الإنسان فينا هو خلاصنا!
أعطتني بائعة التذاكر… تذكرة!
الكمبيوتر أمامها. هو من يقرر أية تذكرة!
جاءت على لوني: ملونة!
جاءت محددة: ليست بيضاء!
وعلى حسب التذكرة، دخلت إلى متحف التمييز العنصري في جوهانسبرغ، جنوب إفريقيا.
وعلى حسب التذكرة انفصلت عن زميلتي وصديقتي، تلك التي اعتبرتها تذكرتها “أوروبية”.
عرق أخر، عرق أبيض. بيضاء.
وهي اضطرت لذلك، ممتعضة، إلى الدخول من ممر أخر. ممر البيض!
ومعي كانت زميلة، أوروبية بيضاء، لكن تذكرتها تقول إنها ملونة! ملونة، غير بيضاء. مثلي. ملونة.
عرقها ادنى؟
في الممر المخصص للملونين، احسست بمعنى التمييز. قرصني، وكاد أن ينهشني.
هناك تبدت منصات ولافتات وصور.
حمامات للملونين، حمامات للبيض، سلالم للملونين، سلالم للبيض. مطاعم للملونين، مطاعم للبيض. كل شيء له لون. الحياة مقسمة على حسب اللون. ومع كل لون يختلف القدر في تراتب هرمي!
أن تكون ملوناً. أسود البشرة، اسمر البشرة. إفريقي، آسيوي، عربي… أن تكون غير أوروبي… يعني أن تكون مقصياً عن الحياة. لا تدخل حيث يدخل الأبيض. لا تأكلي حيث تأكل البيضاء.
ولا تزاوج.
أي زواج؟ بين أبيض وسوداء؟ سمراء وأبيض؟ هل نهرج هنا؟ الحياة مقسمة على حسب اللون، ومن تقاسمه الفراش هو جزء من هذه الحياة.
والفراش لا يعترف بالألوان. في الواقع لا يعترف بأي تقسيم كان. لكنه ظل ملوناً في انقسامه في تلك الفترة في جنوب إفريقيا.
مقصياً، منفية ًمن الحياة! حياة البيض.
تمييز ممنهج ضد السود والملونين: نظام كامل، أصبح سياسة دولة عام 1948 ، قام على إقصاءهم وهن من السياسية ومن الاقتصاد.
نظام كامل قام على تهميشهم وهن، واستغلالهن كعمالة رخيصة، ثم عدم إتاحة التعليم لهم ولهن. لأن “الأسود لا يحتاج إلا إلى تعليم يتناسب مع مقدراته”! هكذا قالوا حينها. ومقدراتها على حسب تعريف نظام التمييز العنصري كانت “محدودة”. أليس لونه ولونها أسود؟
أسود، ملون!
بشرةٌ لونها يختلف، ونظام دولة كامل يقوم على إقصاء هذا الفرد لا لشيء إلا لأن الله خلقه بلون الأبنوس!
والنظام يحمي بالطبع مصالح اقتصادية، وعنصرية أقلية تصر أنها متفوقة، لا لشيء إلا لأن بشرتها بيضاء.
أبيض، اسود، أسمر، اصفر، إنسان.
اليس كذلك؟
رجل، امرأة، إنسان.
اليس كذلك؟
*
لم يكن غريباً أن يستخدم هذا النظام تفسيرات دينية لبقاءه.
لم يكن غريباً.
ووجدت نفسي اتنهد “آه” بصوت مرتفع. ثم قلت لنفسي مؤكدة “بالطبع”.
قلت ذلك عندما قرأت داخل المتحف عن تفسيرات دينية كاملة للإنجيل الكريم تبرر التمييز ضد الإنسان عندما يكون ملوناً!
التمييز دائما ما نبرره بالدين!
أياً كان هذا الدين!
ولذا كان طبيعياً أن يعتمد ذلك النظام على تفسيرات دينية تقول له وللعالم من حوله إن ما يفعله “يريده الله”. ما يفعله هو “تطبيق لإرادة الله على الأرض”.
كان طبيعياً لأن مصلحة المؤسسة الدينية في الدول المستبدة المنتهكة لحقوق الإنسان تبدو عادة متسقة مع مصالح النخبة السياسية المسيطرة على الاقتصاد.
في جنوب إفريقيا، حينها، ولدينا اليوم.
الم تلاحظوا ذلك؟ لابد أنكن قد لاحظتن ذلك؟
ثم قلت لنفسي، “أكيد!”
قلت ذلك عندما قرأت عن الحركة الدينية التي انبثقت ضمن الكنيسة في جنوب إفريقيا، من رجال دين بيض في الواقع، تحدت تلك التفسيرات “العنصرية”، وأًصرت أنه لا علاقة لها بالدين المسيحي. وعندما قدمت الأساس الديني لرفض التمييز العنصري، ثم بدأت الأغلبية السوداء تدرك مدى اعتماد اقتصاد الدولة عليها، اصبحت ايام ذلك النظام معدودة. انتهى رسمياً وسياسياً عام 1994.
*
أبيض، اسود، أسمر، اصفر، إنسان.
اليس كذلك؟
رجل، امرأة، إنسان.
اليس كذلك؟
مسلم، مسيحي، يهودي، بهائي، أحمدي، درزي، علوي، بوذي، هندوسي، ملحد، إنسان أيضاً.
ام ستعترضون هنا؟
من صمم المتحف عرف كيف يغرسنا غرساً في نظام التمييز العنصري. أخرجنا من واقعنا، وجعلنا ندرك ما يعنيه أن يرتبط مصيرنا بلون بشرتنا.
في منتصف المتحف، أجهشت في البكاء. لم أتمالك دموعي. تنهمر وعيوني مبعثرة بين بصمات التمييز والقهر.
كل ما حولي يشير إلى الماضي. بيد ان الماضي ينسل منه الحاضر دوماً، والحاضر نعيش فيه التمييز. يظل باقياً ما بقي الإنسان.
كم من إنسان أهنته اليوم؟ بسبب لون بشرته؟ بسبب دينه؟ بسبب جنسه؟ بسبب فقره؟ بسبب إختلافه؟ ثم بسبب ضعفه؟
بكيت الإنسان فينا.
كل ما حولي ذكرني من جديد بما عرفته منذ زمان بعيد.
بالوحش الذي يربض فينا. في الإنسان.
الوحش فينا الذي لا يجد غضاضة في قهر غيره من البشر. ثم يبرر ما يفعله. ويقول “بل الله يريد!”.
ذلك الوحش عرفته منذ زمان. رأيته والتمييز في كل مكان ارتحلت إليه. وأنا ارتحلت كثيراً. رأيته والألم في كل جزء من المعمورة. رأيته في الإنسان أياً كان لونه. أياً كان دينه. أياً كان جنسه.
ولأني عرفته منذ زمان، ولأني رأيته في الإنسان أياً كان، أدركت منذ زمان ما يجمعنا نحن البشر في المعمورة.
أدركت أن الإنسان فينا هو خلاصنا.
الإنسان فينا هو خلاصنا.
نبحث عنه فينا، في كل مكان، في كل مجتمع، في كل دين، وفي كل ثقافة، نُخرجه من حنايا روحنا وضميرنا، كي نقاوم ذلك الوحش فينا.
ثم نبعثه إلى الحياة كي ندحر التمييز. كي نخلق مجتمعاً تُحترم فيه كرامة هذا الإنسان، ليسعد فيه. كي نخلق مجتمعاً حراً.
ولم اعرف مجتمعاً حراً لم يطبق قولا وفعلاً مضمون عبارة واحدة: “يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق”.
نولد احراراً متساوين في الكرامة والحقوق، أياً كان لوننا، أياً كان جنسنا، أياً كان ديننا.
عندما خرجت من المتحف كنت اختنق.
ابحث عن الهواء.
أريد أن اتنفس.
تحسست روحي، اتأكد أنها لازالت في موضعها. لم تنفر إلى السماء فزعاً من التمييز.
بين اصابعي تذكرة.
جاءت كلوني: ملونة.
مكتوب عليها: ملونة.
كالإنسان: ملونة.
نبهتني.
ذكرتني بذلك الوحش الرابض في نفوسنا.
نبدأ في قهره عندما نتعلم كيف نحب الإنسان ملوناً متنوعاً مختلفاً.