موجة من الحر الشديد اجتاحت مدينة تولوز بفرنسا على مدى يومين ثم هطلت الأمطار فلطفت الجو. أكتب هذا المقال من حجرتى فى الفندق وأرى من النافذة الميدان الكبير حيث يتجول مئات الفرنسيين الذين يحضرون فعاليات مهرجان «سباق الكلمات» وهو من أكبر مهرجانات الأدب فى فرنسا. مدير المهرجان أوليفييه دارفور مثقف فرنسى كبير يرأس فى نفس الوقت إذاعة فرنسا الثقافية وتساعده مجموعة عمل كلهم شباب فرنسيون ومعهم فتاة مصرية صارت معروفة هنا فى فرنسا هى داليا حسن. قررت إدارة المهرجان هذا العام اختيارى كضيف الشرف فى هذه الدورة، تم تكريمى على مدى أيام واشتركت فى ندوات عديدة ثم خصصت لى أمسية قرأت خلالها الممثلة الفرنسية الشهيرة «أريان أسكاريد» مقاطع من أعمالى أمام الجمهور. بالإضافة إلى سعادتى الشخصية بهذا التكريم فأنا فخور لأن كاتبا مصريا تم اختياره ضيفا للشرف وسط مجموعة من أهم الأدباء فى العالم. الفرنسيون يتابعون ما يحدث فى مصر باهتمام بالغ وهم يعتقدون أن مصر هى التى ستحدد شكل المستقبل فى العالم العربى كله. وصول محمد مرسى إلى الرئاسة أثار جدلا شديدا بين الفرنسيين: بعضهم يرون أن وصول الإسلاميين إلى السلطة «حتى لو كانوا منتخبين» فى أى بلد يشكل كارثة.
هؤلاء يعتقدون أن مصر برئاسة مرسى ستتحول إلى إيران أخرى حيث يتم استبدال الديكتاتورية الدينية بالديكتاتورية العسكرية ويؤكدون أن الأقليات والمرأة والفنانين هم أكثر من سيدفع ثمن الدولة الدينية. البعض الآخر «وهم الأكثر تحررا ومعظمهم يساريون» يرون أنه يجب احترام إرادة المصريين مهما تكن النتائج وأن مرسى رئيس منتخب ولابد من التعامل معه وإعطائه فرصة قبل الحكم عليه كما أن دخول الإسلاميين إلى النظام الديمقراطى سيدفعهم إلى الاعتدال ويمنعهم من التطرف والعنف. دافعت عن هذا الرأى الأخير وأكدت لهم أن وجود رئيس إسلامى لا يعنى بالضرورة إقامة دولة دينية وأن الأحزاب الإسلامية فى النظام الديمقراطى ستكون أقرب إلى الأحزاب اليمينية المسيحية فى ألمانيا وسويسرا. استمعت إلى خطاب الرئيس مرسى فى ميدان التحرير فأعجبنى لأنه كان واضحا وصادقا وتفاءلت خيرا لكننى تابعت الاحتفال الذى حضره فى جامعة القاهرة فانزعجت لأن الرئيس بدا وكأنه يتراجع عن مواقفه السابقة. لقد وعد الرئيس باستعادة حقوق الشهداء وأوضح أنه لا يقصد فقط الشهداء الذين سقطوا أثناء الثورة وإنما يقصد أيضا شهداء المذابح التى حدثت تحت حكم المجلس العسكرى مثل العباسية ومحمد محمود وماسبيرو ومجلس الوزراء وبورسعيد..
استعادة حقوق الشهداء لا تكون فقط بتعويضهم ماديا وإنما بإجراء محاكمات عادلة لمن تورطوا فى قتلهم. هنا لا يمكن إعفاء المجلس العسكرى من مسؤوليته السياسية عن كل هذه المذابح. لذلك اندهشت عندما سمعت الرئيس مرسى يطالب بتكريم أعضاء المجلس العسكرى تقديرا لإدارتهم الحكيمة للمرحلة الانتقالية. فى ظل هذه الإدارة الحكيمة تم قتل العشرات من شباب مصر بالرصاص ودهسهم بالمدرعات وتم فقء عيون العشرات بالخرطوش وسحلت البنات وهتكت أعراضهن وكل هذه الجرائم موثقة ومسجلة بالصوت والصورة. كيف سيستعيد الرئيس مرسى حقوق الشهداء وهو ينادى بتكريم المسؤولين سياسياً عن قتلهم..؟! لقد وقع الرئيس فى تناقض عجيب. هناك تراجع آخر: فقد أعلن الرئيس من قبل رفضه القاطع للإعلان الدستورى الذى يعطى صلاحيات الرئيس للعسكر ويفرغ الديمقراطية من مضمونها ويجعل رئيس الجمهورية أقرب إلى سكرتير المشير طنطاوى.. لكننا فوجئنا بالرئيس يؤدى القسم أمام المحكمة الدستورية تماما كما يقضى الإعلان الدستورى الذى يرفضه ثم تكلم فى جامعة القاهرة فلم يشر بحرف إلى رفضه للإعلان الدستورى الذى قضى ملايين المصريين أياما عديدة معتصمين فى الميادين من أجل إسقاطه..
لا يجب أن نتسرع فى محاسبة الرئيس مرسى ولا يجب أيضا أن نسكت ونحن نلاحظ أنه بدأ بالفعل يتراجع عن مواقفه. هناك مشكلة حقيقية فى سلوك الإخوان المسلمين السياسى فهم لا يرون الفرق بين مصلحة الجماعة ومصلحة الوطن وبالتالى يسعون دوما إلى تحقيق مصالحهم السياسية بغض النظر عن تأثير ذلك على الشعب والوطن وقد أدى ذلك المفهوم إلى تورط الإخوان فى التحالف مع كل حكام مصر بدون استثناء واحد بدءا من الملك فاروق وحتى المجلس العسكرى.. الإخوان بطبيعتهم قوة سياسية محافظة إصلاحية غير ثورية تتحاشى الصدام مع السلطة بأى طريقة وتسيطر على قياداتها هواجس من أن الصدام مع الحاكم سيؤدى للقضاء على الجماعة وهم يميلون دائما إلى عقد التحالفات والصفقات السرية التى تحقق مصالح الجماعة كما أنهم فى حضرة السلطان تعتريهم حالة من الليونة فى المواقف تجعلهم يتصرفون فى حدود ما يسمح به الحاكم وقد رأينا ذلك فى احتفال جامعة القاهرة عندما ظهر سعد الكتاتنى الذى ملأ الدنيا اعتراضا على قرار المشير طنطاوى بحل مجلس الشعب وأكد أنه يرفض هذا القرار ويعتبره غير شرعى بل إنه حاول أن يدخل إلى مجلس الشعب متحديا قرار المشير لولا أن منعه رجال الأمن. وبعد هذه الحرب الكلامية الضروس تغير موقف الكتاتنى فى جامعة القاهرة وما إن رأى المشير طنطاوى حتى تهللت أساريره وابتهج، وكاد يقفز فرحا كأن شيئا لم يكن..
الليونة السياسية نفسها رأيناها فى مجلس الشعب، الذى حاول أعضاؤه من الإخوان إرضاء المجلس العسكرى على حساب الثورة، وكلنا نذكر كيف صفق الإخوان عندما اتهم أحد الأعضاء الثوار بأنهم بلطجية ومدمنو مخدرات، ونذكر كيف ترك الإخوان الثوار يقتلون فى محمد محمود حرصاً منهم على رضا المجلس العسكرى، وكيف اتهموا المتظاهرات اللاتى انتهكت أعراضهن باتهامات مشينة، بل إن هناك مشهدا فريدا لا أظنه حدث قط فى تاريخ البرلمانات فقد اكتشف أعضاء مجلس شعب ضابطا فى أمن الدولة مندساً بين الجماهير يحرضهم على اقتحام مجلس الشعب، وهاج أعضاء المجلس وماجوا، واستمروا فى الصياح حتى كادت القبة تسقط على رؤوسهم من فرط الضجيج، وطالبوا بحضور وزير الداخلية فورا لمحاسبته بشدة، وفعلا حضر وزير الداخلية، فإذا بالأعضاء الموقرين يهرعون إليه ويعانقونه، ويأخذون معه الصور التذكارية. هذه الليونة السياسية الإخوانية لا أعرف لها سبباً محدداً، لكنها ظاهرة امتدت على مدى تاريخ الإخوان منذ إنشاء الجماعة فى عام 1928، وهى فى الواقع أكثر ما يهدد موقف الرئيس مرسى الآن.. لقد قطع الرئيس مرسى على نفسه وعوداً محددة واضحة، تعهد أمام الشعب بتنفيذ المطالب الآتية:
أولاً: إسقاط الإعلان الدستورى وانتزاع صلاحيات الرئيس كاملة غير منقوصة، وتسليم السلطة فعليا وليس رمزيا بمعنى أن يعود الجيش إلى ثكناته، ويكتفى بمهمة الدفاع عن الوطن، ولا يتدخل فى القرار السياسى بأى شكل وتحت أى مسمى.
ثانياً: الإفراج الفورى عن 14 ألف معتقل فى السجون الحربية، وإعادة محاكمتهم أمام قاضيهم الطبيعى، ومنع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية.
ثالثاً: تغيير اللجنة التأسيسية للدستور بحيث تعبر بطريقة أفضل عن إرادة الشعب على ألا يكون للإخوان فيها الأغلبية، حتى لا يتمكنوا من فرض الدستور، الذى يريدونه على الشعب.
رابعاً: تشكيل حكومة ائتلافية يكون فيها رئيس الوزراء شخصية وطنية مستقلة، وتعيين نائبين للرئيس أحدهما امرأة، والآخر قبطى، وتعيين وزراء ثوريين بحيث لا يتجاوز عدد الوزراء الإخوان أكثر من 30% من عدد الوزراء.
خامساً: المحافظة على مدنية الدولة، واحترام الحريات الشخصية فى حدود القانون، وعدم فرض أى زى معين على النساء تحت أى مسمى.
سادساً: حماية الأقباط، وتحقيق مطالبهم المشروعة، التى طالما أهدرت فى عهد مبارك.
سابعاً: المحافظة على حرية التعبير، وحماية حرية الإبداع فى حدود القانون، وعدم التدخل فى شؤون الفنانين والمبدعين بقيود رجعية متخلفة من شأنها أن تدمر صناعة السينما والإبداع الأدبى وتعيدنا إلى ظلام العصور الوسطى.
هذه العهود قطعها الرئيس مرسى على نفسه أكثر من مرة أمام الشعب المصرى، وهو يقف الآن فى مفترق طرق، وأمامه اختياران لا ثالث لهما: إما أن يتصرف كرئيس منتخب شرعى يمثل الثورة، ويخوض معركة سياسية ضد المجلس العسكرى، كى ينتزع صلاحياته ويعيد السلطة إلى الشعب المصرى، الذى عانى من حكم العسكر على مدى ستين عاما. عندئذ سيكون واجبنا أن نساند الرئيس بكل قوتنا من أجل تحقيق الهدف الأصيل للثورة، وهو إنهاء الحكم العسكرى، ونقل السلطة بشكل حقيقى من العسكر إلى الشعب المصرى ليحكم نفسه بنفسه بطريقة ديمقراطية لأول مرة منذ ستين عاما..
الاختيار الآخر «وأرجو ألا يحدث»: أن تلجأ جماعة الإخوان إلى التأثير على الرئيس مرسى من أجل دفعه إلى المهادنة والليونة السياسية، عندئذ سيعقد الرئيس صفقة سرية مع المجلس العسكرى تمنح الإخوان قدراً من السلطة بقدر ما يسمح لهم المجلس العسكرى، الذى سيستمر عندئذ فى الحكم من وراء الستار، بينما تظل سلطة الرئيس شكلية. إذا فعل الرئيس ذلك سيكون قد خذل الشعب وتراجع عن وعوده، وقبل أن يعمل مجرد سكرتير للمشير طنطاوى، إن الموقف الذى سيتخذه الرئيس مرسى لن يؤثر فقط على مسار الثورة، وإنما على مستقبل العالم العربى كله. من حق الرئيس مرسى أن نمنحه فرصة لتحقيق وعوده، ومن واجبنا أيضا أن نصارحه بمخاوفنا، وأتمنى أن يكون عند حسن ظن الشعب، وينفذ ما تعهد به مهما تعرض للضغوط. هنا لا أجد أفضل من جملة بليغة يعرفها كل من اشترك فى الثورة المصرية. عندما كان جنود الأمن وبلطجية مبارك يهاجمون المتظاهرين، ويعتدون عليهم بشراسة. كان الواقفون فى الصفوف الأمامية يصيحون فى المتظاهرين: اثبت مكانك.. كان هذا النداء يتردد مرة تلو الأخرى فنزداد ثقة فى قوتنا وتصميما على الدفاع عن الثورة للنهاية حتى لو قتلونا. كان المعنى الذى يرسخه النداء فى أذهاننا أننا لو تراجعنا لن ننجو، بل إننا لو خفنا وركضنا سنمنح المعتدين الفرصة للقضاء علينا، وفى كل مرة كنا نعمل بهذا النداء «اثبت مكانك» كنا نتمكن من صد الهجوم، وكثيرا ما كان الحال ينقلب فنطارد نحن المعتدين. هذا الثبات هو الذى جعل الثورة بفضل الله تنتصر فى النهاية، وتتمكن من خلع مبارك من الحكم.. أتمنى أن يحقق الرئيس مرسى مطالب الثورة مهما تكن الضغوط التى يتعرض لها سواء من المجلس العسكرى أو من جماعة الإخوان.
أيها الرئيس مرسى.. اثبت مكانك.
الديمقراطية هى الحل