بقدر ما يجب علينا شجب الأعمال الإرهابية والعمليات الإنتحارية التي قامت بها الجماعة التي تطلق على نفسها “حركة جند الله” البلوشية السنية مؤخرا ضد النظام الحاكم في طهران، والتي قضي بسببها عدد من الأبرياء الشيعة في موسم عاشوراء الأخير، فإنه يجب علينا أن نشجب بالقوة نفسها القرار الذي يقال أن طهران قد اتخذته مؤخرا بإطلاق سراح عدد من كبار قياديي تنظيم القاعدة الموجودين لديها من أمثال الضابط السابق في الجيش المصري”سيف العدل” والمدرج على لائحة الـ 85 للمطلوبين في السعودية “أبو الخير المصري”، والناطق السابق بإسم تنظيم القاعدة الكويتي “سليمان أبو غيث”، وخبير المتفجرات/القيادي في جماعة “الجهاد” المصرية “أبو محمد المصري”.
فمثل هذا القرار، لئن لم يكن عملا إرهابيا مباشرا، فإنه في الواقع يندرج في خانة تشجيع الإرهاب ومنح رموزه دفعة معنوية كبيرة. فهؤلاء يجب محاسبتهم على ما إقترفته أياديهم الملطخة بدماء الأبرياء في أكثر من مكان – أو على الأقل تسليمهم إلى الجهات التي تطالب بهم- لا أن يـُصار إلى إطلاق سراحهم أو إستخدامهم في ردود أفعال إنتقامية ضد هذا الطرف أو ذاك.
ولا يحتاج المتابع إلى ذكاء للقول أن نظام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وحلفائه داخل الحرس الثوري والمرجعية الدينية، لم يـُقـْدموا على هذا العمل إلا من أجل إغاضة الغرب الذي يعارض مخططاته النووية الهادفة للهيمنة الإقليمية، ويفرض عليه بسبب من ذلك حصارا إقتصاديا قاسيا، بات يأتي أكله على أكثر من صعيد، كإضطرار طهران مؤخرا إلى تخفيض حجم مساعداته لحزب الله اللبناني بنسبة 40 بالمائة، وإضطرارها لرفع الدعم الحكومي عن الوقود والخبز رغم حساسية الملف الأخير شعبيا.
غير أنه من السذاجة الزعم بأن القرار الإيراني المذكور لن تكون له تأثيرات سلبية على إيران نفسها قبل غيرها. فالقرار سوف يساعد دون شك في إعادة بناء التنظيمات الإرهابية المتواجدة في أفغانستان وباكستان، وهذه التنظيمات لها – كما لا يخفى على أحد – أجندتها وبرامجها الخاصة الهادفة إلى زعزعة الأمن والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وتصفية أكبر عدد ممكن ممن لا يلتزمون بعقيدتها الدينية المتطرفة، وقلب جميع الأنظمة التي لا تتبنى رؤيتها المتشددة، وعلى الأخص منها النظام الفقهي القائم في طهران.
ومن هنا نقول أن حكومة نجاد تخطيء لو ظنت أن إطلاق قياديي القاعدة الذين ظلت تحتفظ بهم منذ إنهيار نظام طالبان الأفغاني في عام 2001 سوف يتسبب فقط في المزيد من المتاعب للولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات الساعيات لتثبيت الأمن والإستقرار في أفغانستان من جهة، وإجتثاث الحركات المسلحة الخارجة عن القانون في باكستان من جهة أخرى،
وهي تخطيء أيضا لو ظنت أنها بذلك القرار المتسرع وغير المدروس سوف تقلق فقط مضاجع الحكومة الباكستانية ومؤسستها العسكرية وأجهزة إستخباراتها التي لطالما إنتقدها الإيرانيون، سرا وعلانية، زاعمين أنها توفر الدعم والحماية للمتمردين البلوش الساعين للإنفصال عن الكيان الإيراني، أو أنها لا تقوم بعمل حاسم ضدهم كي يتوقفوا عن عملياتهم العسكرية ضد عناصر الحرس الثوري، خصوصا بعدما شهدت تلك العمليات تطورات نوعية وكمية في أعقاب قيام طهران بإعتقال وإعدام الزعيم السابق لـ “حركة جند الله” عبدالملك ريغي في فبراير من عام 2010.
إن القرار الإيراني الأخير سيرتد لا محالة على متخذيه أولا لأنه ببساطة سيزيد من حالة الإحتقان الشيعية – السنية ، وسوف تكون له ثانيا نتائج وخيمة على حالة الأمن والإستقرار في عموم المنطقة التي تنتمي لها إيران لأنه سيتسبب في المزيد من المعاناة الإنسانية والإرتباك الأمني في دولتين جارتين لإيران هما أفغانستان وباكستان. ولعله من غرائب الأمور أن النظام الإيراني الذي ساهم مساهمة فعالة – بإعتراف الإمريكيين – في عملية إسقاط النظام الطالباني وحلفائه من تنظيم القاعدة التي حررت شيعة أفغانستان من أعمال التمييز والإقصاء والتصفية، هو نفسه النظام الذي يعود اليوم ليمد يده إلى التنظيم الأخير، مأخوذا بنزعة الإنتقام من الغرب فحسب، ومتجاهلا تبعات مثل هذا العمل.
قد تكون القيادة الإيرانية قد إتخذت القرار المذكور من منطلق المصاعب التي تواجهها قوات “الناتو” العاملة في أفغانستان ومنطقة الحدود الأفغانية – الباكستانية، في محاولة منها لزيادة مداها وحجمها. غير أن تلك المصاعب لئن كانت واقعا بدليل ما قاله الرئيس الإمريكي “باراك أوباما” في أكتوبر الماضي، حينما أعلن أن قوات بلاده – رغم تحقيقها بعض التقدم في السيطرة على إقليم قندهار- فإنها تواجه مشاكل متزايدة للسيطرة على المناطق المحيطة بالإقليم المذكور كنتيجة لتكتل القوى القبلية البشتونية الجنوبية من تلك المعارضة للتواجد الأجنبي في أفغانستان، ثم بدليل ما ذكره قائد قوات “الناتو” العاملة في أفغانستان الجنرال “ديفيد باتريوس” في وقت سابق من أنه غير مقتنع بإمكانية تحقيق نصر حاسم في المناطق الخاضعة لميليشيات طالبان، ليس مبررا كافيا للإقدام على خطوة إطلاق سراح إرهابيين كبار مطلوبين للعدالة في أكثر من بلد، ولا سيما المدعو ” سيف العدل” رئيس جهاز الأمن لدى أسامة بن لادن وأحد المدرجين الرئيسيين على قائمة الإرهابيين المطلوبين من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي لتورطه في عملتي إعتداء ضد سفارتي واشنطون في نيروبي ودار السلام في عام 1998 . ذلك أنه ثبت بالدليل القاطع أن الغالبية العظمى من أصحاب الفكر المتشدد – أيا كانت جنسيتهم أومذهبهم، وأيا كانت الجهة التي تحتجزهم- يعودون إلى الإنخراط في الأعمال الإرهابية بمجرد إطلاق سراحهم، بل ويعودون بفكر أكثر تشددا، وبرغبة مضاعفة في القتل والتدمير.
ونختتم بإعادة التذكير بما قيل مرارا وتكرارا من أن طهران تتعاون، رغم كل التباينات الفكرية والمذهبية، مع الإفغان العرب والرموز المتشددة للإسلام السياسي السني، بل تعتبرهم إحتياطيا إستراتيجيا لها يمكن الغرف منه كلما دعت الحاجة. وهذه الحاجة الآن تتمثل في الإنتقام من الغرب وباكستان معا. ولو أن الأخبار التي روجتها أجهزة الدعاية الإيرانية مؤخرا ونفتها مصادر “حركة جند الله” نفيا قاطعا حول إعتقال كبار قياديي الأخيرة (من أمثال أمير الحركة الحاج محمد ظاهر بلوش، والناطق الرسمي بإسمها عبدالرؤوف ريغي) كان صحيحا، وليست مجرد حربا نفسية للتأثير على معنويات عناصر الحركة وأنصارها، لما عمدت طهران إلى إطلاق سراح قياديي تنظيم القاعدة الإرهابي في هذا التوقيت من أجل تنشيط عملياتهم ضد من تتهمهم بدعم المتمردين البلوش.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين