لا بد من إيجاد مكان أو حيز أو فضاء وطني يتسع للجميع.. مع ضرورة التنبه إلى أن المسار الوفاقي أو الاندماجي إلى تراجع، وقد لا يكون من السهل إيقاف سرعة تراجعه أو تخفيفها. ويكاد الخروج أو التنصل من الوطن ومن المواطنة أن يكون يومياً، متأثراً بتحول أو تحويل الانقسام السياسي إلى انقسام اجتماعي يومي وتفصيلي، يطال روضة الأطفال والجامعة والمسرح والأغنية والقداس والعيد وتلاوة القرآن والشعر والرواية وألوان الملابس.. كل شيء!
وبناء على ذلك ربما توقف، أو هو قد توقف فعلاً، البحث عن خلاص الوطن الذي لا يتم إلا بالشراكة. وأصبحت الأولوية للبحث عن الخلاص الشخصي، أو المراوغ، أو الخادع أو المستحيل! هل من ملامة على من ينصرف إلى البحث عن خلاصه الشخصي حتى لو لم يكن سهلاً أو ميسوراً؟ في حين أن الأديان التي هي مشروعات خلاص أخروي، يمر بالدنيا، تحول أو تحول معاييرها إلى معايير جماعة، ما يؤدي إلى تصنيم الجماعة المذهبية أو الدينية ويجعلنا لقمة سائغة في أفواه الزعامات السياسية الزبائنية… هذا ضد العدل والمحبة كخاصية وغائية في الأديان السماوية خصوصاً.. والأكثر إشكالا هو أن الطوائف تسعى إلى جعل الخلاص الدنيوي (الحياة الكريمة) شأناً جماعياً أيضاً.. ما يعني أن الشيعة في نظر الشيعي لا يخلصون ولا ينجون ولا ينجحون إلا إذا غلبوا السنة أو الدروز.. والسنة لا ينجون ولا ينجحون إلا إذا غلبوا الشيعة أو الدروز.. والأمر كذلك بالنسبة إلى الدرزي.. وبالنسبة إلى المسلم في مقابل المسيحي والمسيحي في مقابل المسلم.. وبالنسبة إلى الموارنة في مقابل الكاثوليك والأرثوذكس إلخ.. وكذلك العكس بالنسبة إلى مجموع المذاهب المسيحي.
لدينا دين أو أديان، والمفترض بها أنها روحية وإنسانية جامعة.. هي كذلك من دون شك… ولكن هناك معرفتنا البشرية بالدين، وهذه المعرفة لطالما كانت معرفة ضد الآخر المختلف أياً كان، وهي معرفة تبعث على العنف ضد الآخر وضد الذات في النهاية.. وتسوّغه.
لقد قرأ الشيخ سامي أبو المنى على أسماعنا آيات قرآنية عذبة ورحبة ومفتوحة الأبواب.. ولكن يمكن أن يظهر بيننا متطرف ديني قائلاً إن هناك آيات أخرى مختلفة تضيق مفهوم الأخوة أو الشراكة أو الإيمان وتدفع إلى نفي الآخر وإلغائه… وهذا أمر واقع الآن من الصومال إلى السودان والعراق والباكستان وأفغانستان.. ولا أدري ما إذا كانت مصر بعيدة عن المخاطر، خاصة بعد حادثة نجع حمادي في يوم الميلاد، وقبلها أبو قرقاس وغيرها..
لا بد لنا أن نتفق على أنه لا بد من ورشة معرفية لقراءة النص الديني أو الدين في أهدافه ومقاصده قراءة جديدة، ليس بهدف تحديد مدى مشاركة الأديان في بناء الدولة وعمادتها وإدارتها، بل بهدف أن يكف الفكر الديني، على ما يفهمه السياسيون الدينيون، يده عن الدولة.. ويعود إلى حقل عمله الأول، إلى المجتمع والروح ونظام القيم.
ليس في هذا المقترح دعوة إلى العلمانية القاسية، وإذا لم يكن هناك من تجربة علمانية مطلقة أو ملزمة، فإن بإمكاننا أن تؤسس علمانيتنا أو مدينتنا، بما أن مصطلح العلمانية في بلادنا العربية، قد تم تحميله بعدد من السلبيات والالتباسات. وبما أن لنا خصوصيات دينية ووطنية وروحية وعلائقية وثقافية مجتمعية جامعة، مما يسمح لنا بابتداع أطروحة علمانية، أي مدنية، خاصة تحمل ملامحنا وأحلامنا وتحفظ ذاكرتنا.
إن القيم والأفكار المشتركة تجمع في الحالات الطبيعية.. نحن الآن في حالة استثنائية، غير طبيعية، وفي هذه الحال تكف القيم والأفكار المشتركة عن الجمع.. تتعطل أو جماعة قيمها الخاصة المتعارضة مع غيرها… يصبح لدينا دين مواز للدين، دين أرضي.. حسي ومادي وإن ادعى الروحانية. إن ما نراه ونسمعه في أوساط الطوائف لا يطمئن.. وحكومة الوحدة الوطنية خير وعافية، ولكن الوحدة أو الوفاق من الهشاشة بحيث نخشى كسره أو انكساره في أي لحظة.. وليس صحيحا أو دقيقا أننا ذاهبون في اتجاه الحوار وتجديد العيش المشترك وترسيخه على أساس قيمنا المشتركة، لأن هذه القيم تخضع لعملية حذف من حياتنا.. كما تخضع الأفكار المشتركة بيننا، عن ذواتنا وعن الآخر أو الآخرين، إلى شيء يشبه التبخر أو التسرب.
تقديري أن اجتماعنا على أساس المصالح المشتركة قد يكون هو بداية الحل وهو المقدمة لإعادة تحرير مساحات القيم والأفكار المشتركة بيننا، وترميم نظام العلائق الذي يجمعنا.
إن الشركة التنموية أو الإنتاجية المشتركة التي تضم مهندسين وعمالا ورجال أعمال مسيحيين ومسلمين، سنة وشيعة وموارنة وكاثوليك ودروزاً وأرثوذكس إلخ. هي الأمثل وهي الأجدى وهي رافعة الاندماج والوفاق والحوار.
كلما جرى الحديث عن أمر حديث يتصل بالاجتماع أو الدولة، وكان الإطار دينيا أو كان الدين ضيفاً مكرماً فيه، امتد هذا الحديث إلى ضرورة تأصيل أي مشروع أو فكرة أو مقترح، أي التماس الدليل الشرعي على شرعيته، أنا أقول: تعالوا نتفق على شيء، على دولة ديموقراطية مثلا، دولة أفراد تحت سقف القانون والدستور، دولة تعددية تبادلية وتداولية، لديها أولويات تنموية… ثم نذهب معا إلى القرآن والإنجيل.. حيث نجد نصاً مرناً.. فإن لم نجده أو وجدناه ضيقاً كان بإمكاننا أن نحاوره ونؤكد له أن قداسته تأتي من أننا روحه ومعناه.. وليس مساً بقداسته أن نقرأه قراءة نسبية، غير مطلقة، وتاريخية أيضاً، على ضوء معارفنا وحاجاتنا وضرورات حياتنا… أنا على يقين بأننا يمكن لنا أن نكتشف المساحة المرنة حتى في النصوص الضيقة.. والذي لا يكتشف المرونة ويكتشف الضيق لا يحق له أن ينسبه إلى الدين أو النص. بل عليه أن ينسبه لنفسه.. هو غير مرن. يقرأ الدين قراءة مطلقة ولذا فهي خاطئة.. لأنه حتى المطلقات الدينية يمكن التعامل معها تعاملاً نسبياً من دون إلغاء لإطلاقيتها.
تعالوا إذاً نتفق على دولة ديموقراطية أي مدنية، أي علمانية بمعنى آخر، وعلى أساس المواطنة.. من دون أن نفكر بإلغاء الطوائف.. لأننا لا بد أن نكون ديموقراطيين إلى أبعد الحدود، ونقر بأن الطوائف هي خيارات بشرية ومتحدات اجتماعية اختيارية.. ولكن غياب الدولة جعل منها حالات غير صحية. وعندما تتقاعس الدولة عن جمع مكوناتها المتعددة، تقوم هذه المكونات بالبحث عن استقرارها في هوياتها الفرعية القائلة، وعندما يغيب البعد العام في الهوية المركبة ينهض البعد الخاص العازل.
لقد نشّط غياب الدولة أو فشلها الوعي الطائفي أو المذهبي المضاد والبديل للدولة ووعي الدولة… إذاً لا بد من حفظ المتحدات من موقع رفض التباسها أو تلبيسها بالدولة، ووضعها في إطار الدولة لا خارجها، وإلا فإن إلغاءها بتطرف علماني وببساطة غير علمية يجعلها تتحول إلى دين بديل للدين تمهيداً لصيرورتها بديلاً للدولة ويرسخها.. يرسخ مخاطرها وسلبياتها أكثر من إيجابياتها. على أنه ما من بنية تاريخية ترسخت لأسباب موجبة وسالبة إلا وأصبحت إشكالية، يؤدي التسرع إلى الخلاص منها، وبعقل أيديولوجي شمولي تحت ستار العلمانية، إلى استحكامها وتحكمها وديمومتها. إذاً تندرج في التعامل مع إشكالية الطوائف والطائفية.. نبدأ بوعي معيار المواطنة ونشره وتغليبه وتحكيمه على القنوات الطائفية التي توصل الناس إلى الدولة كممر إجباري لهم، فتلغي الناس والدولة معاً
.
لقد التفت اتفاق الطائف إلى هذه المسائل، وجمع لأول مرة جمعاً منهجياً بين الميثاقية والدستورية في نص واحد، وإن صيغة كصيغة مجلس الشيوخ تهيئ مكاناً للطوائف، تحقق ذاتها فيه كمتحدات اختيارية بما لا يعيق عمل الدولة وإدارتها، ويمكنها أن تكون أحد المسارات القابلة للتطور لاحقاً، تتحول فيها الطوائف من مانع لبناء الدولة إلى مشجع على بنائها لأنها الضمانة الأولى لحفظ الطوائف ذاتها.. كما يمكن الدولة مع طوائف متطورة أو موضوعة في سياق التطور على أساس ديموقراطي، أن تجعل هذه الطوائف رحماً أو مصدراً لمجتمع مدني متطابق وغير منفصل إلا بقدر ما يكون الانفصال أو القطيعة النسبية شرطاً لصيانة الوطن والمواطن.
الدين وتضخيم المعنى/حزب الدولة
المعنى ضرورة حياة، والدين أهم مصادر إنتاج المعنى، مشكلتنا أن الدين يتعرض باستمرار إلى عملية لتضخيم معناه بحيث يتخطى المعنى المضخم للدين والمنتج كمعنى مواز للدين، يتخطى المعنى الديني إلى اللادين، لأنه يضيّق المعنى الإنساني في الدين، العدل والمحبة، أو يحوله إلى معنى حصري لجماعة ما… منحصر فيها وهي منحصرة فيها… فالجميع من غير الجماعة خارج المعنى… وأي فرد أو فئة في الجماعة (المذهبية) منشق أو مرتد أو محروم من المعنى إن انفتح على الآخر أو فتح فضاء الجماعة للآخر.
من هنا أدعو إلى العمل على إعادة اكتشاف المعنى الإنساني في الدين، في الإسلام والمسيحية، لقد بدا هاجس الأب فادي ضو مسيحياً، بالمعنى الإيجابي، ولعله من أسباب ذلك أنه لا يعاني من مشروع سياسي مسيحي (ديني) لا هنا وعلى المستوى الكوني.. في لبنان مسيحيون.. ولكن ليس هناك أطروحة مسيحية للبنان، هناك سياسية مسيحية للمسيحيين في لبنان، لا بد من نقدها من منظور وطني، ولكنها ليست مشروع دولة مسيحية للبنان، أو بغض النظر عما إذا كنا ضد السياسة المسيحية (الطائفية) أو معها.
يحق للأب ضو أن يبحث عن المسيحية في المشهد اللبناني مفترضاً أو مقتنعاً نقصاً في حضورها، وأن يقدم نقداً رزيناً وهادئاً للعلمنة، بينما أنا هاجسي مختلف أنا أمام هجومات لمشروعات سياسية إسلامية مختلفة اللحن والإيقاع، لا تعلن العنف الداخلي أو المباشر، ولكنها تستبطنه وتظهره في محطات معينة، وتضع الرأي الآخر جماعاتها المذهبية، في مدى هذا العنف أحيانا بل دائماً… وفي الخارج أرى مشروعات إسلامية مندفعة بسرعة الأعاصير (الصومال، طالبان، القاعدة، السودان، أفغانستان، إيران)… وأخاف وأتشبث بالدولة المدنية، العلمانية، الديموقراطية… وهو… أبونا فادي يدعو إلى التخفيف من العلمنة… أنا موافق وأرجو أن نتفق على مساحة التخفيف.. أي على توحيد همومنا ومساعينا.
علينا أن نتفق على تشكيل ورشة لننتج معرفة مشتركة بالدين، لأننا إن تفرقت بنا طرق تحصيل المعرفة وذهبت إلى مسالك مذهبية انعزالية، وأنتج كل منا معرفته بذاته وبدينه بعيداً عن الآخر، فإن هذه المعرفة سوف تكون حتماً صد الآخر، وضد الذات في المحصلة.
أنا لا أريد أن أنصّب المسيحي رقيباً على الفقه أو الشريعة الإسلامية وطرق استنباط الأحكام الشرعية، خاصة تلك التي تتماس مع وجود الآخر وحياته، ولكن من الأفضل أن يكون المسيحي حاضراً في وعيي ووجداني أثناء البحث الفقهي… أي أن أفكر بالآخر فقهياً.
إن سرعة سير التجزئة تتعاظم باستمرار فلا بد من مواجهتها. لعلنا بذلك نتمكن من لملمة أرواح المواطنين (الناس) وأجسادهم وأفكارهم التي تتشظى أمام أعيننا.
لعلنا نلم الأجيال، أجيال الغد، التي يغتالون عقولها، ويرمونها في الماضي المقطوع عمداً عن المستقبل، فإذا ما تمرد بعضها كان انفعاليا إلى حد ذهابه إلى المستقبل من دون ذاكرة، من دون محمول، ليتحول المستقبل إلى فضاء للضياع وعدم الجدوى. ولنتذكر دائماً أن الهوس الديني كان ينتج الزندقة والانفلات والعدمية، كما كان التحلل ينتج الهوس الديني. فلا بد من الاحتياط من الأمرين معاً. تعالوا إذاً نعترف أمام أجيالنا بأخطائنا ونقدم لها تجربتنا البائسة لكي نجنبها الوقوع في أخطائنا.. تعالوا نشكل جزيرة، بل جزراً أو واحات يقوم التواصل في ما بينها مقام الجامع والحافظ للنتائج المرجوة… تعالوا نبرز تيار الاعتدال والوسطية والنسبية في المجال العام، وفي المجالين المسيحي والإسلامي، تعالوا لنلتقي… نحن لا نلتقي! تعالوا لنتحول إلى قوة خيرة فاعلة جامعة واقية… تعالوا لنكف عن التلويح بإلغاء الطوائف ونتجه إلى نقدها من داخلها من دون أن يتنصل أي منا من طائفته… بل الاستمرار في تقديس طائفي وأبلسة الطائفة الأخرى.
تعالوا نؤلف حزب الدولة لكي نحفظ الدين بالدولة، ونسهم في حفظ الدين بالدولة، والدولة بالدين، من دون مطابقة، ومن دون أن نتوهم أن من صلاحية الدولة أن تنتج الدين أو صلاحية الدين أن ينتج الدولة، وفي ذلك إضرار بالغ بالدين والدولة معاً.
تعالوا نرتفع فوق الجميع من دون استعلاء ومن دون قطيعة، من دون عداء حتى للخاطئين… حتى للمرضى المجرمين… تعالوا نسامح المجرمين حتى لا نفسح في المجال لمزيد من المجرمين لنقم بعمل ما معاً.. قبل أن نسقط فرادى.. ان القطيع الطائفي يتجمع ويتقدم على حساب الدين وأهل الطائفة والوطن والمواطن… وبسرعة.. وهو يقول لكل منا الحق حتى لا تُسحق… أنا أفضل أن أُسحق ولا ألحق.. ولكن كما هو عدد الذين يفضلون الانسحاق على اللحاق بالقطيع الطائفي أو المذهبي؟ أنا أخاف من نفسي على نفسي بقدر ما أخاف من القطيع على نفسي… وقد لا أستطيع الصمود.. خاصة عندما يكون التهديد يتعداني إلى كل ما ومن يخصني.. لا بد من إنقاذ.. من علاج ووقاية منطلقين من الإيمان بالله والوطن.. صابرين غير متعجلين. محكومين بالرجاء دائماً.
[ مداخلة في ندوة حول الحريات الدينية في لبنان ـ كانون الثاني/2010 ـ جامعة القديس يوسف
نقلا عن صحيفة السفير اللبنانية