بعيداً عن العلمانية المتخشبة بالفصل التعسفي بين الدين والسياسة، بعيدا عن انحراف العلمانية عند بعض العلمانيين عن جوهرها المتحول واقترابها من ايدولوجية الثبات والتحجر والشمولية… بعيدا عن ذلك كله نستطيع أن نقرا وبصدق مع الواقع الدور السياسي والأساسي لعدد من المرجعيات الدينية التنويرية في الشرق الأوسط عامة وفي لبنان على وجه الخصوص.
في عام 1941 وقف الزعيم الوطني السوري فخري البارودي في صحن الجامع الأموي وتلى تصريح للبطرك الماروني عريضة قال فيه: “إن المسلمين ليسوا عبيدا للفرنسيين”. هتف المصلون “الإله إلا الله والبطرك عريضة حبيب الله”. أعلن البارودي أن السوريين ومسلمين ومسيحيين ُينصبون البطرك عريضة زعيماَ لسوريا ولبنان.
كان البطرك عريضة رحمه الله معاديا للمفوضين السامين الفرنسيين، والتقى بقادة الكتلة الوطنية السورية في بيروت وتبنى موقفاَ صريحاَ ضد الانتداب ومع حرية الشعبين واستقلالهما التام عن فرنسا.
كان البطرك الماروني بطركا ً سياسياً بامتياز ومرجعية دينية تنويرية مع الحرية ضد المحتل غاصبها والأرضَ والإنسان. كان ذاك قبل ست وستين عاما من الآن. فعلى ضوء واقعة تاريخية كهذه، كيف يمكن الفصل بين البطرك عريضة الديني والبطرك عريضة السياسي؟*
ألا يبدو أن ذاك الفصل شديد التعسف بمغالطة التاريخ والعقل؟
1- في عام 2001، السادة المطارنة الموارنة وعلى رأسهم غبطة البطرك مار نصر الله بطرس صفير، أصدروا بيانهم الشهير الصريح والشجاع لإخراج عسكر وأمن النظام السوري الديكتاتوري من لبنان، وإنهاء هيمنته واحتلاله الأرض والإنسان فيه. وكان وراءهم ملايين الناخبين. كان قرار مجلس الأمن 1559 لم يصدر بعد. سبقت الإرادة اللبنانية إرادة المجتمع الدولي الداعمة. كانت إرادة الحرية والسيادة والاستقلال أمراً شعبياُ دينياُ سياسياُ تبدو معه محاولة الفصل بين أجزائه كتقطيع كائن بشري إلى أجزاء مع الإصرار على بقائه حياُ.
2- أكد البطرك صفير بشأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني ضرورة قيام النواب – كلهم- بواجبهم الانتخابي باعتباره واجباَ وطنياَ، والامتناع يمس وطنية الممتنع. هذا كلام في صلب السياسة وأسس التنوير الديمقراطي وجوهر المواطنة المسؤولة.
3- بعد الاتفاق على المرشح التوافقي الرئاسي الجنرال ميشيل سليمان، رفض البطرك الماروني أي شروط مسبقة على تشكيل الحكومة وقانون الانتخاب. هذه ممارسة للسياسة في أبجدياتها ثم في أدق تفاصليها.
4- قدم غبطة البطرك غطاءَ لحكومة الرئيس السنيورة وأكد شرعيتها ودستوريتها في وجه متهميها بأنها بتراء ولا ميثاقية، وما صدر عنها باطل ببطلانها.
5- إثر المبادرة العربية المنطلقة في 5/1/2008/ بشأن الأزمة اللبنانية الرئاسية قال البطرك: الشروط الموضوعة قبل انتخاب الرئيس عمل لا ديمقراطي.
خمسة مواقف مفصلية جوهرية لغبطة البطرك الماروني صفير تؤكد أن الممارسة السياسية حق له كما هي واجبَ عليه تجاه الله واللبنانيين . مارس حقه وأدى واجبه وكان بطركاَ دينيا وبطركاَ سياسيا وبامتياز وفي أعلى المصاف.
المرجعيات الدينية المتنورة- والبطرك صفير مثالاَ وسماحة المفتي محمد رشيد القباني مثالا وسماحة المفتي الشهيد حسن خالد مثالا ثالثا والعلامة المرحوم مهدي شمس الدين رابعا – ترى في الدين مرجعية قيميةُ يحرسها الله ويقيمها ويحميها الناس، مرجعية تؤمن بالعدالة والحرية والمساواة والحق والخير والتسامح، وليست مرجعية ميتافيزيقية ولها وحدها أن ترسم الطرق والأساليب المؤدية لتحقيق هذه القيم.
المرجعيات الدينية المتنورة ترى أن البشر هم القادرون على ذلك وفق أقل أشكال الحكم سوءاَ والمبنية على الديمقراطية. رئاسة، برلمان، حكومة، صحافة، والمؤطرة بمتطلبات وإمكانات المرحلة التاريخية وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وبالمستوى الحضاري لهؤلاء البشر في تلك المرحلة.
أن على العلمانيين المتخشبين أن يُِِفرقوا جيدا، وبكامل العقل الليبرالي، بين ملالي دولة ولاية الفقيه أحمدي نجاد مثالا ومشايخ الحاكمية الإسلامية ابن لادن مثالا، وكلاهما تكفيريان وبرؤىَ مرتدة إلى الماضي ومورثةً للتطرف والإرهاب وإلغاء الآخر حتى جسديا… وبين المرجعيات الدينية المتنورة الديمقراطية. فما لقيصر لقيصر وما لله لله و”انتم اعلم بشؤون دنياكم- حديث شريف-“، “الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله – حديث قدسي.”
على العلمانيين المتخشبين، أن لا يضعوا العلمانية والعلمانيين والعقلانية والعقلانيين، والليبرالية والليبراليين في طرف، والدين كله والمرجعيات الدينية كلها في طرف مقابل. الواقع متغيُر ومتلونُ ومفتوحُ عل كل الاحتمالات. من هو مع التنوير بما فيه من حرية وكرامة وتسامح ومن ضدّه، بما في الضّد من إرهاب وتطرف وكره لحق الإنسان في الحياة؟ بعيدا عما هو ماضوي متكلس وما هو شمولي وقاطع ومتخشب عند أي طرف كان.
المرجعيات الدينية المتنورة، قيادات بشرية ملموسة أهلية لأوسع الشرائح عددُا وفاعلية اجتماعية. وهي كذلك طوعا لا كرها، وحبا وثقة يسبقان الإقناع والمحاكمات الجدلية والنقدية الضرورية حكما. وهذا أهم ثوابت بناء المجتمع الديمقراطي الناشئ – وبتفاؤل- الشاب. فالديمقراطية، بكلمتين، انتخاب وتداول. المرجعيات الدينية والقيادات الشعبية يقترحان المرشحين، ويوجبان على الناخبين أداء واجبهم. “الساكت عن الحق شيطان أخرس”- حديث شريف”. ونصل إلى التداول عبر الحساب أمام الله والناس. هكذا تُجّسر المرجعيات بين الدين كقيم وبين الدولة كواقع سياسي على ارض معينة وفي زمان معين.
على العلمانيين المتخشبين أن يتذكروا إن الديمقراطية وصناديق الاقتراع هي الشكل التطبيقي الأرقى- حاليا- للعلمانية، وان ملايين المقبّلين لأيدي المرجعيات الدينية المتنورة أهم بكثير من مئات الآلاف من أذناب الديكتاتورية وكتاب التقارير الأمنية، آكلي بقايا موائد الاستبداد. هؤلاء لا يحمون أرضا ولا يبنون وطنا، والعبيد لا يحق لهم أن يُسقطوا أوراقاُ انتخابية في صناديق الاقتراع، هذا ما قررته الحضارة اليونانية منذ ثلاثة آلاف سنة.
ثمة مرجعيات دينية سورية ولبنانية منفتحة ومتسامحة، ولم تكن يوما شياطينً خرساُ ساكتةُ عن الحق الحر، ودفعت أغلى الأثمان ضد الباطل المستبد ولنا الشرف أن نتحدث عنها قريبا.
وفي النهاية تحية من القلب والعقل لغبطة البطرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، البطرك الديني والبطرك السياسي في جسد وعقل وإيمان واحد.
وتحية من القلب والعقل لمفتي الدين والدنيا سماحة الشيخ محمد رشيد القباني مفتي الجمهورية اللبنانية وعنوان التعايش المشترك في ظل الديمقراطية، ولبنان الحر السيد المستقل.
adeb.talb@gmail.com
معارض سوري – بيروت
*من كتاب “الرئيس ذلك المجهول، عازف المندولين الفريد نقاش- حلقات كتبها وليد عوض”.