“شفاف” خاص
حكومة نتنياهو عازمة على الحصول على صلاحيات غير محدودة لإحداث ثورة جذرية في إسرائيل. وحدها المحكمة العليا تقف في طريقها. يجب على كل إسرائيلي محب للديمقراطية أن يستخدم كافة الوسائل غير العنيفة لتكثيف حركة الاحتجاج قبل انعقاد جلسات المحكمة الحاسمة.
لحل الأزمة الوجودية التي تجتاح إسرائيل، علينا أن نفهم نوع القوى التي نتعامل معها. فمن ناحية، تعمل المصالح الشخصية وجماعات الضغط على تشكيل الأحداث، وهو ما يحدث في كل أزمة سياسية.
ولكن شدة الكراهية والغضب والخوف التي يعيشها الإسرائيليون، والتفكك الذي يشهده المجتمع الإسرائيلي و”قوات الدفاع الإسرائيلية”، تشير إلى أن نوعاً مختلفاً تماماً من الصراع يجري الآن.
وينظر العديد من الإسرائيليين إلى هذه الأزمة باعتبارها محاولة من جانب الائتلاف الحاكم للقيام بثورة راديكالية، على غرار الثورة البلشفية في روسيا أو الثورة الخمينية في إيران. ثورة تعزز الآمال “المسيحانية” (= “المسيانية”) من جهة، والإرهاب الوجودي من جهة أخرى. و”إذا نجح ذلك”، حيث يحلم بعض الإسرائيليين، “فسنعيش في الجنة!” بينما يخشى إسرائيليون آخرون من أنه “إذا نجح ذلك، فسنعيش في الجحيم!”.
وأياً كانت النتائج، فإن السياسة الإسرائيلية تشهد تغيراً جذرياً. لقد تحولنا من السياسة العادية، التي تَعِد بإصلاحات دنيوية، إلى السياسة “المسيحانية”، التي تَعِد بالجنة على الأرض ولو أن تحقيقها يتم من خلال خلق الجحيم. لقد وصلت مجموعة “مسيحانية” متطرفة إلى السلطة، مثل البلاشفة والخمينيين. ويبدو أن المتعصبين الإسرائيليين “المسيحانيين” متأكدون من ثلاثة أمور:
• إنهم يعرفون طريق الخلاص النهائي.
• ولتحقيق هذا الخلاص، فإن ذلك يتطلب قوة غير محدودة.
• ومن ثم فإن أي وسيلة تستخدم للحصول على تلك القوة تصبح مقبولة، وكل تضحية، مشروعة.
لا يقتصر وجود المتعصبين “المسيحانيين” على حزب واحد، مثل “حزب الصهيونية الدينية”. فبعض أعضاء أحزاب “الليكود” و”شاس” و”يهودوت هاتوراة” يتشاركون أيضًا في النظرة “المسيحانية” للعالم، ويرغبون في الحصول على سلطة غير محدودة من أجل تنفيذ ثورة جذرية في إسرائيل. ولا تمثل هذه المجموعة “المسيحانية” أغلبية الإسرائيليين، لكن المناورات السياسية البارعة منحتها السيطرة على مساحات واسعة من موارد الدولة. وهي الآن تبني قوتها. ومن خلال سيطرتهم على الوزارات الحكومية والميزانيات، يقوم المتعصبون بتجنيد مؤيدين جدد لهم ويعينون موالين لهم في مناصب مهمة في كل موقع، بدءا من الشرطة مرورا إلى النظام التعليمي. وبهذه الطريقة، يجمعون القوة التي يحتاجونها لتحقيق خيالاتهم “المسيحانية”.
يأمل العديد من الإسرائيلييين في أن يوقف المتعصبون محاولاتهم للثورة بمجرد إدراكهم مدى الضرر الذي يلحقونه باقتصاد إسرائيل، وجيشها، ومجتمعها، ومكانتها الدولية. لكن المتعصبين لا يخافون من الفوضى. إنهم يريدون هدمَ العالم القديم من أساسه، وبناء عالم جديد بدلا منه. ولا نستطيع أن نفترض أن الأزمة الاقتصادية سوف تردعهم. فالمتعصبون لا يمانعون في سبيل تحقيق أحلامهم أن ينهار الاقتصاد الإسرائيلي. سوف يعتبرونها خطوة ستمر، وسيفترضون أن الصناعات الدفاعية الإسرائيلية وحقول الغاز والعديد من مصادر الدخل الآمنة الأخرى ستبقيهم على قيد الحياة، بينما سيبنون على المدى الطويل اقتصادًا جديدًا، مثلما فعل البلاشفة في روسيا.
لا يمكننا الاعتماد على تفكك الجيش لوقف المتعصبين، فهم سعداء برؤية الجيش الإسرائيلي ينهار. وسوف تكفي الأسلحة النووية وبعض وحدات الجيش الموالية لتوفير الدفاع على المدى القصير، أما على المدى الطويل قسوف يتم بناء جيش جديد مخلص، تماماً كما أنشأ البلاشفة الجيش الأحمر وكما أنشأ الخمينيون “الحرس الثوري”.
لا يمكننا الاعتماد على هجرة الأطباء أو الأكاديميين أو النخب الأخرى من إسرائيل لوقف المتعصبين، الذين لا يريدون شيئًا أكثر من التخلص من كل مثيري الشغب هؤلاء. ونادراً ما تنهار الدكتاتوريات لمجرد أنها تقدم رعاية صحية متدنية أو لأنها تفتقر إلى الفلاسفة.
لا يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة للتدخل، فهي تعاني من مشاكلها الخاصة، وحتى لو تخلت أمريكا عن إسرائيل، فإن المتعصبين لن يتورعوا عن التحول إلى المعسكر الصيني.
لا يمكننا الاعتماد على انتخابات ديمقراطية مستقبلية لإزالة المتعصبين من السلطة، فهم لن يسمحوا بإجراء انتخابات حرة ونزيهة قد يتعرضون فيها للهزيمة. ويعتقد المتعصبون أنهم إذا خسروا السلطة فإن ذلك سيؤدي إلى سلسلة من التدابير المضادة التي لا يمكنهم قبولها، مثل تبني دستور يحمي حقوق الأقليات، أو تجديد المناقشة العامة حول احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. لهذا السبب يتعمد المتعصبون زرع بذور الكراهية ويعملون على التفريق بين الإسرائيليين، بحيث تصبح احتمالية خسارة الانتخابات المستقبلية غير محتملة، ليس فقط بالنسبة لهم، بل أيضا بالنسبة لحلفائهم الحاليين. وهذا سيجعل حتى حلفائهم يتقبلون ضرورة تزوير الانتخابات بمختلف الوسائل، مثل تغيير قواعد اللعبة الانتخابية، أو حرمان بعض أحزاب المعارضة من المشاركة في الانتخابات، أو الحد من حرية التعبير للمعارضة.
لحسن الحظ، لا يشكل المتعصبون أغلبية في الكنيست. ومن أجل أن يحكموا، ما زالوا بحاجة إلى التحالف مع قوى أكثر اعتدالا. لذلك، أحد الخيارات هو أن تعود العناصر المعتدلة في الائتلاف إلى رشدها، وتنضم إلى المعارضة لتشكيل حكومة إنقاذ وطني. وعلى النقيض من ائتلاف بينيت/ لابيد، الذي حاول عمداً تجنب التعامل مع المشاكل العميقة التي تواجه المجتمع الإسرائيلي، فإن حكومة الإنقاذ الوطني سوف تكون ملزمة بالتعامل مع هذه المشاكل بشكل مباشر. وفي مواجهة التهديد “المسيحاني”، لا تحتاج إسرائيل إلى مجرد ضمادات لالتئام الجرح، بل هي في حاجة ماسة إلى جراحة قلب مفتوح. ويجب أن يكون مبدأ الحكومة في العلاج هو: “لا بد من تضميد الجروح بدلاً من استخدامها كذريعة لمراكمة السلطة وإيذاء الآخرين”.
من المؤسف أن فرص تشكيل حكومة تضميد الجراح الوطنية ليست كبيرة. هناك عناصر “مسيحانية” داخل جميع أحزاب الائتلاف، لذا، لتشكيل حكومة إنقاذ، ربما لن يكون كافياً التخلص من “حزب الصهيونية الدينية” واستبداله ببعض أحزاب المعارضة الحالية. والأسوأ من ذلك، أنه حتى الآن يبدو أن الأعضاء الأكثر اعتدالاً في الائتلاف يعتقدون أنهم قادرون على امتطاء النمر “المسيحاني” دون أن يلتهمهم.
وتشير التجارب التاريخية، التي قدمتها حالات مثل الثورة البلشفية، إلى أن المعتدلين لا يستيقظون على الخطر إلا عندما يكونون بالفعل داخل فم النمر.
إذا كنا لا نرغب في أن نعهد بمصير إسرائيل إلى العقلانية المشكوك فيها وإلى شجاعة المتمردين المحتملين داخل التحالف، فإن القوة الأخرى التي يمكنها أن تمنع استيلاء “المسيحانيين” على السلطة هي المحكمة العليا. في الشهر المقبل، سيتعين على قضاة المحكمة العليا أن يصدروا أحكامهم ليس فقط في قضايا قضائية محددة، ولكن أيضًا في مسألة مبدئية أساسية: هل تستطيع أغلبية صغيرة في الكنيست تغيير القواعد الأساسية للعبة الديمقراطية من جانب واحد، وإضعاف الضوابط والتوازنات في النظام والاستيلاء على قوة غير محددة لنفسها؟
يقول نتنياهو وإئتلافه إن المحكمة العليا تفتقر إلى سلطة إلغاء ما يعرف بـ”القوانين الأساسية”. ومع ذلك، يمكن تعريف أي قانون على أنه قانون أساسي، ويمكن تمرير مشاريع القوانين هذه بأغلبية عادية تبلغ 61 عضو كنيست فقط. لذا، إذا قبلت المحكمة العليا الحجة القائلة بأنها لا تستطيع إلغاء قانون أساسي، فما هي الآلية البديلة التي ستمنع 61 عضو كنيست من تمرير، على سبيل المثال، قانون أساسي يحرم المواطنين العرب في إسرائيل من حق التصويت، أو قانون أساسي يحد من حرية التعبير ؟
لإنقاذ الديمقراطية الإسرائيلية، يجب على قضاة المحكمة العليا أن يوضحوا أن أغلبية صغيرة في البرلمان لا يجوز لها أن تغير القواعد الأساسية للعبة الديمقراطية من جانب واحد، وأنه إذا حاول الائتلاف القيام بشيء من هذا القبيل، فإن المحكمة العليا لديها السلطة لضرب حتى القوانين الأساسية. وقد أشارت حكومة نتنياهو بالفعل إلى أنها قد ترفض قبول مثل هذا الحكم على الرغم من أن عدم الالتزام بأحكام المحكمة من شأنه أن يشعل أزمة دستورية.
ولحسن الحظ، هناك سبب وجيه لتوقع أنه في حالة حدوث أزمة دستورية، سوف تلتزم قوات الأمن بالقانون، وستلتزم بأحكام المحكمة العليا. لم يكن لدى المتعصبين “المسيحانيين” الوقت الكافي لملء صفوف قوات الأمن بالموالين لهم.
ومع ذلك، فمن الخطورة بمكان أن ننتظر بشكل سلبي قرار المحكمة العليا. وحتى لو كان القضاة مقتنعين بأن الائتلاف قد تجاوز سلطاته ويحاول الاستيلاء على السلطة، فإن القضاة سيكونون حذرين من دفع إسرائيل نحو أزمة دستورية، ناهيك عن حرب أهلية. إن الأشخاص العاقلين مترددون للغاية في تحمل مثل هذه المسؤولية الرهيبة. وبدلاً من ذلك قد تفضل المحكمة العليا التخلي عن سلطاتها، على أمل أن يتدخل شخص آخر لإنقاذ إسرائيل. وإذا ترددت المحكمة في اتخاذ موقف شجاع، فإنها لن تكون بذلك بمثابة انتحار مؤسسي فحسب، بل إنها ستوجه أيضاً ضربة قاتلة لحركة الاحتجاج وللديمقراطية الإسرائيلية ذاتها.
وهذا يعني أن الإسرائيليين الذين يعتزون بالحرية والديمقراطية، يحتاجون إلى الانضمام إلى حركة الاحتجاج الآن، وبكل قوتهم، قبل فوات الأوان. ويجب علينا ممارسة أقصى قدر من الضغط قبل أن تنعقد المحكمة العليا لاتخاذ قراراتها المصيرية. ويتعين علينا أن نمنح القضاة الدعم الشعبي الذي يحتاجون إليه لاتخاذ موقف شجاع.
فإذا عاد جنود الاحتياط إلى وحداتهم، وتخلت النقابات العمالية عن خططها للإضراب، وهدأت الشوارع، وانتظر الجميع بصبر المحكمة العليا، فإن القضاة قد يترددون في القيام بأي شيء من شأنه أن يشعل النار في البلاد. ولكن إذا كانت البلاد مشتعلة بالفعل بالاحتجاجات والإضرابات، وإذا تم إغلاق الجامعات والمدارس، وإذا كانت المستشفيات والخدمات الأساسية الأخرى تعمل في وضع الطوارئ، وإذا كان مئات الآلاف من المواطنين يتظاهرون في الشوارع، فإن هذا سيجعل العبء الأخلاقي على القضاة أخف بكثير. ويمكنهم بحق أن يعتبروا أنفسهم منقذين لإسرائيل من أزمة أشعلها شخص آخر.
لذلك، يجب علينا استخدام كل الوسائل غير العنفية المتاحة لنا لتكثيف الاحتجاجات قبل انعقاد الجلسات الحاسمة للمحكمة العليا. ويتعين علينا أن نتجنب كافة أعمال العنف، ولكن لابد أن يكون واضحاً لقضاة المحكمة العليا أنهم سواء شاؤوا ذلك أم أبوا، يتعين عليهم أن يختاروا بين الديمقراطية الليبرالية والدكتاتورية “المسيحانية”. إذا تهربوا من هذه المسؤولية، فلن يكونوا أكثر من “أغبياء مفيدين” يخدمون المتعصبين “المسيحانيين”. وبالمثل، إذا أراد أي من متمردي التحالف المساعدة في إنقاذ إسرائيل من الدكتاتورية والحرب الأهلية، فيجب عليهم الإسراع والتحرك قبل أن تضطر المحكمة العليا إلى اتخاذ خيارها التاريخي. كل يوم يمر يعمق جراح المجتمع الإسرائيلي، ويجعل مهمة أي حكومة إنقاذ وطني مستقبلية أكثر صعوبة.
يجد معظم الناس، وخاصة المعتدلين منهم، صعوبة بالغة في تصديق الأسوأ: سواء حول قدرة آخرين على أعمال السوء السوء ، أو بشأن وضعهم بشكل عام. لقد انتصر البلاشفة والخمينيون وأقاموا دكتاتوريات وحشية لأن المعتدلين اعتقدوا عند العديد من اللحظات الحاسمة أنه لا يزال لديهم الوقت، وفضلوا الاستمرار في الجلوس على الحياد. بين الحين وآخر، أدرك شخص ما حقيقة كان يحدث، فنزل من السياج، واتخذ موقفًا، وتمت تصفيته دون أن يأتي الآخرون لمساعدته. وفي النهاية، لم يبق هناك أي سياج للجلوس عليه.
*البروفيسور يوفال نوح هراري. مؤرخ، ومؤلف كتب “Sapiens”، و”Homo Deus”، و”Unstoppable Us”، وهو أحد مؤسسي شركة Sapienship ذات التأثير الاجتماعي.
* “المسيانية”، أو “المسيحانية” هي اعتقاد منتشر بين عدة أديان بـ”عودة المخلص
لقراءة النص الأصلي بالإنكليزية إضغط هنا:
Bolsheviks, Khomeinists and Now Bibi: How Israelis Can Stop Netanyahu’s Messianic Dictatorship