فتحت ايرلندا صفحة جديدة في تاريخها، بفضل تشكيل حكومة مشتركة في الثامن من الشهر الحالي، تلت الاتفاق التاريخي على تسوية سياسية بين زعيم الجيش الجمهوري الايرلندي “شين فين” جيري ادامز، وزعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي ايان بيزلي. وقد جاء ذلك على اثر اول لقاء جمع وجها لوجه بين الرجلين، اللذين فشلت كافة الجهود والوساطات طيلة فترة طويلة لجمعهما معا، بل كان العالم يعتقد انه من المستحيل عقد لقاء بينهما، بسبب التشدد الذي استمر عليه الزعيم البروتستانتي الذي لقب بالدكتور “لا”، نظرا لتشدده رغم قرار الجيش الايرلندي التخلي عن النضال المسلح منذ عامين، خلال المبادرة الشهيرة التي اطلقها آدامز واثنى عليها في حينه كل من رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ونظيره الايرلندي بيتر أهيرن.
يعود عمر القضية الايرلندية إلى سبعة قرون خلت، حين سيطر التاج البريطاني على الجزيرة بشقيها، الجنوبي ذي الاكثرية الكاثوليكية(94 في المائة)، والشمالي ذي الاكثرية البروتستانتية (62 في المائة)، وقد تذرعت بريطانيا منذ البداية بالدفاع عن البروتستانت. حيث حفل تاريخ هذه المنطقة بمواجهات وحركات عصيان وتمرد وثورات، كان هدفها طرد الوجود البريطاني، وقاد ابرز هذه النشاطات “الجيش الجمهوري”، منذ تشكيله سنة 1912 بقيادة الزعيم “مايكل كولينز” الذي دخل السجن، بعد أن ثار ضد بريطانيا، ليفاوضها على الصلح على اثر تحوله إلى سياسي محنك، يقبل ايرلندا مقسمة، جنوبية (26 مقاطعة) ذات حكم ذاتي، وشمالية (ست مقاطعات) تابعة لبريطانيا، وتولى “كولينز” البالغ من العمر 30 سنة رئاسة الحكومة الايرلندية المؤقتة، لكنه لم يعمر طويلا في هذا المنصب حيث اغتاله شاب ايرلندي متحمس بتحريض وايعاز من رفاق “كولينز” القدامى بتهمة الخيانة، وقبول تقسيم الجزيرة.
لقد تحولت واقعة اغتيال “كولينز” إلى فيلم سينمائي قام بإخراجه المخرج المشهور نيل جوردان، ولعب فيه دور كولينز الممثل ليام نيسون، ومثلت دور الخطيبة جوليا روبرتس. وقد اضفى على الحادث درامية لكون عملية الاغتيال حصلت قبل وقت قصير من حفل الزواج. ويصور الفيلم في مشهد مؤثر جوليا روبرتس، وهي تبحث عن ثوب الزفاف بينما اخترقت الرصاصة رأس “كولينز”، الذي تملأ اليوم تماثيله شوارع العاصمة دبلن، وينظر اليه بوصفه احد آباء الاستقلال عن التاج البريطاني، والذي لم يتأخر كثيرا، حيث تحرر القسم الجنوبي “ايرلندا الحرة” عن بريطانيا سنة ،1921 بينما بقي الجزء الشمالي بمقاطعاته الست تابعا لها، إلا أن اكبر الاحزاب السياسية الايرلندية الكاثوليكية (شين فين) لم يرضخ للامر الواقع، فعاد جناحه العسكري (الجيش الجمهوري) إلى الكفاح المسلح سنة 1955 بهدف توحيد الجزيرة، مما ادى إلى اشتعال الحرب الاهلية في الشمال (6،1 مليون) سنة 1968 بين المناصرين للوحدة مع الجنوب (كاثوليك)، والمعارضين لها والداعمين لمخطط الالتحاق ببريطانيا (البروتستانت).
استمرت الحرب حتى سنة ،1998 وقد شهدت تصعيدا مع اعادة بناء الجيش الايرلندي (أيرا) سنة ،1970 وعرف النزاع اطوارا شتى، ومن وجوهه المعبرة ان الكاثوليك كانوا يرفعون الاعلام الفلسطينية، بينما يرفع البروتستانت الاعلام “الاسرائيلية”، واستعار الطرفان الكثير من مفردات ووسائل وادوات الصراع الفلسطيني “الاسرائيلي”، ومن ذلك الاسوار والحواجز والمناطق المعزولة ونقاط التفتيش والاغتيالات والسيارات المفخخة، ولطالما شاع كثيرا الحديث عن التعاون بين مجموعات شرق اوسطية والجيش الايرلندي، وكذلك الحصول على دعم من بعض الدول العربية مثل ليبيا. وحتى وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية كيم هاولز حين كتب الاسبوع الماضي وجد نفسه يقارنه بالصراع بين الفلسطينيين و”الاسرائيليين”.
لقد اخذ النزاع مع الزمن طابعا دينيا عرقيا، وتحول إلى مزيج متفجر من العقيدة والدين والتاريخ والارض والارهاب والحقوق المدنية، يغذيه في صورة يومية الحقد والغضب والكراهية، وادى إلى ازهاق نحو 36 الف روح بشرية، وجرح قرابة 40 الفا، اكثر من نصفهم من المدنيين غير المحاربين.
اتفاق السلام
بعد اعلان ميجور العام 1993 حق شعوب ايرلندا الشمالية في تقرير مصيرها بدأت مباحثات سلام عامة، اعلن خلالها الجيش الايرلندي وقف العمليات العسكرية من جانب واحد، وشرعت المنظمات البروتستانتية بالمثل، وفي هذا الخضم ذهب الرئيس الايرلندي “روبنسون” سنة 1996 بأول زيارة يقوم بها رئيس ايرلندي إلى بريطانيا.
مر الوضع بفترة من الهدوء الحذر، إلى ان تم توقيع اتفاقية السلام (اتفاقية الجمعة الحزينة) في نيسان/ابريل سنة 1998 بين بريطانيا وجمهورية ايرلندا واحزاب ايرلندا الشمالية، بهدف وضع حد للنزاع في صورة نهائية، وتحقيق التعايش السلمي بين طوائف ايرلندا الشمالية، وبينها وبين جمهورية ايرلندا. لقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق بفضل عدة عوامل، منها داخلية تخص بريطانيا التي تطمح للتخفف من مشاغلها الداخلية للتفرغ لدور خارجي، لاسيما على المستوى الاوروبي، واخرى تتعلق بالاحزاب الايرلندية نفسها التي شعرت بالارهاق من استمرار العنف لعدة عقود، مما دفعها لإبداء قدر كبير من المرونة في المفاوضات. اما العوامل الخارجية فتتمحور على نحو خاص في الدور الذي لعبته الولايات المتحدة تحت ضغط قوى مؤثرة ذات اصول ايرلندية، وبدا هذا الدور يعطي مفعولا مع تعيين الرئيس السابق بيل كلينتون للسيناتور والقاضي السابق روبرت ميتشل مستشاره الاقتصادي لشمال ايرلندا، ومن بعد ذلك دعوته لزعيم الجناح السياسي للجيش السري “جيري آدامز” إلى البيت الابيض، وزيارته هو إلى ايرلندا، حين بدأت العملية تتقدم على اثر الاتفاق على نزع السلاح الثقيل، وخفض حجم القوات، وبدوره اسهم الاتحاد الاوروبي سياسيا واقتصاديا في الدفع نحو الحل، وقدم منحة مالية قيمة 400 مليون جنيه استرليني لمدة خمس سنوات، لإقامة مشاريع تساعد على تحقيق الاندماج، وخلق مناخ سياسي جديد يمهد لقيام سلام على المدى البعيد.
جرى النظر إلى الاتفاق على انه راعى مصالح جميع الاطراف، لكن تنفيذه يحتاج إلى ارادة جديدة، ووقت لكي تحصل عملية تطبيع ومحو لآثار الماضي المثقل بالدماء، فالاتحاديون الذين اكتسبوا اعترافا ببقاء ايرلندا الشمالية جزءا من بريطانيا، كان يتوجب عليهم اقناع انصارهم ان الحل في مصلحتهم على المدى البعيد. لكن وان كانت الاكثرية العددية داخل الهيئات في صفهم، فإنهم اضطروا للموافقة على نظام للتمثيل والتصويت للمجلس المنتخب (108) لا يتناسب مع تفوقهم العددي. اما القوميون الذين لم يحققوا نتائج تذكر بالاعتماد على الكفاح المسلح، فقد صار بوسعهم المباهاة بالحصول على الاعتراف بهم، ثم ان اكتسابهم الصفة الرسمية هو الطريق الوحيد لمواصلة معركتهم في صورة سلمية، وعلى المدى البعيد. وفي مايخص قادة جمهورية ايرلندا، فإنهم اقنعوا الحكومة والبرلمان بأن هذا الاتفاق هو الخطوة الاولى على طريق وحدة الجزيرة، وان موقعهم من خلال المجالس يسمح لهم بالتأثير على سياسات الشمال. وبالنسبة لبريطانيا فإن الانجاز الاساسي هو وضع حد للمشاكل والاضطرابات التي دامت عدة عقود، دون ان تتنازل عن تبعية ايرلندا الشمالية لها، لكن مع ذلك فتحت ثغرة قد تقود مستقبلا إلى تخليها عنها.
تتويج
إلا أن هذا الاتفاق لم يسر في الطريق السليم وتعثر عدة مرات، الامر الذي اضطر لندن سنة 2002 إلى استعادة الحكم المباشر على المقاطعة للمرة الرابعة منذ توقيع الاتفاق، وفي السنة التالية جاءت الانتخابات بالمتطرفين من الجانبين، مماخلق حالة من الجمود استمرت حتى نهاية سنة ،2004 عندما تحركت لندن في محاولة للخروج من حالة المراوحة في المكان، وتقدمت باقتراحات جديدة لتنفيذ اتفاق “الجمعة العظيمة”، وعقدت عدة جلسات من المفاوضات في شهر سبتمبر/ أيلول من نفس العام، انتهت بعد ثلاثة ايام دون التوصل إلى اتفاق ملموس بشأن احياء مسلسل الحكم الذاتي للمقاطعة. وتبين في نهاية المطاف ان المشكلة تكمن في ضرورة تجاوز رفض الحزب الوحدوي الديمقراطي المتشدد الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع حزب “شين فين”، قبل التزام صريح وواضح بنزع سلاح “الجيش الجمهوري” وانهاء دوره فعليا، في حين اعتبر “شين فين” مطالب الوحدويين محاولة لإذلال الجيش الجمهوري ومنعه من المشاركة في عملية اقتسام السلطة المقررة في اتفاق “الجمعة العظيمة”. ومع كل هذه العقبات اخذ الموقف يتحرك نحو الحل بفضل عوامل عديدة، منها تدخل الرئيس الأمريكي جورج بوش في نهاية سنة 2004 لدى الجناح البروتستانتي المتشدد، ورست الشروط والشروط المضادة في نهاية تلك السنة على ضرورة النزع الكامل لأسلحة “الجيش الجمهوري”، مقابل ضمانات من الحزب الوحدوي بتقاسم السلطة. من هنا جاء قرار “الجيش الجمهوري” بإلقاء السلاح نهائيا فاتحة أمل كبير، في وقت كانت تعيش فيه لندن على وقع التهديد بعمليات ارهابية، لم تكن من جانب الجيش الجمهوري الايرلندي.
لم تتقدم هذه العملية وبقي الموقف جامدا حتى وقت قريب، حين قررت الحكومتان البريطانية والايرلندية في آذار/مارس الماضي اغلاق البرلمان، في حال عدم تشكيل اللجنة الادارية للإقليم بحلول الاسبوع الاول من ابريل/ نيسان، الامر الذي دفع الطرفين العودة لطاولة المفاوضات، التي افضت إلى الحل الحالي في الثامن من الشهر الحالي، الذي انهى خمس سنوات من الشلل، واصبح بمقتضاه عدوا الامس يتقاسمان الحكومة، رئاسة الوزارة لبيزلي، فيما اسندت إلى رئيس “شين فين” مارتن ماكغينس مهمة نائب رئيس الوزراء، وقد حضر حفل التوقيع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير حفل التوقيع الذي سيسجل له التاريخ اسهامه الكبير لتحقيق هذا الانجاز الكبير، قبل ان ينسحب من الحياة السياسية مكللا بالاخفاق.
باريس