لم تمنع المبارزة الأوكرانية من التقاء الأضداد يوم 5 مارس في قصر الإليزيه، وذلك في إطار «مؤتمر باريس» الذي تكون من وزراء خارجية المجموعة الدولية لدعم لبنان. إنها من المصادفات السعيدة أن يحظى البلد الصغير بكل هذا “الجهد الدولي” لتجنيبه الأسوأ في سنة استحقاقات مصيرية، وأن يشكل ذلك فرصة لحصول أول لقاء مباشر بين الغرب وروسيا منذ اندلاع “نزاع القرم” .
يتحمس البعض ويربط «مؤتمر باريس» بخصوصية بلد كان استقراره غالبا ثمرة تسويات إقليمية ودولية. ولكن الأصح أن الزلزال الذي يضرب المشرق العربي بعد قرن على اتفاقية سايكس- بيكو والاستعصاء في المشهد السوري نتيجة “لعبة الأمم الإقليمية والدولية”، استدعيا هذا المسعى الاستثنائي إلى حصر الأضرار ومنع تمدّد النزاع السوري نحو لبنان الهش بطبيعة تركيبته وأزمة الحكم فيه نتيجة الازدواجية بين منطق الدولة ومنطق “المقاومة” (سلاح الحزب الذي يقوده حسن نصر الله) وتفاقم الوضع بعد تدخل حزب الله في سوريا، إضافة إلى دخول مفردات “الجهاد” و”الإرهاب” إلى ساحة شهدت كل أنواع الحروب والنزاعات.
هذا الاهتمام والإجماع الدولي على حماية «بلد الأرز»، يعني أن لبنان لا يزال بـ”حاجة للعالم”؛ ففي زمن الانطواء القومي والفئوي وحقبة “الهويات القاتلة”، ما فتئ هذا البلد ملتقى حوار حضاري حول المتوسط، ومكانا لتعايش الأديان. لكن هذا البلد لا يمثل أنموذجا عربيا مختلفا في الوحدة والتنوع والحد المعقول من الديمقراطية والحرية فحسب، لكنه يشكل بالنسبة إلى فرنسا موقع نفوذ تأثير في المشرق وبلاد العرب. من هنا يتوجب مقاربة الصلة الفرنسية بالكيان اللبناني المعاصر منذ لعب باريس دور “الأم الحنون” لدولة لبنان الكبير في عام 1920.
بعد خسارتها الرهان على العراق كحليف رئيسي إبان حقبة صدام حسين، وبعد رحيل ياسر عرفات صديقها التاريخي الذي أنقذته مرتين في بيروت وطرابلس (1982 و1983) وأمام تراجع دور أصدقائها من اليسار الإسرائيلي والتداعي الحالي في سوريا، لم يبق لفرنسا في المشرق إلا الحلبة اللبنانية كي تقوم بإعادة تموضع لسياستها العربية من خلال نسج علاقة خاصة مع المملكة السعودية (ومع الإمارات)، لمزيد التنسيق حيال الملف السوري، ولتدعيم منطق الدولة في لبنان عبر دعم الرئيس ميشال سليمان وتشكيل حكومة جديدة وتسليح الجيش اللبناني بمعدات فرنسية من خلال هبة منحتها الرياض. «مؤتمر باريس» الذي اهتم بدعم المؤسسات اللبنانية وبموضوع اللاجئين السوريين، شكل نوعا من الغطاء السياسي الدولي لمنع لبنان من الانزلاق في النزاع السوري.
بيد أن التحدي الفعلي يكمن في إتمام استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية وانتخابات مجلس النواب في موعدهما المقرر. وإذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية انتظرت أكثر من عشرة أشهر لتشكيل حكومة دون التوافق حتى الآن على بيانها الوزاري، فمن الصعب التكهن بنجاح الرهان عليها لإتمام استحقاقات أكثر دقة خاصة في ظل استمرار التجاذب الإقليمي والحريق السوري.
حتى الساعة يصعب تحديد الناخب الأكبر في الاستحقاق الرئاسي للبنان، لكن ممّا لا شك فيه هو أن «مؤتمر باريس» أعطى دفعا للرئيس ميشال سليمان في آخر ولايته، ولذا في حال عدم وجود كلمة سر إقليمية ودولية (وفاق الحد الأدنى) لا يستبعد التمديد للرئيس سليمان لمدة محددة للحؤول دون الفراغ “المدمر”، وللحفاظ على دور مميّز لمسيحيي الشرق وطمأنتهم من خلال لبنان، حسبما تسرب من اللقاء الذي حصل يناير الماضي في حاضرة الفاتيكان بين البابا فرنسيس والرئيس الفرنسي هولاند.
بالإضافة إلى الاهتمام بالنفوذ التقليدي ونسج علاقات مع الأكثرية، تبقى حماية الأقليات من عناوين السياسة الفرنسية والغربية في مواجهة المنافسة الروسية في هذا المضمار. ولكن الزمن تغيّر ولم تعد فرنسا صانعة السياسات في المشرق، بل بات جل طموحها لعب دور الرديف إلى جانب أميركا، لكن حساباتها غير الدقيقة في المسألة السورية، لم تأخذ في الحسبان تردد ساكن البيت الأبيض ومتاهات السياسة الأميركية.
بيد أن فشل مسار جنيف 2 يعطي لوجهة النظر الفرنسية صدقية في المقاربة ربما تؤثر على الحليف الأميركي لمراجعة سياسته باتجاه أكثر حزما تجاه النظام السوري.بالطبع، فرنسا اليوم ليست القوة الكبرى كما كانت من قبل، لكنها تبقى من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وخامس (أو سادس) اقتصاد في العالم. إنها قوة نافذة في التركيبة العالمية وأولوياتها تتحدد في محيطها الأوروبي وأفريقيا والبحر المتوسط.
وأتى «الكتاب الأبيض عن الدفاع والأمن الوطني لعام 2013»، ليؤكد على أن البحر المتوسط والمشرق والخليج، إضافة إلى أفريقيا بكل جهاتها (المغرب العربي، الساحل، أفريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي) هي “مناطق فيها مصالح ذات أولوية لفرنسا”.
وحسب القراءة الفرنسية أفرزت أحداث العالم العربي منذ 2011، مشهدا مشوبا بعدم الاستقرار، وهذا يتوجب متابعة انعكاسه على الأمن الفرنسي والأمن الأوروبي.
لكن منذ 2012 يطغى الساحل وغرب أفريقيا على أجندة السياسة الخارجية لفرنسا مع بدء الحرب في مالي في يناير 2013، والتدخل في أفريقيا الوسطى هذا العام، مما يحد من هامش المناورة لفرنسا في أماكن حساسة حول البحر المتوسط، دون أن يعني ذلك تهميشا لدورها في لبنان وسوريا.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
khattarwahid@yahoo.fr