يواجه الصحفيون والمؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني في لبنان استدعاءات متكررة أمام النيابة العامة التمييزية، ممثَّلة بأجهزة أمنية، بدلاً من تحويل القضايا إلى محكمة المطبوعات المعنية بملاحقة الكتّاب والصحفيين. وتتمّ هذه الاستدعاءات تحت نصوص “قانونية” غامضة، ردّاً على كتاباتهم أو عملهم الذي يتناول الفساد والتجاوزات المالية في البلاد.
خلال الأشهر الماضية، استدعت النيابة العامة اللبنانية صحفيين من المؤسسات الإعلامية “درج” و”ميغافون” و”نقد”، وصحيفة “الحرة”، إلى جانب عدد من الصحفيين بينهم نانسي السبع، وفراس حاطوم، ومنير يونس، وبعدهم وسام سعادة، وغيرهم من ناشطين كتبوا على وسائل التواصل الاجتماعي. ويُضاف إلى هؤلاء “خصوم” سياسيون، من بينهم منظمة “كلنا إرادة”.
تعيد سلسلة الاستدعاءات القضائية والأمنية، بصيغتها الحالية، إلى الأذهان حقبة الرئيس الأسبق إميل لحود (1998–2007)، حين أدارت المنظومة الأمنية اللبنانية–السورية تلك الاستدعاءات، وتذكّر أيضاً بما يمكن تسميته “الروح العضومية”، نسبةً إلى النائب العام التمييزي آنذاك “عدنان عضوم”، في التعاطي مع الإعلام والخصوم السياسيين. فقد شهد عهد لحود ملاحقة ممنهجة للصحفيين المعارضين، ومن أبرزهم “سمير قصير”، وقبله صحفيون ومستشارون ووزراء بعضهم من المحسوبين على مؤسسات رفيق الحريري، تحت مسمى “إخبار من مواطن صالح”.
وترافقت تلك الحملات مع التحولات داخل النظام السوري، بانتقال مركزية القرار إلى بشار الأسد وحلفائه اللبنانيين، ما أدى حينها إلى التحقيق مع صحفيين واعتقال وسجن مسؤولين مقربين من الحريري، في ما عُرف بـ”الحملة على الفساد”، ليُبرَّأوا لاحقاً من التهم الموجهة إليهم.
واليوم، يُستدعى الصحفيون ويُحالون إلى التحقيق أمام أجهزة أمنية غير مختصة بهذه القضايا، بدلاً من “محكمة المطبوعات”، مما يُعدُّ ضغطاً مباشراً، وترسيخاً لبيئة من الترهيب المنظم، وتهديداً للدور الرقابي الذي تضطلع به الصحافة في كشف الفساد ومحاسبة المسؤولين.
هذه الاستدعاءات، والتهديد باستخدام النظام القضائي، لا تقتصر على الصحفيين فحسب، بل تمتد لتشمل محاولة من “المستشارين” للضغط على حليف المنظومة، أي “التيار الوطني الحر”، بما يمثّله من إرث لعهد الرئيس السابق ميشال عون، وصهره جبران باسيل.
ودفع الخلاف بين “المستشارين” وباسيل إلى تحريك ملف شركات القمار الشرعية وغير الشرعية، فاستُدعي مدير عام كازينو لبنان، رولان خوري، للتحقيق ثلاث مرات متتالية، في جلسات مطوّلة، واستخدم المدّعون مصطلح “إخبار من مواطن صالح”، في استعادة جديدة لأرواح “العضومية” التي سادت قبل أكثر من عقدين.
ومن المعروف أن خوري عُيِّن في منصبه خلال عهد ميشال عون، ما يجعله محسوباً سياسياً عليه. واليوم، يُستدعى للتحقيق، في محاولة للحصول منه على معطيات قد تُدينُه، رغم إدراك “المستشارين” جيداً أن ملف خوري في إدارة كازينو لبنان يُوصف، حتى من قِبل خصومه، بأنه من الملفات القليلة التي لا يمكن الطعن في نزاهتها. ويُعتبر خوري – بين معارفه وخصومه – من المحسوبين على “التيار” الذين يصعب اتهامهم بالفساد أو وجود مستمسكات قانونية ضدهم.
وكما يبدو، فإن “العضومية” التي ترفرف في “القصور” عبر “المستشارين”، تنفّذ اليوم سياسة تهدف إلى نزع المناصب من التيار وتخويف رئيسه جبران باسيل سياسياً، لمنعه من اتخاذ مواقف تتباعد عن مواقف “المستشارين”. ومن الواضح أن ملف خوري خالٍ من أي إدانة، إذ لم يُسجَّل عليه خلال ثلاث جلسات تحقيق أي هفوة فساد، وأثبت خلالها أن جميع ممتلكاته الخاصة، باسمه واسم أفراد عائلته، كانت بحوزته قبل توليه منصبه الحالي.
يُبرز الحديث عن هذه الاستدعاءات دور رولان خوري، المعروف بنضاله ضد الفساد، لا سيما في ملف شركات القمار غير الشرعية. ويُشهد له بأنه ناضل في شبابه في مواجهة الاحتلال السوري، وانفتح مع رفاقه على المجموعات اليسارية لكسر التقسيم السياسي الجغرافي الذي فرضه الاحتلال السوري. وفي السنوات الأخيرة، حافظ على مسافة من جميع العاملين في كازينو لبنان، رغم انتماءاتهم السياسية المختلفة، ولم يعادِ أحداً، بل أنصف كثيرين من الموظفين الذين يعارضونه سياسياً، مما يجعله صوتاً مستقلاً في هذا المجال. أراد “المستشارون” الذي أكثرهم من عدة العهد السابق، إطلاق الاستهداف على رولان خوري رغم معرفتهم أن ملفات الفساد هي موجودة لدى آخرين عينهم “التيار” بمواقع أخرى ليس أصغرها ملف الكهرباء.
إنّ الاستدعاءات، سواء للصحفيين أو للمسؤولين، تؤكد مجدداً الحاجة الملحة إلى حماية حرية التعبير واستقلالية القضاء في لبنان، وضمان عدم استخدام الأجهزة الأمنية والقضائية كأدوات لتصفية الحسابات أو قمع الأصوات الحرة.
فهل نشهد بالفعل عودة لـ”الروح العضومية” التي تتهدد الحريات في لبنان؟ أم أن هناك من يقف في الحكم باحثاً عن العدالة، لمنع تمدّد صور قديمة كنّا نظن أننا تخلّصنا منها؟