“ لن تصيد الثعلب بنفس الفخ مرتين (أرسطو)
”
رواية “دون كيخوته” للكاتب الاسباني سرفانتيز صدرت كاملة فى أسبانيا سنة 1615 وتعد واحدة من عيون الأدب العالمي وأكثرها شهرةـ وكانت من أكثر الروايات قراءة لدى المعتقلين من “العرب الافغان” فى جوانتانامو.
تتحدث الرواية عن كهل قضى فترة طويلة من حياته يقرأ فى كتب مغامرات الفرسان الفرنسيين أعجب بأخلاقهم وتصرفاتهم النبيلة، وجمع عنهم مكتبة عظيمة وأدمن قراءة كتبها، ثم أصيب بالجنون وفى لحظة ما قرر أن يستعيد المجد القديم ويتحول إلى فارس يعيش مغامرات الزمن الجميل.
اشترى حصانا بطيئا متعبا من خيول الخدمة وأقنع واحدا من المزارعين أن يكون تابعه ووعده بأن يهبه جزيرة وسمى نفسه باسم “دون كيخوته”، وكما تقضى قواعد الفرسان تخيل نفسه عاشقا واتخذ حبيبة لا وجود لها إلا فى خياله سماها “دولسيتا”، وانطلق فى مغامرته. فتخيل الخان الصغير قلعة الامير الذى سيرسمه فارساً، وأصر على انتظاره إلى أن ملّ منه صاحب الخان وقال له أنا الامير وأنا أرسمك فارساً. وأنطلق ليبشّر بعودة زمن الفروسية وتخيّل طواحين الهواء عدوّه الشرير، وخاض الفارس مغامرات وهمية ضدها وضد الاخرين من أجل أن يصل إلى حبيبته تنتهي دائما بتعرّضه هو وتابعه المغلوب على أمره للضرب والاذلال. وعندما خسر معركته الاخيرة كان ملزما بتسليم سلاحه والخضوع لثلاثة ألاف جلدة غرامة أُلزم خادمه الوفي الذى لا دخل له بهزيمته بتحملها بدلا منه.
عاد دون كيخوته بعد الهزيمة شبه ميت إلى منزله ليقضى أيامه الاخيرة. وقبل يومين من وفاته حلت به ومضة عقل فكتب وصيته بأن تؤول ممتلكاته لابنة أخيه بشرط ألا تتزوح من شخص يقرا فى روايات الفرسان وأن تحرق كل كتبه – فى الواقع، فإن إبنة أخيه أحرقتها فى فترة غيابه، وعاد تابعه بألام ظهره المبرحة إلى عمله السابق فقيرا معدما دون جزيرة.
تنطبق هذه القصة برمزيتها على أنصار “الاسلام السياسي” وعلى “الوهابيين” و “جماعة الاخوان المسلمين” الذين يلعقون الآن حذاء الهزيمة فى مصر وفى تونس ثم فى ليبيا بالضرورة، ويواجهون الحقيقة البائسة. وينطبق على المصريين وعلى التونسيين فى زماننا الحاضر حال تابعه “شانشو” الذى يتحمل لَسعَ السياط نتيجة أخطاء سيده المجنون الذى سيطرت عليه الاوهام فلا يرى الواقع ولا يستمع إلى نصح أحد!
*
بدأ “الإخوان” أيامهم الاولى فى الحكم بنهم للسلطة وبدكتاتورية مطلقة واستولوا على كل مفاصل الدولة وخصّوا أنفسهم بكل المناصب المهمة فى الحكومة، وأزاحوا القوى السياسة الاخرى من الحكم، وتصرفوا كما تتصرف الجماعات الماسونية المغلقة على نفسها: أقصوا الكفاءات والكتل السياسية الاخرى عن تقلد أي منصب أو وظيفة، ومنحوا انفسهم سلطة كاملة ما لبثت أن عادت عليهم بالوبال. وكان على عامة المصريين والتونسيين أن يدفعوا ثمن هذا الدمار كما فعل شانشو تابع دون كيخوته.
فى سبيل بقائهم فى الحكم خان “الأخوان” ناخبيهم وانقلبوا على أصدقائهم وتخلوا عن مبادئهم وتوجهاتهم الاسلامية التى انتخبوهم على أساسها. ثم، لما فشلوا فى تطبيق سياستهم، وحاولوا المزج بين السياسة والدين، خسروا الاثنين وعادوا طبقة معزولة عن المجتمع كما كانوا من قبل، مع إختلاف أن الاولى كانت بإرادة الحاكم والثانية أيضا بإرادة الحاكم، الفارق أن الحاكم الثانى مسلم غيور على دينه!
ولا مفر أمامهم من أن يعترفوا بأنهم لم ينجحوا فى تسيير شئون البلاد ولم يوفقوا فى تحويل مبادئهم التي ظلوا لسنين طويلة يتغنون بها إلى واقع أو حال يبعث الامل. لانهم عندما دخلوا مجال السياسة تصرفوا بمعزل عن العقيدة، لجأوا إلى الكذب، وتناسوا أهم نصائح الرسول، “لا تكذب”، لان قياداتهم فى مصر مارست الكذب المفضوح: كذب المرشد، وكذب نائبه، وكذب رئيس الدولة، وكذبت الشخصيات الكبرى فى الحزب، وكذب راشد الغنوشى فى تونس. وانتقلت عدوى الكذب إلى الجانب الليبيى فمنح “محمد صوان”، رئيس “حزب العدالة والبناء” نفسه لقب “دكتور” وأنكر لقاءه بـ”خيرت الشاطر” نائب المرشد المصري أو معرفته به برغم أنه دخل البلاد عن
طريقهم بدون تأشيرة ودون ختم دخول على جواز سفره. بل أنكر علاقة حزبه بجماعة الاخوان المسلمين وكأن الانتماء إليها عار يرفض أن يلتصق به برغم أنه وجميع أعضاء حزبه أعضاء فيها! ثم تهرّب من سؤال محدد هو: كم تقبض من إمارة قطر؟
قبل الثورة كان صوان يعمل موظفا بالغرفة التجارية فى مصراتة-.
ومارس بعضهم الرذيلة، كما فى حالة النائب السلفي فى مصر “علي ونيس” المتهم بالفعل الفاضح فى الطريق العام مع فتاة عمرها تسعة عشر عاما، وانتشرت فضيحة “رفيق عبد السلام” وزير خارجية تونس، أحد أعمدة حزب “النهضة” وصهر الغنوشي، في ما يسمى “شيراتون جيت”، حين كشفوا إقامته فى فندق “شيراتون تونس” مع سيدة لا تربطه بها علاقة زواج، وكانت الخارجية التونسية هى المنوطة بسداد فواتير الحب والاقامة! ولانكار إرتكابهم للرذيلة، مارسوا حقهم المشروع فى الكذب فأنكروا الواقع وكذبوا الشهود!
فى عالم السياسة، فى “بلاد الكفّار”، يكون الكذب هو أكبر الخطايا! لو كذب مرشح أو سياسى كذبة واحدة لفقد فرصة العمل بالسياسة إلى الابد . لكن هذا لا يلزمنا لانهم “كفار” نُهينا عن التشبه بهم بل ويجب مخالفتهم حتى في ما فيه صالح لنا – لأن “أعمال الكفار مبناها على الضلال والفساد”- إبن تيمية الحراني، “إقتضاء الصراط المستقيم”، (1/198!
ولما تعثرت السبل أمام الجماعة فى مصر أثبتوا أنهم لاعبون سياسيون يتخذون رداء الاسلام وسيلة مخادعة لتحقيق مصالحهم، لا تهمهم المبادئ بقدر ما يهمهم البقاء فى الحكم. فخلعوا رداء الدين ومارسوا ألالاعيب والمناورة وإعطاء الوعود والنكوص عنها، وانقلبوا على حلفائهم واستخدموا القوة المفرطة لقمع المواطنين الذين مسهم الضر من سياستهم برغم أنهم أنصارهم الذين إرتقوا بهم إلى سدة الحكم.
فقد الجنيه المصرى عشرين بالمئة من قيمته أمام الدولار، وعجزت الحكومة التونسية عن سداد مرتبات موظفيها، ولجأت إلى ليبيا تطلب القرض الحسن الذى لن يرد (وإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 280).
وعندما دارت عليهم الدوائر وأصبحت الهزيمة قاب قوسين أو أدنى، لم يتورعوا أن يكشفوا عن صورتهم الحقيقية وحاولوا البقاء فى الكادر ولو على حساب مبادئهم. استدعوا رئيس الحرس الثوري الايراني الشيعي لتنظيم صفوف ميليشياتهم. وحضر رئيس الاستخبارات القطري بدعوةٍ منهم، وبقي فى مصر عدة أيام بدون علم الدولة المصرية. وخاطب الرئيسُ المسلم الرئيسَ الاسرائيلي بلفظ “صديقي”، وأظهروا الصداقة والود لاعداء الاسلام الاساسيين فاقترح عصام العريان، الناطق الرسمى بإسم الحزب الحرية والعدالة التابع للجماعة، عودة اليهود إلى مصر – لاحظ الترابط بين دعوته ودعوة الصلابي، بدون مناسبة، إلى طرح موضوع عودة اليهود الليبيين إلى ليبيا-
وسافر العريان على رأس وفد من قيادات الحزب والجماعة للولايات المتحدة الامريكية لاقناعها بأنهم لا يمثلون خطرا يهدد المصالح الامريكية فى المنطقة. ثم أكدوا الكلام بالفعل وقدموا للاسرائيليين أكبر عون عندما تعهدوا لهم نيابة عن حماس بألا ينطلق من غزة صاروخ واحد نحو الارض الاسرائيلية وهو تعهد أثبت فعاليته إلى اليوم.
ارتدوا ثياب العصر وإنسجموا مع الواقع وساهموا فى رعاية حفلات فنية وغنائية لتشجيع السياحة ظهرت فيه فنانات لبنانيات ومصريات فى ملابس كاشفة مثيرة للغرائز، ووضعوا إسم الحزب فى مكان بارز فى مدخل الحفل. ولم يروا فى ذلك بأساً! بل ظهر محمود غزلان عضو الجماعة والمتحدث بإسمها مع الفنانات فى مؤتمر صحفى ليعتذر عن خطأ الجماعة فى حق الفن ويعلن بدء مصالحة بين جماعة الاخوان وبين الفن والسياحة، مع تأجيل مؤقت لغيرتهم على الدين وتخليهم لفترة لن تطول عن السعي لاقامة الخلافة السادسة،
*
ولا فرق بين المتأسلمين فى مصر وليبيا وتونس. كلهم يمتازون بثنائية التفكر ويملكون القدرة الهائلة على التلون والخداغ وعدم الوفاء بالوعد، وكلهم على إستعداد لابتلاع كلماتهم والاعتذار عن تصريحاتهم وإتهام الآخرين بعدم فهم القصد. ويجدون سندا دينيا يرفع عنهم اللوم وبؤمنون بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والواجب الاساسى عندهم هو الوصول إلى الحكم وسيسعون إليه بكل سبيل ممكن حلالا كان أم حراما ويجدون فى أحكام العلماء ما يسمح لهم بارتكاب كل إثم ظاهر فى سبيل نصرة هدف أسمى (راجع سورة الكهف الاية 66 وما بعدها.
وككل المتعصبين لفكرة أو عقيدة يصعب عليهم الاعتراف بالخطأ، ويصعب عليهم التسليم بالهزيمة. فهم “جند الله ألمعصومون” وسيتمسكون ببقائهم فى السلطة لاطول فترة ممكنة ولن يسلموها طواعية لغيرهم. فتسليم أمر المسلمين لغير المسلمين “كفر بواح” لا يجوز لهم أن يرتكبوه، وسيعزون أخطاءهم إلى المؤامرة والتدخل الخارجى وأن من يتظاهرون ضدهم “أزلام” أو “فلول” – بحسب إختلاف البلد – أو مجرمون من خريجي السجون أو فى أقل الاحوال أطفال مغفلون مغرر بهم لا يفهمون ما يفعلون- قارن أيضا تصريحاتهم بتصريحات “محمد صوان” بعد إعلان نتيجة الانتخابات-.
بمعنى أنهم لا يقبلون النقد ولا يتوقعون الاعتراض من أحد. فهم أنصار الحق وأولياء الله المهتدون، من حاربهم فإنما يحارب الله. ولن تؤرقهم ضمائرهم إذا شاهدوا أثر ما يلحقونه بالاخرين من أذى، بل يرون أن عليهم جميعا أن يصبروا ويصابروا فبقدر الصبر يكون الثواب، عليهم أن ويقبلوا بما يقرره لهم الحاكم حتى وإن كان ظالما، وما دام هذا الحاكم غالبا (عليهم السمع والطاعة لامير المؤمنين البر والفاجر ومن ولى الخلافة فيما جمع الناس عليه أوغلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين: محمد بن الحسين أبى يعلى، “طبقات الحنابلة”، المكتبة الشرعية المحمدية ج\ 1\26).
(لا يصلح الجسد إلا بالرأس ولذلك روي أن السلطان هو ظل الله فى الارض) تقى الدين بن تيمية الحرانى، السياسة الشرعية فى إصلاح الرعية المطبعة الخيرية ص 235.
والواقع أن الاسلام السياسى يواجه نهايته المحتومة فقد خسر الشارعَ المصرى والشارع التونسى والليبي بالضرورة. وربما يمكنهم تزوير الانتخابات لصالحهم لجولة أو لاخرى، لكن ثمن بقائهم سيكون مدمرا وسيقود إلى كوارث ودمار لانهم يتاجرون بقوت الفقراء والمساكين.
ريما يمكنهم الاستمرار كنظام قمعي، برغم أنهم كانوا ضحايا للعنف والقمع أكثر من ثمانين عاما، وبدأوا فى ذلك بالفعل فى مصر. لكن القياس يكون هنا مع الفارق، لأن من عذبهم وظلمهم هم “الكفار”، أما من يعذبهم الاسلاميون ويظلمونهم فهم “الكفار” أيضاً، ولن يستوى الكافر والمؤمن أبدا!
وأذا كانوا أثبتوا فشلهم على مستوى النظرية فلا أمل لهم فى عالم السياسة والبوليتيكا. أي لا أمل لهم فى أن تقبل القوى الكبرى المهيمنة على العالم بوصولهم إلى الحكم، خاصة فى ليبيا بسبب نفطها وموقعها وقربها من سواحل أوروبا.
وعليهم أن يقرأوا الواقع حين يشاهدون فرنسا والمجتمع الغربى متحدا معها تشن حربا مكلفة للقضاء على عناصر “القاعدة” والسلفيين الماليين والطوارق الذين يحاولون إنشاء “الخلافة السادسة” بتمويل قطري فى الصحراء المهجورة البعيدة عن البحر. فهل سيتركونهم ينشئون الخلافة السابعة فى الشاطئ المقابل لهم.
اخر ما سمعته وأنا أكتب هذا المقال أن القوات الفرنسية الحقت الهزيمة بقوات “القاعدة” واحتلت “تمبكتو” ونزعت من الفرسان الاشاوس سلاحهم. أما أقاربهم فقد أحرقوا “مركز المخطوطات التاريخية”، تماما كما فعل أقارب “دون كيخوت”، وعليهم أن يفعلوا ما فعله “دون كيخوته”: يفيقون من جنونهم للحظة، يكتبون وصيتهم، ويوصون بحرق كتبهم القديمة ثم يرحلون فى صمت!
magedswehli@gmail.comا
رجل أعمال وكاتب ليبي