المعروف أن أندونيسيا على موعد مع انتخابات رئاسية جديدة العام المقبل، هي السادسة منذ سقوط النظام الدكتاتوري للرئيس الأسبق سوهارتو في عام 1998. ومع اقتراب موعدها تحتدم المنافسة بين المرشحين والمتطلعين للحلول مكان الرئيس الحالي جوكو ويدودو الذي لن يحق له الترشح لفترة ثالثة عملا بأحكام الدستور. ومع احتدام التنافس يزداد اهتمام المراقبين بالحدث كونه لا يتعلق فقط بتغيير القيادة وإنما أيضا يتعلق بمصير شخصيات أحاطت بالقيادة واستفادت منها طيلة السنوات الماضية.
أحد أهم الطامحين للفوز برئاسة أندونيسيا هو حاكم جاكرتا المتقاعد حديثا “أنس باسويدان” (53 عاما)، المنحدر من أصول عربية حضرمية، والذي يثير ترشحه واحتمال فوزه مخاوف كثيرة لدى الطبقة السياسية التقليدية ورجال الأعمال النافذين، خصوصا وأنه يقود تحالفا من ثلاثة أحزاب قوية أحدها “حزب العدالة والازدهار” الإسلامي المتشدد، بل أن هذه الأحزاب منحته حرية اختيار من يريد ليكون مرشحا لمنصب نائب رئيس الجمهورية على بطاقته الانتخابية. أما مصدر الخوف منه فهو ما يتردد عن توجهاته الإسلامية المتشددة التي يكافح من أجل تفنيدها كي يظهر في صورة المترشح المعتدل والمقبول من جميع أطياف الشعب الإندونيسي المتنوع عرقيا وثقافيا ودينيا، علما بأن صفة التشدد إلتصقت باسمه منذ أن قام في عام 2017 بالترشح لمنصب حاكم جاكرتا، حيث خاض وقتها معركة حامية (شبهها بمعركة بدر) لإسقاط حاكم العاصمة المسيحي من ذوي الأصول الصينية “باسوكي بورناما“، وجيش ضده كافة الجماعات والمنظمات الإسلامية بدعوى أنه أهان القرآن الكريم في إشارة إلى تصريح سابق لبورناما اتهم فيه منافسيه باستخدام آيات من القرآن لخداع الناخبين.
من المتوقع أن يختار باسويدان “أغوس هاريمورتي” البالغ من العمر 44 عاما (نجل الرئيس الإندونيسي السابق سوسيلو بامبانغ يودو يونو) لمرافقته في الانتخابات كمرشح لمنصب نائب الرئيس، الأمر الذي يمثل ضغوطا إضافية على زعيمة الحزب الحاكم (الحزب الديمقراطي من أجل النضال PDI – P)، السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري من أجل تحديد مرشحها في السباق الرئاسي القادم، من بين الشخصيتين المحتملتين وهما إبنتها “بوان مهاراني” التي تتولى حاليا منصب رئيس البرلمان، وحاكم جاوه الوسطى “غانجار بورنوو” الذي يتصدر معظم استطلاعات الرأي، والذي يستمد شعبيته من الشعبية الطاغية لصديقه الرئيس الحالي جوكو ويدودو، على الرغم من كل ما التصق بعهد الأخير طيلة السنوات الماضية من فساد إداري وانحياز لطبقة رجال الأعمال وايغال في البيروقراطية.
وتتمثل مشكلة بورنوو، في كونه يحيط نفسه بدائرة من الغموض، رافضا الافصاح عن خططه وسياساته وتوجهاته. وقد تكون هذه عملية مقصودة لإحباط مساعي منافسيه في المس به إعلاميا، لكنها في الوقت نفسه مجازفة. فحتى الآن لم يصدر منه سوى موقف واحد أطلقه من خلال بودكاست، وحذر فيه الشعب ممن سماهم بالجهاديين “الذين يستغلون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجيتهم ومفاهيمهم الخطيرة“، وأهاب فيه بالأندونيسيين المتعلمين والعقلاء أن ينزلوا إلى الشارع للحفاظ على السلامة العقلية للبلاد، قائلا: “وسائل التواصل الاجتماعي يسيطر عليها أشخاص غير عقلاء. لكن هناك الكثير من العقلاء فيها أيضا، وعلى هؤلاء ألا يسكتوا وإلا فإن المعلومات المضللة هي التي ستسيطر“.
يقول المراقبون أن بورنوو كان يشير إلى أنس باسويدان وأنصاره في رسالته التحذيرية، وذلك من واقع معرفته به وبأسلوبه الحربائي الهاديء لتغيير مفاهيم المجتمع الاندونيسي الوسطية طيلة السنوات الخمس التي تزعم فيها العاصمة. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن باسويدان، في أعقاب نيل مراده لجهة الإطاحة بالمسيحي بورناما وفرض ما يشبه العرف بعدم جواز تولي غير المسلم منصب حاكم العاصمة، عمد إلى تغيير جلده فراح يتودد إلى المسيحيين عبر منحهم تراخيص لبناء المزيد من الكنائس. وفي محاولة أخرى منه للظهور بمظهر المسؤول العصري المتسامح، قام بزيارات إلى استراليا ودول اوروبية.
ولعل ما يزيد ارتباك الحزب الحاكم ومخاوفه من فقدان السلطة هو أن أحد داعميه وحلفائه الأقوياء الممثلين في الحكومة الحالية بثلاثة وزراء، وهو الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة قطب الإعلام “سوريا بالوه” اختار أن ينفصل عن الحزب الحاكم وينضم إلى تحالف الأحزاب الداعمة لباسويدان، الأمر الذي أغضب الرئيس ويدوو، لكن دون أن يقصي الوزراء الثلاثة من حكومته حتى الآن. ومن جهة أخرى، هناك تهديد جدي للحزب الحاكم يمثله “برابوو سوبيانتو” زعيم حزب “حركة إندونيسيا العظيمة” (جيريندرا)، وهو جنرال وصهر سابق لديكتاتور البلاد الراحل سوهارتو وكان قد ترشح مرتين في انتخابات 2014 وانتخابات 2019 الرئاسية ضد الرئيس ويدودو دون أن ينجح، وبعد خسارته في الانتخابات الرئاسية الماضية اختاره ويدودو كوزير للدفاع في حكومته. ومصدر هذا التهديد يكمن في حقيقة أن الرجل يعمل منذ بداية العام الجاري على تلميع نفسه كرئيس قادم للبلاد من خلال توظيف ثروته واتصالاته المتشعبة وخبرته الانتخابية السابقة في كسب أصوات البسطاء، ناهيك عن عقده تحالفا مع حزب اليقظة الوطنية الذي يعتبر امتدادا لحزب نهضة العلماء وغطاء سياسيا للعديد من الجمعيات الإسلامية التقليدية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي