الانتفاضة الأولى أنجبت “حماس”، والثانية أوصلتها إلى حكم غزة، والثالثة ستنجب “داعش” في طبعتها المحلية، وتؤدي إلى تدمير “فتح” و”حماس” و”السلطة الفلسطينية”، والأهم من هؤلاء، المجتمع الفلسطيني نفسه. هذا على فرض أن الصدامات التي تجري على نار هادئة في القدس منذ آذار الماضي ستتحوّل إلى انتفاضة شاملة في الضفة الغربية، والمثلث والجليل والنقب.
وأيضاً، على فرض أن الانتفاضة الثالثة ستكون دينية.
هذه كلها فرضيات يمكن أن تحدث وألا تحدث. فما يتحكم بهذه الفرضية أو تلك يعتمد على سلوك الفاعلين السياسيين في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومدى رؤية واستجابة القوى الإقليمية والدولية لعلامات الإنذار القادمة من القدس، وفعالية تدخلها. ولكن ما يكاد يقترب من حد اليقين، في كل الأحوال، يتصل بالطابع الديني للمجابهة الشاملة، إذا وقعت، وعندما تقع.
هذا، في الواقع، ما تتوقعه تصريحات، وتلميحات، وتحليلات مختلفة تصدر عن الفلسطينيين والإسرائيليين، وما تعززه حقيقة أن الحرب في القدس وعليها عنوان المجابهة، وأن المسجد الأقصى يمثل نقطة الصدام الرئيسة. وبالنظر إلى الحمولة الرمزية الاستثنائية للمدينة والمسجد في دنيا ودين العرب والمسلمين، فإن الطابع الديني للمجابهة يتاخم حد البداهة.
ومنشأ البداهة أن حرائق الحروب الدينية (بصرف النظر عن تسمياتها) تشتعل في الإقليم، وأن في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كما في كل مكان آخر، قوى ـ لا تشكو ندرة المناصرين، ولا فتور الهمة ـ يعنيها دفع الصراع في فلسطين وعليها إلى حدوده القيامية القصوى، بما يتجاوز السياسة، ويجرّد الصراع من كل عقلانية محتملة، ويوصد الباب في وجه كل حل محتمل، لا ينطوي على إلحاق هزيمة أخيرة ونهائية بالعدو. وعلى ضوء التجربة التاريخية، لا تنتهي صراعات كهذه إلا بعد إصابة الطرفين بالإعياء التام.
وينبغي ألا تغيب عن الذهن حقيقة أن الاستيهامات القيامية ليست حكراً على الدواعش (بصرف النظر عن تسمياتهم)، بل تطال القوميين الدينيين بين اليهود الإسرائيليين، أيضاً، وقد ازداد نفوذ هؤلاء، في العقود الأخيرة، في الجيش، ومؤسسات الدولة، والمنظومة الاقتصادية ـ السياسية والأيديولوجية لحركة الاستيطان. وفي نظر هؤلاء، وأنصارهم الإنجلييين في الغرب، يتجلى جبل الهيكل (المسجد الأقصى) باعتباره نقطة الصدام الرئيسة، وبوابة الخلاص.
وتجدر الملاحظة، هنا، أن مسألة “الأنصار الإنجيليين” تستحق التفكير. ففي معرض عدد من التوقعات بشأن مستقبل الشرق الأوسط، والعلاقة بين الشرق والغرب، يذكر برنارد لويس في “نهاية التاريخ الحديث في الشرق الأوسط”، الصادر قبل ثلاث سنوات، أن صعود الأصولية الإسلامية، قد يستنفر ردة فعل دينية مضادة، في الغرب، تستدعي ذاكرة وذكريات الحروب الصليبية.
المهم، أن الانتفاضة الثالثة، إذا وقعت، وعندما تقع، وإذا غلب عليها الطابع الديني، ستشكل تهديداً مباشراً لأمن واستقرار مصر والأردن، في المقام الأوّل، لأسباب جغرافية، وسياسية، وتاريخية، يطول شرحها، ناهيك عن تداعياتها على دول المنطقة والعالم، في ظل وجود وانتشار ظاهرة الميليشيات المسلحة العابرة للحدود والقوميات، التي لا تشكو ندرة الانتحاريين والسلاح.
ولعل في هذا ما يُضفي على رهان الطامحين إلى دور القوّة السائدة في الإقليم، مثل تركيا وإيران، على الفلسطينيين، بعداً يتجاوز الأبعاد التقليدية، التي عرفناها، للصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي. ولعل فيه، أيضاً، ما يرفع من فاتورة الدم التي سيدفعها الفلسطينيون، لأن عنف المجابهة الدينية، إذا دارت على أرضهم، سيرتد إلى الداخل الفلسطيني نفسه. ولعل في العراق، وسورية، وليبيا، ولبنان، واليمن أكثر من دليل وبرهان، رغم أن حمولتها الرمزية أقل.
لن تعيد الانتفاضة الثالثة، إذا وقعت، وعندما تقع، إنتاج الانتفاضتين الأولى والثانية. فالأولى اتسمت بمشاركة شعبية واسعة، بينما تعسكرت الثانية في زمن قياسي. ومع عدم استبعاد استعادة بعض السمات من هذه وتلك، إلا أنها ستقترب من طابع الحرب الأهلية، وما يسمها من قتل وقتل مضاد، في الجليل والمثلث والنقب والقدس، على نحو خاص، وستتسم بمزيد من العنف المتبادل بين الفلسطينيين والمستوطنين في الضفة الغربية، خلافاً لما كان عليه الحال في الانتفاضة الثانية، التي غلب عليها طابع العمليات الانتحارية، والصدام مع الجيش.
ولا ينبغي استبعاد زيادة وتيرة الأعمال الفردية، التي شهدنا نماذجها المبكرة في الآونة الأخيرة، في عمليات دهس وطعن. فلن تعدم المُخيلة الإنسانية الوسيلة للعثور على أدوات وطرق جديدة لإلحاق الأذى بالعدو، الذي أصبح قتله وقتاله جزءاً من الواجب الديني.
يصعُب التفكير في الديناميات السياسية والاجتماعية التي ستطلقها تحوّلات كهذه. فمن غير المستبعد ألا يفكر الإسرائيليون، في سياق البحث عن حل لانتفاضة الجليل والمثلث والنقب، في صيغة تشبه في الجوهر، وليس في التفاصيل، بالضرورة، ما كان عليه الحكم العسكري الذي استمر منذ النكبة، وحتى أواسط الستينيات في القرن الماضي.
لن تشكّل الانتفاضة الثالثة تهديداً وجودياً للدولة الإسرائيلية، ولكنها ستغيّر من طبيعة وهوية المجتمع الإسرائيلي، وستكون المُحفّز الرئيس لاستيلاء الفاشية الدينية والقومية، المسلحة بأنياب نووية، على الفضاء العام، ونجاح القوميين الدينيين في احتلال المتن، بعدما كانوا حتى وقت قريب، وبدرجات متفاوتة على الهامش. وهذا يُنذر بحروب تتجاوز المجابهة مع الفلسطينيين، ولا ينبئ في كل الأحول بمستقبل آمن. والمشكلة أن المستقبل الآمن، كما الحل، لم يعد على رأس قائمة الأولويات في زمن القيامة الآن.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني