لا تزال قضية الحكم والإسلام من أكبر القضايا التي لم تخلص من سوء الفهم، ولم تتحرر من إغراء الســلطة الذي لابد وأن يصطحب بها، ولم تحدد موقفها من الدولة العلمانية، وكان ثمرة ذلك أن معظم الذين يؤمنون إيماناً سلفيًا يرون أن الحكم جزء لا يتجزأ من الإسلام، وأن الإسلام دين ودولة، إنه لامناص من دولة إسلامية لتحقق الشريعة، وأن الذين يذهبون مذهب العلمانية يرون أن الدين علاقة شخصية بين الفرد وربه يؤدى فى المنزل، وشبهته الدكتور نوال السعداوى فى حديثها مع «المصرى اليوم» (١٥/٩/٢٠٠٩): «الدين حالة فردية يمارس فى البيت مثله مثل الجنس .. هل يتدخل أحد فى العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة»؟
من أجل هذا لزم هذا المقال..
نقول بادئ ذي بدء إن الذين يرون أن الدين أمر فردي شخصي بين الإنسان والله وليس له وجود في المجتمع، هؤلاء في الحقيقة لا يؤمنون بالدين، وهم يصورون أحد توجهات الحضارة الأوروبية في استبعاد الدين أصلاً، وأن من الممكن إقامة مجتمع صالح دون دين، وهو إن كان مطبقاً في بعض دول العالم الحديث، فإنه فاسد من الناحية النظرية، وغير واقعى بالنسبة للشرق..
أما من الناحية النظرية فإن الديــن في حقيقته رؤيـة للوجود تؤمن بأن هذا الوجود، وما يتسم به من دقة وإحكام وانتظام لا يمكن أن يكون نتيجة للعشوائية أو للتطور التلقائي، وإنما هو من خلق قوة تمثل الغائية والقيم والعقل وتقف في مواجهة العدم والعشوائية، وهذه القوة العظيمة هي الله، وهي بقدر ما تمثل القدرة العظمى التى لا نستطيع تحديدها، بقدر ما هي أصل القيم من خير.. وعدل.. وحرية.. ومساواة، وأنها تمثل الحقيقة المطلقة التي تنتهي إليها «النسبيات» وبدونها لا تكون هناك نسبية، وأن هذه النتيجة تستتبع دون ريب علاقة ما بينها وبين الإنسان وهي الدين والتى بدورها تعتمد على رسل من الأنبياء ينقلون لنا قبسًا يحمله ملاك من الله إليهم تبين لهم بعض ما يعجز العقل البشرى عن الوصول إليه.
وهذا التصوير للوجود هو الذى يمثل العقل والغائية فى مواجهة العبث والعدم، وإذا كانت الأديان قد أسيئ فهمها، وإذا كانت مؤسساتها استغلتها فليس ذلك ذنب الأديان فى حد ذاتها.
هذا من ناحية النظر والفكر، أما من ناحية الواقع فبالنسبة لهذه المنطقة من العالم ــ الشرق ــ فإن الأديان كانت فى أصل تكوين المجتمع، وكانت هى التى تمثل الضمير.. والشريعة.. والحكم، وفى مصر فإن الإسلام هو أقوى إيمان لشعب مصر (كما أن المسيحية- بالنسبة للأقباط- هى أقوى إيمان)، ولا يمكن تصور المجتمع المصرى بدون إسلام، فأين تذهب العربية التى حفظها القرآن وصانها وجعلها اللغة القياسية لكل العالم الإسلامى؟ وأين يكون التاريخ؟ وأين تكون التقاليد والعادات والأعيــاد.. إلخ، وأهم من هذا كله الضمير، فالمسلمون جميعًا كونوا ضميرهم فى ظل الحلال والحرام.
على الكتاب المحدثين ألا يتجاهلوا أبرز الحقائق، والأمانة تقتضى منهم الاعتراف بها سواء سرتهم أو ساءتهم فهى الحقيقة، وعليهم أن يقيموا حساباتهم على أساس الحقيقة، وأن يعلموا أن أفكارًا مثل «القومية»، «الوطنية”، «المواطنة”، «العلمانية» رغم بريقها، وما فيها من صحة، وأنها المطبقة فى العالم الغربى، فلا يمكن أن تقبل فى الشرق إذا كانت تعنى رفض الديــن، أو حتى تجاهله، إن الوطنية.. والمواطنة.. انتماء، أما الدين فهو ولاء.
ولو كان ممكناً استئصال الإسلام من المجتمع، فكان يجب أن ينجح ذلك فى تركيا التى رزقت طاغية تقلد كل السلطات وتمتع بحب شعبه لأنه أنقذه كقائد عسكرى من مهانة الهزيمة والتبعية، ولكن هذا الطاغية كان يريد بكل قوته إبعاد الإسلام من المجتمع التركى وأن تأخذ تركيا بالحضارة الأوروبية كاملة غير منقوصة بما فى ذلك تغيير حروف اللغة التركية من شكلها العربى إلى الشكل اللاتينى والتخلص من العمائم والقفاطين والأخذ بالقبعات والبدل أو إباحة البغاء والخمور وكل صور الاستمتاع، ولكن الإسلام كان أقوى منه، وأقوى من الجيش الرهيب الذى نصبه وصيًا على الشعب لتحقيق العلمانية، وظهر حزب له توجهاته الإسلامية وكسب السلطة بفضل هذه التوجهات، فلا فائدة فى مقاومة الجذور والأصول والتاريخ والجغرافيا.
■ ■ ■
هذه مقدمة لابد من أن نستوعبها عندما نتحدث عن الإسلام والحكم، إن طبيعة الإسلام كانت تتطلب أن يضع أصول الحكم الرشيد؛ لأنه دعوة شاملة، ولأن الظروف التى ظهر فيها كانت تتطلب ذلك، وهكذا وضع الإسلام الخطوط العريضة للحكم من منطلق طبيعته الشاملة التى جعلت جذر هذه الأصول هو العدل لأنه فضيلة الفضائل.
ومن فكرة العدل قامت الخطوط العريضة للحكم، فلابد أن يكون حكمًا عادلاً، وهذا يستبعد تمامًا كل صور الحكم المطلق، أو المستبد، أو الحكم بالرأى، أو بالوراثة، أو اتخاذ الحكم مغنمًا وإقامته على أساس المصالح، كما تطلب الإسلام أن يقوم الحكم على أساس البيعــة وهى أشبه بعقد بين الحاكم والشــعب، وأن يمارس الشـورى وهى إحدى صور «الديمقراطية»، وقد بلورت الخطوط العريضة التى وضعها الإســلام للحكم خطبتا أبى بكر وعمر اللذين حكما لأول وآخر مرة حكمًا إسلاميًا.
واعتبر القرآن أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله ما بين الفاسقين، والظالمين، والكافرين، مما يوضح أن الأمر جد، وإن كان المآل هو تأويل «مَا أَنزَلَ الله» فهو قابل لاحتمالات عديدة.
ومن الواضح أن هذه خطوط عريضة، يمكن أن تتفـاوت الأحكام فيها، وهـذا مطلوب، بل لابد منه لأنه لا يمكن فى مجال الحكم وضع تشريعات جامعة مانعة فهذا ما ترفضه دينامية الحياة والتطور، وبالطبع ليس هناك تفاصيل لأن التفاصيل لابد وأن تكون متفاوتة، ويمكن القول بدون مجاملة للإسلام أن الخطوط التى وضعها الإسلام للحكم هى أفضل ما وضعته الديمقراطية الحديثة.
من هنا يمكن القول إن هناك خطوطاً وضعها القرآن تكفل الحكم السديد، وأن أى حكم يخالفها يُعد مخالفاً لما جاء به الإسلام، وأن هذه الخطوط تمثل أفضل ما فى الديمقراطية.
وقد يلحظ قارئ أن هذه الصورة للحكم لم تتضمن الحرية، ونحن نعلم أن مناخ الحرية هو المناخ اللازم لكل حكم، وعدم الإشارة إلى الحرية عندما تحدث الإسلام عن الحكم جاء لأن المقصود هنا ممارسة الحكم فهو عمل، وفى مجال الأعمال تكون الفضيلة هى العدل وليس الحرية، أما الحرية فإن مجالها هو الفكر، والإسلام يرمز لها بحرية الإرادة، وقد كفلها الإسلام حتى فى أخص مجالاته وهى حرية الاعتقاد، ففتح الباب على مصراعيه أمام حرية الإرادة «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. إلخ، فالحرية مجالها الفكر.
فالإسلام جعل حرية العقيدة وهى أمس ما يتعلق به مفتوحة على مصراعيها، وجعل الفيصل فى النهاية للإرادة الإنسانية، بل إنه وضح أن الهدى والضلال أمر شخصى لا يخص النظام العام «فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا»، وهذا لأن ضلال فــرد ما لن يضير الله تعالى، وأن هداية فــرد لن تغنى الله شيئاً، وإنما أنزل الله الأديان لمصلحة الناس وليس لمصلحة الله، كما أن الإسلام وضع خطوطاً عريضة للاقتصاد .. وللاجتماع، وفى كل هذه الحالات كانت هذه الخطوط العريضة تطبيقاً للعدل عند العمل والحرية فى الفكر والمساواة ما بين جميع الناس فى الحقوق والواجبات.
ويجب أن نفهم أن ما وضعه القرآن من أصول عن الحكم وعن الاقتصاد وعن الاجتماع شىء، وما يقوله وما يحكم به الفقهاء شىء آخر بالمرة، وليس من المبالغة أن نقول إنه يتناقض مع «موضوعية» هذه الأصول لأنهم فسروها فى ضوء فهمهم وفى ظل عصرهم وفى حدود ثقافاتهم الضيقة، ومن ثم فلا يجوز الاحتجاج بهذه التفسيرات ولا بهذه الأحكام، خاصة أن الأصل- القرآن- لدينا وهو هو لم يتغير، ونحن أقدر من الأسلاف على فهمه واستيعابه واستخلاص الأحكام منه، ونحن لا نعتبر السياسة الشرعية لابن تيمية مصدرًا إسلاميًا للحكم، وكذلك الأحكام السلطانية للماوردى.. وغيرهما، فنحن لا نعرف الحق عن طريق الرجال، وإنما يحكم الحق على الرجال، والحق هو القرآن.
ولا يقولن أحد لماذا وضع الإسلام هذه الخطوط ؟ لأن من المفروض بداهة أن الإسلام دعوة هداية، وأن هدايته لا تقف عند العقيدة والعبادة، ولكن تضم الحياة، والله تعالى الذى هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.. يعلم ضعف الإنسان أمام الإغراءات العديدة، ومن المقبول عقلاً ألا يتركه ضحية لها دون أن يقدم له ما يعينه، فهذا جزء من هداية الإسلام، ومادام الإسلام يترك الحرية للأفراد فلا يمكن أن يقال إن ما وضعه يمثل تحكمًا فيه أو وصاية عليه أو تدخلاً فيما ليس من حقه، وأى تحفظ على أن يتضمن الإسلام هذه الأصول إنما ينبثق أصلاً من عدم الإيمان بالله، وعدم الإيمان بالأديان كقوى مؤثرة فى المجتمع، وهو فرض استبعدناه، لأنه لا يمس الإسلام وحده، ولكن يمس الأديان جميعًا، ولأنه إذا صلح فى بعض دول العالم فإنه لا يصلح فى الشرق.
*المصري اليوم بإذن من الكاتب
الإسلام يضع أصول الحكم.. ولكن لا يتورط فيه(١-٢)
With all due respect, regardless of the substance of the article, the title ” الإسلام يضع أصول الحكم.. ولكن لا يتورط فيه ” is totally and absolutely un acceptable. To start with Islam as a dogma has nothing to do with politics of the modern ages, not to mention the foundation of political system. This is a call for the theocracy of the dark ages. Please cease giving the ugly posture of wahhabism the cosmetic layer of modernity.
Regards
الإسلام يضع أصول الحكم.. ولكن لا يتورط فيه (١-٢)
من الممكن إقامة مجتمع صالح دون دين، وهو إن كان مطبقاً في بعض دول العالم الحديث، فإنه فاسد من الناحية النظرية، « وغير واقعى بالنسبة للشرق.. »
ولكن يمس الأديان جميعًا، ولأنه إذا صلح فى بعض دول العالم «فإنه لا يصلح فى الشرق».
هل معنى ذلك أن الاديان السماوية أديان شرق أوسطية ؟؟؟