(الى هيفاء البيطار)
السوريون القليلون الذين يأخذون نفَساَ من ضجيج الدمار اللاحق بأرواحهم وعمرانهم… يتساءلون أحياناً، على سبيل المقارنة، بين حربهم الأهلية وبين حربنا، نحن اللبنانيين: هل هذا ما ذقتموه في حرب الخمسة عشر عاماً؟ هل هذا ما تلوّعتم به؟
أتلعثم كل مرة أمام هكذا السؤال، أتمتم كلمات عن “كثافة” الحرب السورية، عن انعدام التوازن (العسكري) بين أطرافها، عن النزوح اللبناني، الأقل مأساة، عن تدخل الدول العظمى، أو التوّاقة إلى العظمة، في مجرياتها، في الحربين، عن تطييف المجتمع، عن عسكرته. وكل مرة تخلص همْهماتي إلى أن لا اختلاف بين مآلات الاثنتين، وان لبنان سبق له الفضل في رسم الخط البياني الذي تسير به الثورة السورية، واخواتها، كل أخواتها.
ولكن ما فاتني هو المقارنة بين السيَر الخاصة للسوريين العالقين في ساحات هذه الحرب. وقد نبهتني اليه الدكتورة هيفاء البيطار في مقال لها في “السفير” (3-4-20013)، مؤثر بعمق، كعادة كل كتاباتها. ترصد طبيبة العيون الحالات النفسية للمواطن السوري، للأطفال خصوصاً، تروي قصصا عن صدمات عنيفة كانوا شهوداً عليها، أو ضحايا لها، والعوارض النفسية التي يقلّل الجميع من أهميتها. ثم تأتي في احدى الفقرات المروعة، فتقول: “أكثر ما يشعرني بالخزي والألم هو تلك الحالة العامة من رغبة الأهل ان يهجّ أولادهم الى خارج سوريا”، ثم تنعي العائلة السورية المهددة بغربة أبنائها: “الأسرة التي يوحّدها الحب ولمّ الشمل ما عادت أسرة. العديد من العائلات يهرّبون أولادهم خوفا عليهم من القتل”.
حسناً، هنا أيضاً، يبدو أن اللبنانيين سبقوا السوريين في اللوعة، وصارت جزاًء من حياتهم، أو بالأحرى أسلوب حياتهم. نعم نحن اللبنانيين، واللبنانيات خصوصاً، سعينا ونسعى جهدنا لـ”تسفير” أولادنا الى الخارج، نهربهم من جحيم السلم الأهلي المغشوش، ومن هستيرية بعض تعبيراته الأمنية، حيث الموت أكثر من محتمل، بنار الرصاص أو نار الإهتراء العميم. نهرّبهم، فوق ذلك، من فقدان معنى المستقبل في ربوعنا، أي مستقبل كان، منظوراً أو غير منظور. فيما أكثر من يحتاج الى المستقبل هم الشباب، الذين يفترض إنهم يبنونه؛ والمستقبل المنظور أمامهم هنا لا يشبه غير تلك البقعة السوداء الغارقة في مدى الكون.
آخر مرة “زارت” ابنتي لبنان، منذ شهر، فقدتُ النوم المطمئن أثناء خروجها للسهر، وراحت لياليّ تتقطع بين تلفون وسؤال عن ساعة عودتها… وهي طبعاً لا تهنأ بسهراتها مع أصدقائها، قلقة عليّ من قلقي، من المؤكد انها، في تورنتو، حيث تعيش وتعمل، لا تتعرض لمضايقاتي “اللطيفة”؛ وأنا أحاول إبتلاع قلقي، أو ربما “نقّي”، بمزاح عاجز أمام الهلع العميق، العميق… وفي يوم من أيام “النقْزات” الأمنية المعهودة، اتصلت بها وطلبت منها، من دون مزاح، ان تعود الى البيت فوراً، بسب ما تعلمون… من لحظتها، وكلما تطورت “النقزة” الأمنية، وأنا اراقب وصولها: ربع ساعة، نصف ساعة، ولم تعد. تلفون من جديد، “أين أنتِ”، ” في الطريق اليك”. “طيب، انت وين؟”، في “انطلياس”، تجيب، “والعجقة قوية…”. “انطلياس…؟!”، يطير عقلي ويرتفع وجع رأس مفاجىء. “كنت اظن انك في الحمراء”؛ أو هكذا، فهمت أنا مما فهمته هي. كنت معتقدة انها تسهر ليس بعيدا عني، وهي، الشابة المنطلقة، تريد توسيع حدودها… وانا افسدت رحلتها. عذرا حبيبتي نور. ولكن عندما طارت، عائدة الى تورنتو، شعرت وكأن ثقلا أزيح عن كاهلي. وعدت الى نومي المطمئن… رغم الرصاص المجاور.
في واقعة أكثر عنفاً، عندما “زار” ابني وعائلته لبنان قبل اكثر من عام، علق هو وأولاده وزوجته في مكان قريب من اشتباكات الاحباش و”حزب الله”. الساعات الثلاث أو الأربع التي أمضيناها على الخلوي للسؤال عن تطور المعارك ومدى اقتراب الرصاص منهم، أعادت اليّ آلام ظهر كنت نسيتها. قبل هذه “النقزة” وبعدها، لم أجد طريقي الى النوم الا بعد التأكد من انهم كلهم بالقرب مني، هنا، او في بيت الجدّة الثانية. وأيضا، عندما عادوا الى مغتربهم، تنفّست الصعداء، وناديت صواريخ الدنيا أن تقصف، لن أخاف…
تلك هي حالتي عزيزتي هيفاء. ولست وحدي، بل انني قد لا أجد عائلة الا واولادها مهاجرون، تعيش على “السكايب” والاجازات والخلوي. دفعوا اولادهم الى الهجرة، أم لم يدفعوا، لكنهم كلهم متحررون من نوع من الخوف لا يشبه غيره: الخوف الحارق على فلذات الاكباد. وفي حالات بعينها، قد يتجاوز البعض هذا الخوف، ويصرّ على ابقاء ابنائه الى جانبه، معتقداً بأن اولاده يحمونه، أو هو يحميهم. عند هذا البعض، كما ترى، يتغلب الأمن الشخصي المباشر على الأمن الأشمل، البعيد أو القصير أو المتوسط المدى.
نعم نحن “نهجّج” أولادنا الى الخارج، وصرنا عريقين بذلك؛ نتوحد طائفيا مع تعميم هذه الحالة بيننا. وقد اجتزنا مرحلة الإنسلاخ الأولي عن العائلة، وبلغنا مرحلة التكيف معها وتنظيم أنفسنا على أساسها. وذلك كما قلتِ يا دكتورة ببساطة شديدة في مقالك، “خوفاً عليهم من القتل”.
البداية صعبة دائماً، ذاك الإستئصال المفاجىء، تحت وطأة عامل أمني شديد غالباً، من أكثر المواقف الانسانية بعثاً على الشجن والشوق. لكن هذين الشجن والشوق لا يفلحان في شيء غير تأجيج النار الداخلية. لا يمكن لهذه النار أن تدوم. نحتاج الى مقاومة حروقها، أو تخفيف لهيبها، خصوصا مع “السكايب”. هذه المقاومة تجد مفتاحها في كلمة لهيفاء البيطار، عن الذي يضيع مع هجرة الأبناء، أي “الحب” و”لمّ الشمل”. الذين واللواتي ابتلوا بفراق الأبناء، مطلوب منهم مقاومة حروقهم وحرقتهم، بذل الحب مع هؤلاء الأبناء، ولم الشمل. ليس امامهم غير هذا السلاح لتحويل هجرة ابناءهم الى فصل غير تراجيدي في حياتهم. شوقهم في هذه الحالة سوف يتغير، وكذلك حسرتهم، بكيمياء الحب السحرية، وخيالها المتدفق. سوف يجدون انفسهم في حالة اختراع دائم، اكتشاف دائم، لحيل لمّ الشمل، أو الحب… نلوذ بها، نبحث عنها، نرتب مقتضياتها…
السوريون ما زالوا في بداية طريقهم الى الآلام. بتضحياتهم الملحمية هذه، سلكوا نصف المسافة؛ وهم يستحقون خروجاً نفسياً آمناً، نسبياً، يحفظ أرواحهم الباقية من شجن البُعاد. في جلجلتهم هذه، ليسوا وحدهم. ما زلنا معهم، نحن اللبنانيين، على هذا الدرب.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل