كالعادة، انشغل أغلب المعلّقين العرب بالزبد، وتجاهلوا، أو فشلوا في الكلام عمّا ينفع الناس. أعني بذلك الحادثة الإرهابية في النرويج. فقد ابتهجوا لأن الإرهابي لم يكن من العرب والمسلمين. وهذا الابتهاج مبرر ومفهوم. وبالقدر نفسه استعذبوا فكرة كراهيته للعرب وللمسلمين، لكنهم لم يذهبوا في تفسير تلك الكراهية أبعد من الكلام المُعاد والمكرر عن عنصرية الغرب.
وإذا شئنا الكلام عمّا ينفع الناس، فمن المنطقي أولاً البدء بفكرة من نوع أن الحادثة الإرهابية في النرويج فردية ومعزولة، بينما حوادث الإرهاب المشابهة في العالمين العربي والإسلامي، وامتداداتها المعولمة، تمثيلات جمعية لأيديولوجيات وجماعات لا تعد على أصابع اليد الواحدة، بل على ما هو أكثر من ذلك.
وبالقدر نفسه، فإن المجتمع في النرويج، أو في غيرها من الديمقراطيات الغربية، يوّلد مقاومات مستمرة ومتنوّعة لظاهرة التطرّف والعنف، سواء على مستوى النظام التعليمي، وأجهزة الإعلام الرسمية، أو المدعومة من جانب الدولة، أو على صعيد المجتمع المدني.
بينما في العالم العربي يحض العنف المُمارس من جانب الدولة على عنف مضاد، وتُسهم أجهزة الدولة من خلال النظام التعليمي والإعلام في تعزيز كراهية الغريب والمختلف، وفي حالات يصعب القول بأنها نادرة تدعم أجهزة الدولة جماعات متطرّفة، ناهيك عن حقيقة أن أيديولوجيا الإرهاب تحظى بمكانة رفيعة إلى حد يبرر التعامل مع ممثليها كأبطال في أوساط اجتماعية ليست بالهامشية ولا المعزولة.
ألم تخرج مظاهرات تأييداً لبن لادن في أكثر من مكان من العالم العربي، ألم يظهر معلقون على فضائيات عربية لا يذكرون اسم بن لادن إلا مسبوقاً بكلمة الشيخ، تعبيراً عن التقدير والاحترام.
لن يظهر أحد في وسيلة إعلام محترمة في الغرب للكلام عن الإرهابي النرويجي بطريقة تدل على الاحترام. هذه اختلافات جوهرية، وهي أكثر أهمية من الشعر الأشقر للإرهابي النرويجي وكراهيته للعرب والمسلمين.
وها قد وصلنا إلى جانب آخر يستحق قدراً من الاهتمام. الإرهابي النرويجي يكره العرب والمسلمين. والسؤال ليس لماذا، بل ألا تحض أفعال بعض العرب والمسلمين على مثل هذه الكراهية؟
لا توجد قضية في الكون تستحق الدفاع عنها بالعبوات الناسفة في قطارات الغرب، وفي ميادينه العامة، وفي طائرات المسافرين. أن يظهر إرهابيون وأن يمارسوا أعمالاً كتلك التي مورست منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وحتى الآن، أمر مفزع، لكن الأكثر إثارة للفزع ألا يجنّد العالم العربي كل طاقاته للقضاء على هذه الظاهرة، بالمعنى الثقافي والسياسي والاجتماعي.
الصحيح أن الإرهابيين كانوا مفيدين لأنظمة الطغاة العرب. وهذه مفارقة مأساوية بقدر ما هي محزنة. والصحيح، أيضاً، أن أنظمة الطغاة تصدت للظاهرة في حدودها الأمنية، لتأمين وجودها، وضمان سلامتها، وأهملت الحدود الأخرى، وهي أكثر أهمية.
والأسوأ من هذا وذاك أن الثقافة العربية لم تتعامل مع ظاهرة الإرهاب، باعتبارها سؤالاً يستحق التفكير والتدبير. وأعني بذلك الدراسات، والندوات، والسجالات، والمؤتمرات، والمنشورات، والمتابعة المستمرة لبلورة آليات اجتماعية وثقافية للمقاومة، مقاومة الإرهاب بالمعنى الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي. يمكن أن أحصي الآن عشرين مرجعاً جيداً عن الظاهرة الإرهابية في العالم العربي لكتّاب غربيين، ولكن لا أستطيع أن أحصى ما يزيد على عملين أو ثلاثة أعمال لكتّاب عرب.
مسلسل المذابح في العراق، مثلاً، حيث يفجر انتحاريون أنفسهم في أسواق، وجوامع، وشوارع، وميادين عامة، لم ينل في السجال الثقافي العربي ما يستحق من الاهتمام. وقد وصلنا إلى الحضيض عندما تحوّلت جماعة الطالبان إلى رمز للمقاومة.
المسألة الأخيرة أن اليمين المتطرّف في الغرب يشبه المتطرفين في العالمين العربي والإسلامي. أوجه الشبه تتمثل في فكرة النقاء، النقاء العرقي والثقافي والديني واللغوي، وفي كراهية الاختلاف.
وفكرة النقاء هذه تنتمي إلى الأزمنة الحديثة، على الرغم من حقيقة أن لدى القائلين بها مصادر ومرجعيات تنتمي إلى أزمنة مضت. وفي هذا الصدد يمكن الكلام عن مفارقة مدهشة. الاختلاف، أو التعددية إذا شئت، جزء من بنية وهوية ومكوّنات الأزمنة الحديثة، في طورها المعولم الأخير، حيث تشبه المدن الكبرى في الوقت الحاضر عواصم الإمبراطوريات القديمة، التي اختلطت فيها الأجناس واللغات والروائح والأزياء. إمبراطورية آل عثمان، وآل هابسبورغ، كانتا خليطاً عجيباً ومدهشاً من بني البشر. كلتاهما كانت مثلا ناجحاً للتعددية.
أطاحت القوميات الجديدة والمفترسة الباحثة عن النقاء العرقي، اللغوي، القومي (اختر ما شئت) بالإمبراطوريتين معاً، وكان نظام الحكم فيهما عاجزاً عن التأقلم مع التحوّلات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجديدة.
المتطرفون والإرهابيون في الغرب وفي عالم العرب والمسلمين يأخذهم الحنين إلى الزمن الإمبراطوري القديم، ولكن بلا اختلاف، ولا تعددية، يريدون إمبراطورية مشروطة بالنقاء، بينما حَكَمَ النقاء على الإمبراطورية بالفناء.
المفارقة تعيد التذكير بما يقال عن تكرار الحادثة التاريخية مرّة في صورة مأساة، ومرّة أخرى كملهاة. والفرق أن الملهاة الحديثة سوداوية ومأساوية تماماً. ولعل في هذا فائدة أكثر بقليل من الكلام عن شعر الإرهابي النرويجي الأشقر، وعيونه الزرقاء، وكراهيته للعرب والمسلمين.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني ورئيس تحرير مجلة “الكرمل الجديد”