بالهتاف له، معرضين، طواعية أو كرها ً، عن تنمية قواهم الذاتية. وذلك، في حد ذاته، كان قميناً بجلب الهزيمة العسكرية الثانية،ومن ثم اضطرت الدولة للمرة الثانية، للتخلي عن ملكيتها (القطاع العام) سداداً لاستحقاقات الحرب من ناحية، ومن أخري استجابة لضغوط الفئات “المريّشة ” الجديدة، والمرتبطة بالغرب ولو في صورة الوكلاء التجاريين. وكان ذلك كله خليقاً بمولد حياة سياسية مختلفة، حلت فيها الأحزاب محل التنظيم الواحد، وانتقلت بها الدولة من موقع المهيمن الأوحد إلي موضع المتصارع مع من انفتحت شهيتهم على وراثتها،حيث أطلقوا علي أنفسهم اسم اللبراليين الجدد! فضلا عن استمرار نظام الحكم اليميني التوجه في تحجيم قوى اليسار [التي اعتراها الضعف فعليا ً] والقوى الدينية – الأكثر يمينية بما لا يقاس – الصاعدة على درج حقبة السبعينات السعودية، وتحت مظلتها النفطية الخضراء.
وبقدر ما عكس دستور 1971 حقائق الصراع بين هذه القوي جميعاً، بقدر ما جاءت تعديلات 2007 معبرة عن مرحلة جديدة من مراحل التغيير الاجتماعي بالداخل، ومحاولة التوافق مع القوي العالمية ذات المصالح بالخارج. فالمادة الأولي مثلا ًتشير إلي ضرورة اندماج الأقباط في العمل السياسي، وبالموازاة تستحث الإضافةُ الواردة بالمادة الخامسة الأخوان “المسلمين” للتغير في اتجاه النموذج التركي، في حين تمثل تعديلات المادة الرابعة والمادة الرابعة العشرين وإلغاء المادة 59 انعتاق الدولة و المجتمع من فلسفة النظم الشمولية المسماة خطأ بالاشتراكية، وفي هذا إلماح لمقاربة ، طالما ُاستهدفت، مع النظام العالمي [ القبيح ولكن الوحيد ] مقاربة ٍ من شأنها أن ترفع الكثير من حواجز البيروقراطية أمام تدفق الاستثمارات المالية ونقل التكنولوجيا المتطورة للبلاد ، باستعداد من الدولة ذات الخبرة العريقة، لتحمل مغارم هذه الفاتورة الضرورية والخطرة في آن.
ويبقي القول بأن القراءة العميقة لما هو مسكوت عنه في تضاعيف النصوص إنما تؤكد علي أن الفاعلين الاجتماعيين- وعلي رأسهم الدولة طبعاً- الذين أنتجوا تلك النصوص من واقع توازن القوي بينهم، لا ريب يتعاطون، واعين أم غير واعين مع ما أسميناه في بداية المقال ” الظرف الموضوعي” وهو ظرف تتغير عناصره بسرعة غير مسبوقة، خاصة بعد انفجار الأزمة المالية العالمية الحالية. يتمثل هذا التغير في انكشاف عورة النظام الرأسمالي بما أجبر دوله ذاتها على التسليم بضرورة تحجيم آليات السوق يذلا من تركها “سداحا ً مداحا ً”، ويترتب على ذلك إعادة النظر في ” روشتة ” صندوق النقد الدولي المفروضة على بلدان العالم الثالث التي ُتستحث لبيع قطاعها العام بأرخص الأثمان. هذا الظرف الموضوعي أسهمت في إنضاجه يقظة ُ الشعوب ورفضها المتنامي أن تكون وقودا ً لحروب يشعلها الرأسماليون للخروج من أزمة الكساد العظيم عبر ملايين الكيلومترات من الجثث البشرية، وفي هذا السياق تتألق لافتات جماهير ” سياتل ” و”ديربان ” و” بورت إلليجيري ” جنبا ً إلى جنب استعادة الثقة في برامج أحزاب الدولية الثانية الاشتراكية الديموقراطية، إلي درجة تشي بقرب وصولها للحكم تباعا ً في الانتخابات القادمة في أوربا.
في هذا المُناخ الجديد قد ُيسمح للقوي السياسية ذات التوجه اللبرالي الأصيل في مصر، والقوى اليسارية من قبلها أو من بعدها أن ” تنشكع ” بعد طول يأس، وأن تتحرك بعد عقود من السُبات ، شريطة استيعابها دروس التاريخ، حيث لم يعد مقبولا ً إعادة إنتاج نظام شمولي معاد للديمقراطية [ مثاله الناصرية أو عسكرتارية الوالي ] ولا مطلوبا ً كبديل له ارتهان المستقبل بنموذج ماضويّ عنوانه : الإسلام السياسي، الذي يغازل اليوم المخايلةَ الشعبوية َ بتوهمات القوة في أرض فارس.
ولعله حين تنجح هذه القوى اللبرالية واليسارية في الإفادة من ذلك الظرف الموضوعي الجديد في آفاقه العالمية وتجلياته المحلية، أن يكون للتعديلات الدستورية القادمة شأن آخر، وياله من شأن.
Tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
التعديلات الدستورية القادمة في مصرعندما بركع الجمل تكثر السكاكين!! من الوهلة الأولى أو الآن يبدوا كأنة “11سبتمبر” للمرة الثانية يعري الرأسمالية الأمريكية- وينزع عنها قناع الجبروت – والنظام اللبرالي الاقتصادي الجديد, الذي يشبه هرم ضخم تقف على رأسه أمريكا ذات الاقتصاد والقوى العسكرية بدون منازع بعد الحرب الباردة . فادا أمريكا كانت رمز الحرية و الديمقراطية في بداية الفرن العشرين فإنها اليوم لا تعد لا هدى و لا دلك مما كانت تحمله. نفس الشيء أوروبا التي كانت احد اعتي الأنظمة الاستعمارية حتى بداية القرن العشرين قد أصبحت في منصف القرن الماضي إلى مجزرة جماعية رهيبة داخلية( أوروبية) , اليوم هي… قراءة المزيد ..
التعديلات الدستورية القادمة في مصر
إذا لم يتم إلغاء المادة الثانية من الدستور المصري فلا قيمة لأي تعديلات . الدولة المصرية بوضعها الحالي عبارة عن كائن أشبه بالخنثي ، فلا هي دولة مدنية ولا هي دولة دينية . وهذا هو سبب الإضطراب التشريعي والقضائي . أعرف قاضيا لا يحكم بالقانون ولكن يحكم بالشريعة الإسلامية حتي في القضاياالجنائية والمدنية وذلك خلافا لقوانين الدولة ، ومع ذلك لم يجرؤ وزير العدل على مراجعته . الفتن الطائفية تزداد اشتعالا كل يوم . ماذا ننتظر ؟ هل نهاجر ؟ هل نقاوم ؟ ومن يساندنا إن قاومنا ؟ الدولة ؟ اقرأوا تعليقي من بدايته .
التعديلات الدستورية القادمة في مصر
تحليل دقيق ، ومتفائل وأهم ما فيه أنه يضع مهمة التغيير على عاتق اليسار بمعناه الواسع . بالطبع لا مجال للتنظيمات التحتية حيث أن ضررها أكبر من نفعها، حيث تربي أعضاءها على نبذ الديمقاطية ، وتجربة الحزب اللينيني في روسيا لم تسفر الا عن رأسمالية دولة قومية ذات مصالح ، وليس دولة اشتراكية ، وذلك ما فهمته من مقالات الأستاذ مهدي القوية جدا . أما عن الأزمة المالية العالمية الراهنة فسوف يتم تجاوزها على حساب فقراء العالم مما يفتح الباب لنضال يسار عالمي جديد. وشكرا لكاتبنا الكبير.
التعديلات الدستورية القادمة في مصر
أتوقع صعود اليسار المصري خلال الحقبة القادمة ، وذلك يذكر بفترة الأربعينات التي استفادت مما جرى في ازمة الكساد العظيم ، ولكن يجب الحذر من أسلوب الرأسمالية المفضل وهو لجوئها للحرب .
التعديلات الدستورية القادمة في مصر
إذا تمكن اليسار المصري من الإفادة من المتغيرات العالمية ، وأولها تراجع الهيمنة الأمريكية بفضل الأزمة الراهنة ، فلاشك أن شيئا ً ما سوف يحدث على الساحة السياسية في مصر يترجم إلى تعديلات دستورية جديدة تعالج الهوار الذي رأيناه من قبل سواء في دستور واحد وسبعين أو في تعديلاته التالية . وبهذا أنا أتفق مع الكاتب في ربطه بين الظرف الموضوعي والشروط الذاتية التي تعمل في إطارها لستصحابا
وإنضاجا ً . وشدي حيلك يا بلد.