وضعنا “القضية” بين مزدوجين، فكل حادثة، ومفارقة في الحياة، يمكن أن تكون قضية، مع ملاحظة أن “قضايا” الأدب، أي موضوعاته الرئيسة، كما ذكرنا، قليلة ومتداولة منذ قرون. وهذا يعني أن الحادثة، أو المفارقة، تصبح قضية إذا كان فيها ما يوحي بانتسابها إلى السلالة القديمة.
بيد أن هذه الخلاصة لا تختزل كل شيء، فالقضية تحتاج إلى وسيط، والوسيط يتغيّر مع تغيّر الأزمان والذائقة، فمن كان فاعلاً رئيساً في اللحظة الإمبراطورية لن يبقى كذلك بعدها. وإذا أعدنا تحوير عبارة ماكس فيبر الشائعة: “نـزعُ السحر عن العالم“، فلنقل إن هذا لا يقتصر على زعزعة مركزية الدين في الأزمنة الحديثة، بل يشمل السرديات الكبرى للجماعات عن نفسها، وعن العالم.
ولا ينبغي، في هذا الصدد، أخذ الأمر على علاّته، والاكتفاء بخلاصة تبدو للوهلة الأولى مريحة تماماً، فظهور الفاعل الرئيس في صورة بديل، استدعته ضرورة تغيّر وتبدّل الأزمان والذائقة، يعني أنه قد يكون قطعة الغيار المطلوبة لتمكين “القصة” من العوم مجدداً. القطعة المعنيّة لا تمثل، بالضرورة، نفياً للتصوّرات الأيديولوجية التي أنجبت سابقاتها، بل ربما تكون إعادة إنتاج بلغة عصر جديد وذائقته، وإن تكن أكثر براعة في التخفي، للتصوّرات نفسها. وأحياناً، تكون القطيعة “كاملة”.
نحتاج، هنا، إلى تمثيل وتأويل: فشرلوك هولمز، مثلاً، لم يعد قابلاً للعيش مع أفول اللحظة الإمبراطورية. ومع ذلك، أعاد إيان فليمينغ إنتاجه، ولكن على خلفية الحرب الباردة، التي لم تتنازل، تماماً، عن سردية عبء الرجل الأبيض، والتفوّق الأخلاقي والثقافي للفيكتوريين.
وفي هذا السياق ظهر جيمس بوند باعتباره فاعلاً رئيساً، في دراما إنسانية بين النور والظلام، عمرها لا يقل عن عشرة آلاف عام، ولكن هذه المرّة على خلفية الصراع بين “الديمقراطيات الغربية” و”إمبراطورية الشر السوفياتية”، مع توابل إضافية تستعيض، أحياناً، عن كفاءة العلم التجريبي الفيكتورية، بالقوّة الجسدية الخارقة، والمفاجآت التكنولوجية. الأولى تعبير عن جرح نرجسي (بعد أفول الإمبراطورية)، والثانية مواكبة للمكتشفات في زمن تكرّست فيه العلاقة بين التكنولوجيا والسوق. وقد فرض زمنُ السينما، والصورة، على الأولى والثانية، خصائص لم تكن لتتمكن من تمثيلها في زمن سبق.
فلنفكر في نموذجين إضافيين، يعني في قطعتي غيار، تعيد كلتاهما، على طريقتها، إنتاج الصراع القديم نفسه، بين النور والظلام: لـ”ديفيد بالداتشي“وهو من أبرز كتّاب الرواية “البوليسية” في الولايات المتحدة، وأكثرهم مبيعاً، سلسلة روائية بعنوان “نادي الجمل” يقوم بدور الفاعل الرئيس فيها شخص اختار لنفسه اسماً مستعاراً هو أوليفر ستون. أوليفر ستون الحقيقي مخرج سينمائي أميركي لا يتوّرع، دائماً، عن توجيه أصابع الاتهام للسلطات في بلاده.
المهم أن أوليفر ستون، الخيالي والمُتخيّل، يعيش حياة المتسولين والمتشردين قرب البيت الأبيض، في واشنطن، ويجد نفسه مضطراً، من وقت إلى آخر، لكشف جرائم غامضة، ارتكبها أفراد من النخب السائدة، ويفعل ذلك مع أصدقاء هامشيين أطلقوا على أنفسهم تسمية “نادي الجمل”.
لم يعد ستون في عمر الشباب، وهو لا يثق بساكني البيت الأبيض، ولا بالمؤسسات الأمنية والسياسية والاقتصادية الأميركية، ولكنه يقوم بأعمال جسدية، وعقلية، خارقة، للانتصار في معركة النور ضد الظلام، كلما اقتضت الحاجة التي لا يسعى إليها، بل يجد نفسه متوّرطاً فيها.
وهذا ما يجد تفسيره في حقيقة أنه كان قاتلاً محترفاً في وحدة من وحدات النخبة، في زمن مضى، وأصابه ما اطلع عليه من وقائع بخيبة الأمل، وما لا يحصى من الجراح النرجسية، والخسارة الشخصية، من جانب نظام محضه ثقته، وكان مستعداً للتضحية بحياته دفاعاً عنه.
وبهذا المعنى تُختزل الرسالة الأيديولوجية لبلداتشي في محاولة التدليل على “حقيقة” أن “القيم الأميركية”، التي تشكّل عماد السردية الكبرى لفكرة أميركا عن نفسها، تربح في النهاية، على يد الأميركيين الأفراد أنفسهم. أليست الفردية في صميم الفكرة؟ أليست أميركا “أرض ميعاد الأحرار والشجعان”؟ كما في الأسطورة الشائعة.
فلنذهب إلى النموذج الثاني (يعني قطعة الغيار الثانية)، إلى دانيال سيلفا، وهو أميركي، لا يقل عن بالداتشي شهرة، وترجمة، ومبيعاً، وقد اعتنق اليهودية، وربما في فهمه الشخصي لهذا الفعل، وما ينطوي عليه من مسؤوليات أخلاقية، ما يفسّر لماذا اختار الصراع الفلسطيني والعربي (والإسلامي، الإيراني) ـ الإسرائيلي، موضوعاً لسلسلة من الروايات البوليسية، يقوم بدور الفاعل الرئيس فيها شخص يدعى غابرييل آلون، وهو ضابط سابق في الموساد الإسرائيلي، دفعته كراهية القتل ومشاهد الدم والجثث، من الجانبين، للخروج من الخدمة، والعيش في أوروبا، باسم مستعار، واحتراف ترميم اللوحات الفنية القديمة.
وكما يجد ستون نفسه متورطاً في “قضايا” يحاول الابتعاد عنها، يجد آلون نفسه متورطاً في “قضايا” يحاول التملّص منها، وهذا وجه أوّل للشبه، أما الوجه الثاني فيتمثل في استعادة المهارات والخبرات “القتالية” و”الأمنية” القديمة، كلما جد الجد. أما وجه الشبه، الذي لا يبدو واضحاً، للوهلة الأولى، فيتمثل في “حقيقة” أن الرجلين يجسّدان ويدافعان، في الوقت نفسه، عن سرديتين سائدتين، وأساطير شائعة عن فكرة أميركا في حالة الأوّل، وعن فكرة إسرائيل في حالة الثاني.
ففي سيرة ومسيرة آلون تتجلى كل خصائص الجلاّد المقدّس، الذي يطلق النار ويبكي، وفي مهنة ترميم اللوحات الفنية القديمة ما يعيد التذكير بمفهوم مركزي في التصوّرات الدينية اليهودية “تيكون”، أي إصلاح وترميم العالم.
سنفسّر الثلاثاء القادم لماذا وكيف يبدو فاعل لارسن الرئيس، وبعده لاغركرانتس، مختلفاً عن هؤلاء، ومحاولة لقطيعة “كاملة”. فلا زلنا نحاول الاقتراب من معنى البنت في بيت العنكبوت، وفي بيوت سبقت.
khaderhas1@hotmail.com