تُصرّ بعض الأوساط الأوروبية والغربية على النظر بعين الريبة إلى التحول المصري الأخير، وتتناغم في ذلك ولو بشكل غير مباشر مع “نظرية المؤامرة” التي تعتبر أنّ الجيش المصري عاد إلى السلطة وأنّه كان ربما وراء نشاط حركة تمرّد ومظاهراتها المليونية.
تأخذ هذه الأوساط على الرسميّين الغربيّين عدم تسمية الأشياء بأسمائها وعدم لفظ عبارة “انقلاب” عندما يتعلق الأمر بمصر نظراً إلى شبكة المصالح مع هذا البلد المركزي، وتبعاً لحرص واشنطن على تفادي فرض عقوبات اقتصادية على القوات المسلحة المصرية مما يخالف اتفاقية السلام مع إسرائيل.
بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، ينبع هذا الموقف البرغماتيكي من مقاربة تتخطى الجدل القانوني حيال التعابير، وتركز على أن تدخل الجيش ليس تدخلاً عسكرياً كلاسيكياً ولا انقلاباً عسكرياً ديموقراطياً كما وصفه البعض، بل هو ترجمة مؤسساتية ومواكبة للموجة الثانية من الثورة في 30 حزيران الماضي.
وهذا الاعتراف بالوضع القائم، اعتبرته حركة الأخوان المسلمين وحكومة رجب طيب أردوغان أنه ينطوي على الانحياز إلى غير الإسلاميّين، وفيه تكرار لمواقف سابقة في عدم احترام الخيارات الديموقراطية عندما يخص ذلك الإسلاميين (هناك نسيان لحالة حركة النهضة التونسية التي لعبت الشراكة ولو الجزئية مع تيارات سياسية أخرى على عكس تفرّد الأخوان في مصر).
لكن هناك تفسير آخر للموقف الأوروبي يتمثل في إفشال الدكتور محمد مرسي لوساطة قام بها الاتحاد في نيسان الماضي.
منذ بدايات هذا العام، استنتجت دوائر الاتحاد الاوروبي في بروكسيل أن الوضع في مصر يتدهور سياسياً واقتصادياً، وأنّ المرحلة الانتقالية تعاني من الانقسامات الحادة وخصوصاً من الصراع المفتوح بين الإسلاميين وغير الإسلاميّين، ومن هنا جرى تفويض برناردينو ليون، المبعوث الخاص للاتحاد الى جنوب البحر المتوسط بمهمة الاستكشاف. انتَهز الاتحاد الأوروبي فرصة التراجع الديبلوماسي الأميركي ليسعى إلى التمركز على المسرح المصري.
ويتوجّب التذكير أنّ واشنطن التي تحتفظ بعلاقة عسكرية مميزة مع الجيش المصري، أقدمت على بناء صلات مع جماعة الأخوان المسلمين من خلال ما أسمَته “لجنة الصلات مع الأحزاب الإسلامية المعتدلة”، ولذلك ليس مستبعداً أن تكون واشنطن وراء رعاية ترتيبات الأخوان مع اللواء عمر سليمان في شباط 2011.
بيد أنّ إبعاد الدكتور محمد مرسي لقيادة المؤسسة العسكرية في آب 2012، وضَع واشنطن في موقع حرج بين “صديقين”، وتفاقم الأمر مع بدء التباعد بين مرسي والجنرال عبد الفتاح السيسي منذ كانون الثاني الماضي. ومن أجل لملمة وضع خطير، دعمت واشنطن الأفكار الأوروبية من اجل تضييق هوة الخلافات العميقة بين الأطراف المصرية.
وبموجب حل وسط، كادت جبهة الإنقاذ تعترف بشرعية مرسي وتشارك في الانتخابات البرلمانية التي هدّدت بمقاطعتها. في المقابل، كان من المفترض أن يوافق مرسي على تعيين رئيس جديد للوزراء بدلاً من هشام قنديل وتغيير خمسة وزراء رئيسيين لتشكيل حكومة وحدة وطنية من التكنوقراط.
إنّ الفشل في التوصل الى اتفاق في نيسان الماضي (بسبب رفض مرسي ومكتب الإرشاد على رغم موافقة مبدئية لسعد الكتاتني رئيس حزب الحرية والعدالة) يلقي الضوء على التحدي الذي يواجه الاتحاد الأوروبي الطامح إلى لعب دور “الوسيط الأمين”.
إنه نوع من رد الاعتبار، إذ إنّ انسحاب أوروبا من مصر بعد أزمة السويس، كان المفتاح لبدء المرحلة الأميركية في الشرق الأوسط في غمار الحرب الباردة. ومما لا شك فيه أنّ العلاقة الأميركية – المصرية الخاصة، المستجدة بعد اتفاقيات كامب ديفيد لم تفسح المجال إلا لأدوار أوروبية هامشية.
بيد أنّ مصر التي أصبحت لاحقاً من ابرز شركاء الاتحاد الأوروبي جنوب المتوسط، كانت محط الاهتمام والقلق، إذ إنّ الكثير من الدوائر الأوروبية المختصة كانت تعرب عن خشيتها من الجمود وغياب العمل والحلم عند الشباب، وكانت تعتقد بأنّ الأزمة البنيوية لنظام الرئيس حسني مبارك من جهة، ناهيك عن بروز طبقة متوسطة مع بدء الانخفاض الديموغرافي والنجاح في محو الأمية من جهة أخرى، ستعُجّل بالتغيير. إضافة إلى ذلك كان غياب الدور الخارجي المستقل والمناسب لحجم مصر من نقاط الضعف التي تعيق أيضاً بلورة سياسات تنمية بعيدة عن التبعية.
لا يساعد هذا الفهم الأوروبي لوحده على التمركز السهل في بلد تتنافس عليه أطراف دولية عدة خصوصاً أنه يمتلك الكثير من عناصر القوة في العالمين العربي والإسلامي وفي حوض البحر الابيض المتوسط وفي أفريقيا.
واندرجت زيارة مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون إلى القاهرة الأسبوع الماضي ضمن جهود جديدة للتوصل الى توافق وتجنّب العنف او سيناريو قريب من السيناريو الجزائري من سيناء إلى القاهرة.
لكن من دون التزامات أوروبية اكثر جرأة، ومن دون العمل على تفاهم مصري داخلي مع مواكبة للنقلة المصرية، يمكن أن يحصد الاتحاد الأوروبي عدم الاستقرار في الجوار بدلاً من استعادة النفوذ.
khattarwahid@yahoo.fr
الجمهورية