من يتذكّر تاريخ إرتداء النساء للبنطلون، بصفته رمز حرية؟ من يستحضر الحرب التي تقودها “داعش”(“دولة سوريا والعراق الاسلامية”) اليوم في مدينة الرقة السورية ضد مواطنة رقاوية تصر على الخروج بالبنطلون؟ أو “صحافية البنطلون” السودانية، لبنى أحمد حسين، التي تعرّضت لعقوبة الجلدْ على يد سلطات البشير الإسلامية، بسبب بنطلونها، وفرّت من بلدها هربا من ملاحقات “بنطلونية”؟
المسألة تعود الى مئتي سنة خلت، عام 1829، عندما قررت الأديبة الفرنسية أورور دودفات، أن تغير إسمها، بحيث يصير جورج ساند، وترتدي البنطلون، وتقص شعرها وتضع على رأسها قبعة رجالية… ليس فقط لترتاح بتحركاتها خارج منزلها، أو أثناء السفر، إنما أيضا لكي تكون مقبولة من زملائها الأدباء الرجال، فتروّج بذلك لكتاباتها.
التشبه بالرجال لم تكن الإستراتيجية الوحيدة المتّبعة لدى النساء منذ بداية ثورتهن على رجال كانوا، في نطاقاتهم المختلفة، هم الحاكمين الآمرين، واضعي القوانين والمعايير الحاكمة بينهم وبين النساء، نظراء الديكتاتوريين الذين نعرف الكثيرين منهم في يومياتنا السياسية.
لكن الهندام الرجالي لم يكن سوى “القشرة” الضرورية، لمواكبة هذه الثورة النسوية الزاحفة والبطيئة، صاحبة الخطوتين الى الإمام والخطوة الى الوراء… بحسب سياقات كل مجال حضاري ديني بعينه.
المجالات أولا: العقود التي مرت على هذه الثورة لم تسجل أحداثا سعيدة قدر تسجيلها لتبوء النساء مجالات النشاط “الخارجي” وأثوابه، التي كانت قبلها حكراً على الرجال: فكانت الأنباء المثيرة دائماً عن “أول إمرأة…”، في كذا أو كيت: طبيبة، قائدة طائرة، محامية، مهندسة، كاتبة، رائدة فضاء… واللائحة تطول وصولاً الى “أول امرأة…”، وزيرة، رئيسة وزراء، رئيسة جمهورية. هذا لكي لا نتكلم عن المجالات الأقل “نبلا” أو تخصصا أو قيمة مادية أو اجتماعية؛ مثل أول امرأة زبالة، أو سمكرية، أو خراطة المنيوم أو سائقة تاكسي أو شاحنة الخ. كل مرة نبتهج بها، ونسجلها على انها إنتصار للمرأة في طريق تحررها، نحو مستقبلها الزاهر، وهي كلها تقتنص من الرجال أشياء كانت حكراً عليهم.
الصفات ثانياً: “أخت الرجال”، كانت، مثلاً، الصفة المحمودة التي كان على المناضلات الحزبيات اليساريات، وغير اليساريات، أن يتمتعن بها. “أخت الرجال” كانت تعني إمرأة شجاعة، مسؤولة، ممْسكة بمشاعرها، مقدامة، مبادرة، قوية طبعاً، وشرسة عند اللزوم. في هذه النقطة بالذات، تعقّدت الأمور: إقتحام مجالات الرجال كانت تقتضي حتماً، ومن دون تردّد إنتحال صفاتهم. أي إضافة أو لصق أو إستعارة صفات ذكورية على صفات أنثوية أقدم وأرسخ، عمرها آلاف السنين. فكان المخلوق الجديد، “الاندروجيني”، مزيج الإثنين، كمحاولة لردم الهوة الفاصلة بين صفات موروثة، مقيمة، وصفات أخرى جديدة، وافدة، تطلّبتها ضرورات التحرر، حتى لو لم تكن أولئك النساء معنيات مباشرة بمسألة تحرّرهن، أو مدركات له، أو شاكرات لفضائله عليهن.
مع الصفات الجديدة، والمهمات والوظائف الجديدة، صار هجاء الوظائف البيولوجية للنساء باباً من أبواب تحررهن. ذم الإنجاب والرضاعة والتربية، الإمتناع عن الانجاب، أو إهمال من أُنجبوا، تقليص الوقت الذي كان يخصص لتنشأة الأولاد لحساب الوقت الممنوح للطموحات أو المهنة أو الحضور الاجتماعي أو مجرد كسب العيش. مراجعة هذا المطبّ كان سريعاً، نسبياً، بأن أعيد للرضاعة إعتبارها العلمي، وكذلك الإهتمام بالطفولة. لكن الوقت… الوقت الكافي، من أين؟ عندما تكون النساء في هذه المرحلة الكبرى بصدد أن يكنّ مثل الرجال، يقمن بما يقومون به في الخارج، ثم ينكببْن على الداخل؟
تقليد الرجال اقتحم المجال الحميمي العلائقي، وآخر ما ابتكرته النساء ذوات الشهرة والمال، المشاهير من النساء الغربيات، اقترانهن برجال أصغر منهن بعشرات السنوات: مغنية البوب الشهيرة، مادونا، التي تجاوزت الخمسين، بينها وبين رفيق عمرها، الراقص الجزائري الأصل، ابراهيم زيبات، أكثر من عقدين ونصف. أو الممثلة الأميركية ديمي مور، التي تزوجت أشتون كشتر، الذي يصغرها بستة عشر سنة. بل ان شبكات السياحة للثريات من النساء الأوروبيات والأميركيات (غداً الميلياديرات الصينيات؟) تؤمن لهن خدمات جنسية، النهج نفسه الذي ما زال متبعاً في تنظيم السياحة الجنسية، أو البغاء العابر للحدود، المخصَّص للرجال.
على كل حال، لم يكن ممكناً لفنانات في العصر القديم أن يخترن شركاء حياتهن؛ الأحدث من بينهن كانت تحت إدارة الزوج، الفنان غالباً، أو المنتج الفني على الأقل. وأقدمهن في العصور الغابرة، جواري، يُبعن ويُشترين بأغلى الأثمان في سوق النخاسة، يقتنيهن السلاطين، لموهبتهن في الغناء أو العزف أو الرقص.
الخلاصة هنا هي ان الثورة النسوية، وهي كما أشرنا بطيئة، ما كان لها ان تختلف عن بقية الثورات، بأن عملية تحررها كانت مبنية أساساً على التشبّه بجلاديها، أي في مجالنا هذا، بالرجال. لا نحتاج للإبتعاد كثيراً حتى نلمس هذه العملية، هنا بالقرب منا، في سوريا، حيث يسلك معارضو الأسد، المسلحون منهم والمتفاوضون، مسلك الحكم الديكتاتوري الذي يحاربون. الثوار هنا، مثل النساء في عملية ثورتهن المديدة، لا يملكون مورداً فكريا أو ثقافيا آخر يعبىء الفراغ الناجم عن الثورة على الطاغية، إلا نموذجه، فيقلدونه كما يقلد المهزوم المنتصر، بحمى تزيد حرارتها كلما كان الطغيان شديداً؛ إذ يكون بشدته هذه، قد أغلق، وبإحكام، كل نوافذ الخيال والتفكير والتعبير، وحوّل العقول الى صحاري من الفراغ البائن.
وكما تكون ردة فعل الطاغية متنوعة بألاعيبها وخبثها وحيلها، كذلك كانت ردة فعل الرجال بعملية التشبه بهم، الناجحة، او المهدِّدة بالنجاح، حسب مقاييسهم. بل انهم تفوقوا على الطاغية ببراعة ردود أفعالهم، وبتعدد أوجهها. الغزو النسائي لمجالاتهم وصفاتهم وهندامهم، ومصادرة النساء لكل ما أعجبهن أو أراحهن في حركتهن الخارجية، من ذخيرة الرجال… ردّ عليه هؤلاء بأشكال متنوعة: في الأدب مثلا، ما دمنا بدأنا به مع جورج ساند، أو في مجال الكتابة عموماً، قبلوا على مضَض في البداية ان تكون هناك كتابات بأقلأم نسائية عن المرأة، بعدما تكرّست أقلام رجالية، مثل الطهطاوي وقاسم أمين والطاهر الحداد. بعد ذلك، قالوا بالأدب النسائي، وعندما اقتحمت الأقلام النسائية آخر معاقلهم الكتابية، السياسة خصوصاً، تجاهلوها، بالقدر الذي لا يفضح تهميشهم الصامت لهذه الأقلام.
لكن ردة الفعل الرجالية تجاوزت المعاني الثقافية، الضيقة الإنتشار عربياً على كل الأحوال. بدأوا بالرد الشرس أولا، ثم انتقلوا الى الإنكفاء، الى نوع من الإنعزال بين أفراد الجنس الواحد، بعد ذلك أضربوا عن الحب والزواج، بعدما رأوا فيه مجالا آخر، يكون فيها للنساء اليد العليا، الجامعة بين أنوثتهن ورجولتهن، التي من دونها يكن فاشلات… فيأتي الفشل الآخر، على يد الشريك الذي لا يتحمل كل هذه الديناميكية.
ولكن في نيل الثورة النسوية من الذكورة عبر إقتحام مجالاتها ومهاراتها وملذاتها، عبر السعي الحثيث لركبها، تحررت الطاقات المثلية من تابوهات الذكورة المحروسة بالقداسة والقوانين. فكانت الطفرة المثلية، ومعها، سعي، خجول في البداية، لكنه يؤكد على نفسه كل يوم أكثر وأكثر، لتقليد النساء في هندامهن، من دون مثلية بالضرورة: الشعر الطويل، الحلق، الألوان الزاهية… وآلاف التفاصيل الأخرى الصغيرة والكبيرة. وهذا ميل يتعايش مع ردة فعل أكثر عنفاً في دفاع الذكورة عن نفسها: وآيتها تنجيم (إدخال الى عالم النجومية) كل امرأة بخصائصها السابقة على عهد هذه الثورة؛ أي الجمال الخارجي. وملكاته اللواتي لا تنتهي لائحتهن عند حدّ. ولكن ليس كل جمال أيضاً، ذو القياسات الصرفة المتناغمة، أو المتناسقة… إنما ذاك الجمال الغارق في إيحاءاته الجنسية، الذي يثير الرجال جنسياً بلا مواربة. هكذا هن النساء اليوم، عرضة لردة فعل كهذه، خصوصاً الشابات منهن: الأجمل، أي الأكثر إثارة جنسياً، هن الملكات اليوم، حتى لو كن وزيرات أو رئيسات أو محاميات أو عالمات…. أو بطلات رياضيات، لا يهمّ. الأكثر إثارة من بينهن هي التي ستنال الأضواء والإعتراف بعملها وكل ما شئت… والرسالة واضحة: عودة الى زمن لم تكن فيه النساء سوى أداة اللذة الجنسية للرجال. أما الرد النسائي عليه، فسوف يحتاج الى وقت ليتبلور شيء آخر غير تقليد الرجال، لتبزغ أنوثة جديدة، جديدة حقاً، هي إبنة المخاض المليء بالتناقض والتثاقف الذي يعشنه اليوم، مع الرجال.
تلك هي طبيعة المرحلة الإنتقالية الطويلة التي تعبرها الثورة النسوية. ولو تمعّنتَ جيداً بفصولها، فسوف تجد انها لا تختلف عن الثورات الأخرى التي نعيشها اليوم، إلا بامتدات حبلها على إمتداد أجيال سوف تُخترع عبرها النموذج النسائي، بعد إنقضاء الحاجة الى التشبّه بالرجال.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل