تمتاز ايران عن سائر البلدان العربية و الاسلامية كونها كانت السباقة في وضع اول دستور وضعي لها في المنطقة عبر ثورة عرفت بـ”الثورة المشروطة ” او “ثورة الدستور”، وذلك عام 1904، الا ان هذه الثورة فشلت نتيجة لظروف موضوعية وذاتية لا مجال لبحثها. ورغم مرور ما يقارب من قرن على وقوعها فإن اهدافها السامية لا تزال ماثلة امام اعين الجميع، وقد انعكس صدها على مجمل مناطق الاطراف لانها وضعت المراهم على جراحها من خلال الاهتمام بالمسائل القومية عبر الحد من سلطة المركز و توزيعها على الاطراف.
هذا الترابط التاريخي بين التحركات التي تنشد التحرر و ترفض الديكتاتورية في المركز وبين الاطراف ذات التواجد القومي نجد صداه منذ ثورة الدستور مرورا بحركة مصدّق وحتى الجمهورية الاسلامية، لان اي تحرك بهذا الاتجاه (الحرية والديمقراطية) سوف ينعكس عاجلا ام آجلا ايجابيا على الاوضاع السياسية لتلك القوميات. فلا غرابة ان نرى اليوم من بين ابناء الشعوب الايرانية ممثلة ببعض منظماتها المدنية والسياسية من ايد ووقف الى جانب حركة الاصلاحيين الراهنة ودعمها، وحتى هناك من استشهد دفعا عنها.
ويبقى السؤال الاساسي الذي يطرح نفسه، وقد شغل بال العديد من مراقبي الاحداث والمظاهرات التي اعقبت الانتخابات الرئاسية الايرانية، هو: اذا كان الطرفان يؤمنان بما يسمونه بنهج الامام الخميني وبالمبادئ العامة للثورة، اذاً ما هي طبيعة الصراعات الدائرة بينهما؟ و لماذا وصلت المواجهات الى هذا الحد؟ وهل هناك مخرج للخروج من هذه الازمة ام لا؟
شعارات الحركة الخضراء:
يعتقد اصحاب التيار الاصلاحي و الذي وحد صفوفه بعد ان خسر الانتخابات، “عبر التزوير” كما يعتقد، تحت اطار ما يعرف “بالحركة الخضراء” وهو يرى ان الثورة الايرانية في ظل سياسة المتشددين قد انحرفت عن اهدافها العامة التي قامت من اجلها، و لعل اهم هذه الانحرافات هو التلاعب على مواد دستور الجمهورية و تعطيل الغالبية العظمى منها. وهم يعتقدون ايضا ان الدستور الايراني نظم على اساس محورين:
المحور الاول: الحيلولة دون سيطرة سلطة النهب الرأسمالي على البلاد، اي بعارة اخرى، التأكيد على عملية استقلال الاقتصاد وتحريره من التعبية الاجنبية والنهب الداخلي.
المحور الثاني: الحيلولة دون عودة الاستبداد والديكتاتورية والدفاع عن الحريات العامة.
واذا تمعنا جيدا، نجد صدى هذين المحوريين في البرنامج الانتخابي الذي تقدم به كل من المرشحين الاصلاحيين وهما السيد كروبي و موسوي، حيث اكدا انهما في حال فوزهما بالانتخابات سوف يتعهدان بتنفيذ المواد المعطلة من الدستور ومن بينها “المواد 3- 12 – 13 – 15 – 19 -26 – 41-44 – 48 و…. و”سوف يعرفون الى الامة اي شخص او جماعة تحاول الحيلولة دون تنفيذها، لان من مهام رئيس الجمهورية تنفيذ الدستور و الاجابة على تسألات الشعب”.(من البيان الانتخابي لكروبي ).
واذ دققنا قليلا في المواد الواردة اعلاه نرى ان قسما منها يقع في المحور الاول والآخر يقع في المحور الثاني. على سبيل المثال المادة (44) من الدستور هي من مكونات المحور الاول، حيث تؤكد ان النظام الاقتصادي لجمهورية ايران الاسلامية يعتمد على ثلاث قطاعات وهي باختصار القطاع الحكومي والقطاع التعاوني والقطاع الخاص و”القانون في الجمهورية الاسلامية يحمي الملكية في هذه القطاعات الثلاث، ما دامت لا تتعارض مع المواد الاخرى الواردة في هذا الفصل، ولا تخرج عن اطار القوانين الاسلامية، وتؤدي الى نمو الاقتصاد الوطني وتوسعته ولم تكن عامل اضرار في المجتمع”.(دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية المادة المادة 44، ص 63).
وفي الحقيقة ان جوهر الصراع بين التيارين يتمحور حول هذه المادة. فقد نمت، ومنذ انتهاء الحرب العراقية الايرانية وحتى اليوم، وبفعل تغلغل الحرس الثوري في كل مفاصل جسم الدولة الايرانية، برجوازية كوّنت ثروتها بطرق غير شرعية مولية الاقتصاد العسكري واعطاءه افضلية على الاقتصاد المدني، مما يعني ترجيح الراسمالية التجارية العسكرية على الراسمالية التجارية العادية وتقوية الجناح العسكري على حساب الجناح المدني في الحكم. ولهذا الغرض شكل قادة الحرس وكبار الشخصيات المتحالفة معهم، سواء اكانت دينية اوغير دينية، اكبر الشركات والبنوك لم يعلن اصحابها قط من اين حصلوا على هذه الاموال والى اين تذهب ارباحها. وكل الحسابات و الكتابات هي بيد الحرس الثوري. و يسيطر الحرس في الوقت الحاضر على جميع النشطات المتعلقة بالتجارة الخارجية و بالنشاط النووي وصناعة وانتاج السيارات وكذلك المصانع و المعامل المرتبطة بالتصنيع العسكري والاتصالات. فالارقام المتعلة بواردات البلاد من الخارج تدور في فلك مبلغ الـ 60 مليار دولار في العام.( طريق الشعب، العدد 238، 16|10 | 2009 ).
السيطرة على تجارة البترول:
ان اكثر ما يشغل بال الحرس الثوري الايراني، والذي انخرط اصحابه في مجال مزاولة التجارة الخارجية، هو السيطرة على النفط وعلى كيفية استخراجه و بيعه، وكذلك استغلال ما يملكه من قوة للسيطرة على المؤاني وطرق الامداد التجاري الى داخل البلاد، وكذلك احكام قبضته على تصنيع و بيع السيارات المنتحة في ايران، و احكام القبضة على سوق الاسلحة في المنطقة مما يمكن ان تنتجه مصانع السلاح في ايران وتصديره الى دول المنطقة. و فعلا ان قسما من هذا السلاح يصدرالى حزب الله في لبنان و الى الحركات المناهضة لحكومة اليمن بالمجان.
اما فيما يتعلق بالمحور الثاني فيرى جناح الاصلاحيين ان الجمجهورية الاسلامية، وفي ظل حكم المتشددين، تبدلت الى جمهورية رعب وخوف وخيم عليها الاستبداد الذي شمل الفكر والعقيدة والتعبير وحرية الصحافة ومنع التحزب والعمل النقابي والانتهاك المستمر لحقوق الانسان ولمؤسسات المجتمع المدني، بالاضافة الى الاستبداد الديني والاضطهاد القومي وانتهاك حقوق المرأة والتجاوز على كرامة المواطنين في شتى المجالات الانسانية والاجتماعية. لهذا نرى التيار الاصلاحي شدد في حملته الانتخابية على مثل هذه الامور. فعلى سبيل المثال، اكد في بيانه على الاهتمام بتنفيذ المواد 3 و12 و13 و15و19. فالفقرة 6 من المادة 3 من الدستور تؤكد على “محو اي صورة من صور الاستبداد والانانية و احتكار السلطة ” و الفقرة 7 “تؤكد على ضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون”. والفقرة 8 “اسهام عامة الناس في تقرير مصيرهم السياسي والاجتماعي والثقافي”. والفقرة 9 تؤكد على “رفع التميز غير العادل واتاحة تكافؤ الفرص للجميع في كل المجالات المادية و المعنوية”. والفقرة7 تؤكد على “ضمان الحقوق للجميع نساءً ورجالا و ايجاد الضمانات القضائية العادلة لهم”. اما المادة 12 و13 فتتحدث عن الاديان و المذاهب في اشارة الى الاضطهاد الديني. اما المواد 15 و19 فتتحدث عن الاضطهاد القومي. وفي الحقيقة، ان كل المواد المشار اليها في هذه المقالة هي ماخوذة من البرنامج السياسي الانتخابي لكل من المرشحين الاصلاحيين.
الاشارة الى الاضطهاد القومي و الديني:
وهنا سوف اكتفي بالاشار الاضطهاد القومي والديني. فقد ورد في هذا البرنامج، ولاول مرة، تأكيد صريح من قبل المرشحين لرغبتهما في ايجاد طريق لحل المسالة القومية و الدينية المزمنة في ايران حلا سلميا. فاكدا على ان “ايران تتعلق بكل الايرانيين وهي بلد كثير الاقوام وفي الحقيقية ان الاقليات القومية والدينية تشكل اكثرية الامة الايرانية وان جعل ايران خاصة بهذا الجناح او هذه المجموعة وهذا القسم من المجتمع وعدم الاهتمام بحقوق بقية الاقوام والاديان والاجحاف بحقها يعد من اكبر انواع الظلم الذي يهدد الاتحاد و الوحدة الوطنية”. و يضيف كروبي في بيانه “انني في حال فوزي في الانتخابات سوف اعمل على احياء الحقوق القومية الدينية الخ.. “. كما اكد ايضا انه فيما اذا فزت في الانتخابات سوف اشارك في وزارتي المستقبلية “كل الاقوام واهل السنة والشيعة و سوف اسعى الى ازالة التمييز السياسي،الاقتصادي، الاجتماعي،الثقافي و الاداري وانني لا اتحمل التهميش و النظر الى الاقليات الدينية و القومية من الزاوية الامنية”.
احتكار السلطة:
وفي المقابل، نرى جناح احمدي نجاد قد احتكر كل مفاصل الدولة السياسية و الاقتصادية وذلك عبر عسكرة البلاد وفرض الاحكام العرفية ورفض اي نوع من التعاطي والمرونة فيما يتعلق بالحقوق القومية والدينية والنساء والكثير من الحقوق الاخرى. والاهم من ذلك سيطرته على المفاصل الاقتصادية للبلاد واستحواذه على معظم الثروة مما جعل الهوة بين الاغنياء والفقراء تزداد اتساعا يوما بعد يوم، ناهيك عن ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع معدلات البطالة. كما انه انتهج خطابا ديموغوجيا قوميا يتلاعب من خلاله على مشاعر الجماهير من خلال استعراضاته العسكرية واصراره على مشاريعة النووي واطلاق التهديدات المستمرة، مما فرض عزل دولية خانقة على البلاد.
من هنا، فان الحراك الدائر رحاه الان في ايران و الذي عبّرت عنه الاحتجاجات التي قادها الاصلاجيين هو في الحقيقة جزء من حراك عام من اجل الحرية و الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية بكل ابعادها الثقافية و السياسية والاجتماعية ربما سوف تتجاوز حدوده اطار النظام الراهن نحو نظام اكثر عدلا وديمقراطية، وهذا ما عملت له الشعوب الايرانية منذ بداية القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
wafa_ameli@hotmail.com
صحفي اهوازي