حذر المعهد الاسترالي للسياسات الاستراتيجية، في تقرير أعده في منتصف يوليو الماضي، من احتمالات عودة ما يعرف بالجماعة الإسلامية الاندونيسية إلى القيام بعمليات إرهابية واسعة في الأرخبيل الاندونيسي ضد المصالح الغربية، وذلك كنوع من البرهنة على أنها لا تزال موجودة على الساحة وتستطيع الإيذاء، من بعدما أشيع أن توقفها عن الأعمال الإجرامية منذ أربع سنوات (أي منذ وصول الرئيس الاندونيسي الحالي سوسيلو بامبانغ يودويونو إلى سدة الحكم في عام 2004) دليل على نجاح جاكرتا في استئصالها وتحجيم قوتها.
لكن قبل نشر التقرير بيوم واحد، استطاع انتحاري اندونيسي أن يسجل اسمه واسم رفيق له كضيفين في فندق ماريوت جاكرتا الفخم، بل واستطاعا – رغم الإجراءات الأمنية المشددة – أن يتجاوزا نقاط التفتيش ويدخلا معدات ومواد للتفجير إلى غرفتهما رقم 1808 التي أتضح لاحقا أنها كانت بمثابة مركز لقيادة العمليات لتفجير فندق ماريوت والفندق الآخر المواجه له (ريتز كارلتون).
وقد تبين مما سجلته كاميرات فندق ماريوت الأمنية أنه في صبيحة الجمعة السابع عشر من يوليو 2009 كان احد الانتحاريين يلبس قبعة “بيسبول” ويحمل خلف ظهره شنطة مربوطة بكتفيه ويجر وراءه حقيبة ملابس بعجلات، سائرا نحو قاعة الإفطار حيث كان يجتمع نحو 18 من رجال الأعمال الغربيين من بينهم مفوض التجارة الاسترالي. ولم تمر سوى دقائق حتى كان الانتحاري يفجر المكان بمن فيه، لتتبعه بعد دقيقتين فقط عملية تفجير انتحارية أخرى في فندق الريتز كارلتون، أودت بحياة 19 شخصا، وأصابت نحو 50 آخرين بجروح متنوعة.
ولما كان هذين العملين الجبانين قد حدثا بعد 9 أيام من الانتخابات الرئاسية، والتي فاز بها للمرة الثانية وبأغلبية ساحقة الرئيس الحالي يودويونو، بل حدثا بعد انتخابات رئاسية سادتها أجواء من السلام والابتعاد عن العنف والفوضى التي كثيرا ما خيم على البلاد في العهود السابقة بسبب انقسامها عرقيا واثنيا وثقافيا وأيديولوجيا ، ظهر من المراقبين من روج لنظرية أن أعداء وخصوم يودويونو ربما كانت لهم يد في أعمال التفجير تلك ليبرهنوا أن ما ادعاه الرئيس خلال حملات إعادة انتخابه من أنه نجح في لجم الإرهاب منذ وصوله إلى السلطة ليس صحيحا.
ومن ضمن ما زعمه مروجو هذه النظرية تبرئة رموز الجماعة الإسلامية الاندونيسية المتهمين دوما بالوقوف خلف هذه الأعمال القذرة تبرئة تامة، وتوجيه أصابع الاتهام بدلا من ذلك إلى المرشح الرئاسي الفاشل وصهر سوهارتو السابق والقائد الأسبق لقوات “كوستارد” الأمنية الجنرال المتقاعد “بوروبوو سوبيانتو” الذي كثيرا ما أطلق عليه لقب “بينوشيه اندونيسيا” كناية عن جرائمه في القتل والتعذيب والخطف والاغتصاب وتدبير المكائد في تيمور الشرقية وغيرها أثناء سنوات حكم حماه (الديكتاتور سوهارتو).
غير أن مراقبين آخرين ومعهم أجهزة الأمن الاندونيسية ردوا على تلك النظرية بالقول أن من يقف وراء انفجارات 17 يوليو 2009 ليس سوى فريق منشق عن الجماعة الإسلامية يقوده الإرهابي المعروف والمطلوب للعدالة “نور الدين محمد توب” المولود في ماليزيا والذي عرف في أوساط المخابرات الدولية والإقليمية بمهارته في صنع وزرع المتفجرات وبحيله في التخفي والهرب وبذكائه في تجنيد الأتباع للقيام بأعمال انتحارية عن طريق غسل أدمغتهم بآيات وأحاديث دينية – بعيدة عن سياقها العام – من تلك التي تعلمها أثناء ملازمته لقادة الجماعة الإسلامية الكبار مثل أبوبكر باعاشير وعبد الله سنغكر.
والمعروف أن العديد من الهجمات الإرهابية التي حدثت خلال السنوات الماضية على الساحة الاندونيسية ينسب إلى هذا الرجل – الذي تمكن من الفرار إلى اندونيسيا بعد مداهمة قوات الأمن الماليزية لأوكار المتشددين الإسلاميين في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 – بما في ذلك مجزرة بالي في عام 2002 التي حصدت أرواح 202 ما بين سائح أجنبي ومواطن اندونيسي وجرحت أكثر من 200 شخصا مثلهم، وتفجير فندق ماريوت جاكرتا في عام 2003 الذي قتل فيه 12 شخصا كان بينهم ثمان مواطنين مسلمين، وجرح 150 شخصا كانت غالبيتهم العظمى من الاندونيسيين، وتفجير السفارة الاسترالية في جاكرتا في عام 2004 ، علاوة على انفجار بالي الثاني في عام 2005 .
أما الأدلة التي ساقتها أجهزة الأمن الاندونيسية للربط ما بين توب وعملية 17 يوليو فهي أن التحقيقات والتحريات أظهرت تطابقا تاما ما بين المتفجرات التي استخدمت في عملتي فندفي ماريوت والريتز كارلتون والمتفجرات التي عثرت عليها أجهزة الأمن مخبأة في مدرسة في وسط جاوة أثناء غارة فجائية غير معلنة قامت بها الأخيرة ضد المدرسة بعد ورود أنباء عن وجود توب فيها. كما أظهرت تطابقا تاما ما بين تلك المتفجرات والمتفجرات التي استخدمت في عملية جزيرة بالي في عام 2002 التي اتهم توب وآخرون من عناصر الجماعة الإسلامية بالتخطيط لها.
ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق أن أحد أكبر إنجازات يودويونو خلال فترة رئاسته الأولى من 2004 وحتى 2009 هو نجاحه في كسر شوكة المتطرفين الإسلاميين سواء عن طريق اعتقال العديد من رموز الجماعة الإسلامية الخطيرة، أو قتل آخرين وهم على وشك تنفيذ أعمال إرهابية على نحو ما حدث في سومطرة في عام 2008 حينما كان نفر من هؤلاء يستهدفون مقهى يرتاده سواح غربيون.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا هو أن يودويونو ما كان لينجح في هذا المجال لولا انه اعتمد سياسات وتكتيكات جديدة منها الاعتماد على الشرطة بدلا من الجيش وتأسيس شبكات مخابراتية على مستوى القرى والبلدات والجزر النائية، وإعادة تأهيل وتوظيف عناصر الميليشيات السابقة ودمجهم في المجتمع مع منحهم فرصا للمشاركة السياسية أو العمل ضمن أطر منظمات المجتمع المدني.
ولعله من نافلة القول أن تلك الإجراءات كانت لها صدى طيبا لدى حكومات الولايات المتحدة واستراليا ودول الاتحاد الأوروبي التي سارعت إلى تقديم المزيد من المساعدات في صورة الأموال والتقنيات الحديثة وبرامج التدريب والتسلح.
وطبقا لأحد المراقبين الغربيين، فان إجراءات يودويونو معطوفة على أمور أخرى ساهمت في حدوث انشقاقات في شبكات الجماعة الإسلامية الاندونيسية وتحولها إلى 3 فرق أو أكثر: أبرزها فريق ضاق ذرعا بالانتكاسات المتتالية للجماعة ففضل لدواعي مصلحية مغازلة السلطة والتعاون معها. وفريق لم يقرر بعد ما يفعل، أي أنه متردد وفي حالة ترقب لحدوث مفاجآت كظهور شخصية تستطيع إعادة تنظيم وهيكلة الجماعة. ويقال أن هذا الفريق يقوده المدعو “أبو رشدان” معلم الدين الاندونيسي الذي كان قد حكم عليه في عام 2004 بالسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف بسبب تقديمه الملاذ الآمن لمنفذي تفجيرات بالي والذين انتهى الأمر بإعدامهم شنقا في عهد يودويونو. وفريق لا يزال متمسكا بمواقفه الجماعة الأصلية المتشددة والهادفة إلى القتل والتدمير باسم الجهاد ومقاومة “الكفار”. ويقال أن الفريق الأخير تحت قيادة نور الدين محمد توب الذي يبدو أن سبب انشقاقه عن الجماعة الإسلامية الأصلية، وتأسيسه في عام 2006 لما صار يعرف بتنظيم قاعدة الجهاد أو “تنظيم القاعدة في الأرخبيل الماليزي”، هو اعتراضه على سياسات الجماعة الإسلامية في ضرب الأهداف السهلة التي توقع خسائر في صفوف المدنيين من مسلمي اندونيسيا أكثر من تحقيقها لخسائر في صفوف “أعداء الإسلام”. وكان توب قد تمكن من الهرب في ابريل 2006 قبيل ساعات من اقتحام الشرطة الاندونيسية لمخبئه الآمن.
وهناك من يضيف إلى الفرق الثلاثة السابقة فريقا رابعا يقوده المدرس الاندونيسي الشاب ” أمان عبد الرحمن” واختار لنفسه اسم ” جماعة التوحيد والجهاد”، وفريقا خامسا ينضوي تحت لوائه بقايا الجماعة الإسلامية الأصلية بقيادة “أبوبكر باعاشير” رجل الدين الخبيث الذي يدعي المسكنة والورع والتقوى، فيما هو العقل المدبر والمحرض على نحو ما تبين أثناء جلسات محاكمته في عام 2003 .
على أن الانقسام المذكور – في رأي بعض المحللين – لا يعني أن الفرق التي أتينا على ذكرها أعداء لبعضها البعض، بمعنى أنها ستبلغ السلطات عن مكان هذا المطلوب أو ذاك أو تقدم معلومات عن هذه العملية أو تلك. بل يمكن القول انه على العكس من ذلك، ستساعد وتمنح الأمان لبعضها البعض لأن ما يجمعها أكثر مما يفرقها.
والحال أن ما حدث في جاكرتا من أعمال إرهابية في يوليو يؤكد مجددا انه رغم ما قيل ويقال عن انشقاق الجماعة الإسلامية وتفرقها وعدم وجود قائد ميداني حقيقي يمسك بزمام أمورها، فإنها قادرة على معاودة تنفيذ أعمالها القذرة بدقة وحرفية، مستهدفة ليس أرواح الأبرياء أو المصالح الاجنبية فقط وإنما أيضا استهداف الاقتصاد الاندونيسي الذي بدأ يتعافى منذ أن استلم الرئيس يودويونو منصبه في عام 2004 ، من بعد سنوات من التدهور والكساد. فرغم أن يودويونو لم ينجح في حل كل المعضلات الاقتصادية، بدليل بقاء معدلات البطالة مرتفعة، وبقاء البنية التحتية في حاجة ماسة للتحديث والتطوير، وتغلب دول أخرى مجاورة على اندونيسيا في جذب الاستثمارات الاجنبية، فانه من ناحية أخرى حققت إدارته للبلاد معدلات نمو بنسبة 6 بالمئة، وهو ما لم تحققه سوى ثلاث دول من دول شرق آسيا هي : فيتنام ومنغوليا والصين.
bu_ahmed50@yahoo.com
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين