قبل مدّة طلب منّي الكاتب الفلسطيني الدكتور أفنان القاسم أن أجيب على بعض الأسئلة حول الحال العربية والفلسطينيّة. ومع أنّ التّساؤلات بحاجة إلى كتابات طويلة، غير أنّي ارتأيت الإجابة ولو باقتضاب لما في ذلك من إمكانية لفتح الأبواب لنقاش هادئ يهدف إلى المصارحة بغرض المصالحة مع الذّات، مع ذواتنا أوّلاً وقبل كلّ شيء آخر، لأنّ المصارحة هي أوّل الطّريق المفضية إلى الخير المنشود لنا جميعًا. وها أنا أقدّم هذه المادّة للقرّاء في هذا الموقع.
*
– ما هي قراءتك للواقع العربي الحالي بشكل عام؟
السؤال ذاته مليء بالتّناقضات، إذ لا تمكن “قراءة” الواقع في مجتمعات تتحكّم فيها الأميّة. والأميّة الّتي أعنيها ليست تلك الأميّة الّتي يمكن محوها في المدرسة، على أهميّة هذا الجانب. إنّما أعني بذلك تلك الأميّة المتفشّية بشأن كلّ ما يتعلّق بلغة العصر على جميع جوانبها الحضاريّة: السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة. أضف إلى ذلك، إنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الحديث عن واقع عربيّ واحد يمكن تحديد معالمه. فما هو شاغل بال المغربيّ ليس هو ما يشغل بال العراقيّ، ويمكن تطبيق هذه المقولة على كلّ قطر من هذه الأقطار المسمّاة عربيّة. وما دام العربيّ بحاجة إلى تأشيرات للتّنقُّل بين هذه الأقطار فلا يمكن الحديث عن واقع عربيّ واحد. بل أصلاً، وعلى سبيل المثال فقط، هل يمكننا الحديث عن هذا القطر المسمّى “العراق” وكأنّه شيء واضح المعالم؟ أليست حدود هذا الكيان هي حدود فرضها الاستعمار الغربيّ، مثلما فرض سائر الحدود الفاصلة بين أقطار هذه المنطقة؟ فالكردي “العراقي” على سبيل المثال لا الحصر، ليس عربيًّا ولا يريد أن يكون عربيًّا، وكذلك الأمازيغ والبربر والأقباط وغيرهم. فجميع هؤلاء شعوب كان العرب قد استعمروهم في فترة سابقة هي فترة الاستعمار الإسلامي الأوّل الّذي يحلو للإسلامويّين والعروبيّين تسميته بـ”فتوحات”.
ما من شكّ في أنّ هذا الكلام سيثير حفيظة الكثيرين من هؤلاء. وإذا أثار كلامي هذا غضب هؤلاء، فما عليهم إلاّ أن ينظروا إلى أنفسهم بالمرآة ويتفكّروا قليلاً لماذا يغضبهم هذا الكلام. هل يغضبهم لأنّهم في قرارة أنفسهم يحنّون إلى عصر كانوا فيه مستعمرين لغيرهم؟ فإذا كانوا كذلك، فأكاد أجزم إنّه لا يمكن أن يكونوا أحرارًا أبدًا، لأنّ من يسلب حريّة غيره لا يمكن أن يكون هو نفسه حرًّا أبدًا، بل سيظلّ عبدًا لغرائزه البدائيّة.
*
– والقضية الفلسطينية؟
وهذا السؤال أيضًا يحمل في طيّاته الإجابة على نفسه. نعم، إنّها “قضيّة” كما دأب الإعلام العربي على شحن ذهنيّة النّاس بها. فعندما يدور الحديث عن قضيّة يتحوّل الموضوع إلى تمرين ذهنيّ، أو ربّما مسألة مجرّدة تحتمل الجدل فيها بعيدًا عن الأبعاد الإنسانيّة. فإذا كانت “فلسطين” قضيّة فهناك الكثير من القضايا الأخرى، ومثلما يتمّ تقديم البحث أو تعليق بعض القضايا لأسباب متعلّقة بمصالح هذا النّظام أو ذاك حفاظًا على رؤوسه، كذا هي “القضيّة الفلسطينيّة”، قد تلحّ أحيانًا وقد تتأخّر لأنّ قضايا المنطقة كثيرة وعويصة وهنالك ما هو ألحّ للتّعامل معه. وفي أثناء ذلك يتمّ تناسي البشر والشّجر والحجر. هذا ناهيك عن أنّ الفلسطينيّين ذاتهم لا يتصرّفون كشعب منضبط ذي قيادة حكيمة تعرف ماذا تريد وإلى أين تريد الوصول، وفوق كلّ ذلك لا تنتهج القيادات مصارحة النّاس قولاً وفعلاً. وما لم يتمّ عمل ذلك، فسيبقى الفلسطينيّون لعبةً يتلهّى بها الآخرون، كلّ حسب أجندته.
لهذا يجب إلغاء هذا المصطلح “القضيّة الفلسطينيّة” من الاستعمال العربي، وبدل ذلك يجب الحديث عن النّاس، عن البشر وما يفيد البشر بوضع خطط عينيّة وعمليّة تدفع باتّجاه التّحرُّر والتّقدُّم. وبهذا السّياق لا يمكن أن يكون الإسلام “هو الحلّ” لفلسطين المتعدّدة الطّوائف أصلاً. ناهيك عن أنّ أجندة الإسلام هي نقيض لأجندة فلسطين، ولأيّ أجندة وطنيّة محلّيّة. الإسلام سيبقي فلسطين قابعة في خانة الـ”قضيّة”، وبذلك ستنتفي معه الهويّة الفلسطينيّة الخاصّة. من هنا، على الفلسطينيّين أن يقرّروا لأنفسهم أوّلاً إمّا أن يكونوا شعبًا، بكلّ ما تحويه هذه الكلمة من معنى وما يترتّب من ذلك، وإمّا أن يكونوا “قضيّة” قد تلحّ على الآخرين وقد لا تلحّ.
*
– اعتبر القرن الماضي (العشرون)في حينه، قرن انتصار الشعوب والثورات الكبرى والتحرّر من الاستعمار المباشر. إلى أيّ مدى، في نظرك، كان ذلك صحيحاً؟ وماذا تعتقد أن يكون عليه القرن الحالي (الواحد والعشرون)، في ظلّ هيمنة القطب الإمبريالي الأوحد، الأمريكيّ بالتحديد؟
ماذا يعني التّحرّر من الاستعمار، وهل حقًّا تحرّرت الشّعوب؟ ثمّ، هل يمكن أصلاً الحديث عن تحرّر في هذا العالم؟ ليس من السّهل الإجابة على سؤال من هذا النّوع لأنّ له أبعادًا على جميع مناحي الحياة المعاصرة. فمثلما إنّ الإنسان حيوان اجتماعيّ لا يمكن أن يعيش بمعزل عن أبناء جنسه من البشر، كذا هي الشّعوب والدّول، وعلى وجه الخصوص في هذا العالم المعاصر الّذي أصبح قرية كونيّة، لا يمكن أن تعيش بمعزل عن سائر العالم. وما دام الإنسان بحاجة إلى أبناء جنسه فلا يمكن أن يكون متحرّرًا من هذا الرّابط، وكذلك الدّول والشّعوب لا يمكن أن تكون متحرّرة، وعلى وجه الخصوص تلك الشّعوب والدّول الّتي يُطلق عليها اسم العالم الثّالث أو تسميات من هذا النّوع. وفيما يخصّ العرب تحديدًا، كيف يمكن أن يكون شعب عربيّ أيًّا كان متحرّرًا ما دام متعلّقًا بكلّ شاردة وواردة بما يبدعه وينتجه غيره، بدءًا من الإبرة الّتي يقطب بها ثوبه، عباءته، وانتهاءًا بالعباءة ذاتها، أو عقاله الّذي يلتفّ على حطّته، كوفيّته، مكلّلاً به رأسه كما لو كان كاتمَ عقلٍ متفاخرًا به رمزًا له. هذا ناهيك عن السيّارة والطيّارة والتّلفون والتّلفزيون والحاسوب إلى آخر ما يمكن أن يخطر على بال. إذن، ما نفع كلّ هذا “التّحرّر” الّذي يتلهّى به دعاة التّحرّر؟ وما نفع هذا “التّحرّر”، في الوقت الّذي يسارعون فيه إلى نقل أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ ومن لفّ لفّهم للتّطبُّب في مستشفيات الغرب “الكافر”، برأيهم، في كلّ شاردة وواردة طبيّة؟
والحقيقة المرّة فيما يخصّ الحال العربيّة هي أنّ الاستعمار لم ينته، إنّما تبدّل ملبوسه. الاستعمار لا يزال جاثمًا على صدور العرب على هيئة استعمار قبليّ. هكذا استعمر صدّام العراق بواسطة قبيلته التّكريتيّة، وهكذا استعمر الأسد سورية بواسطة قبيلته، وهكذا هي الحال في كلّ مكان. لا يمكن الوصول إلى تحرّر حقيقيّ إلاّ عبر التّحرّر من هذه الذهنيّة القبليّة. وما لم يحدث ذلك، فإنّ الاستعمار الغربيّ على الأقلّ كان أرحم بكثير من استعمار ذوي القربى الأشدّ مضاضة.
*
– ما الخطأ وما الصواب في صعود (الإمبراطوريّة) الأمريكية الجديدة نحو نهايتها السريعة؟
هذا السؤال خاطئ من أساسه، لأنّه لا يمكن الحديث عن خطأ وصواب في هذا السّياق. فالقضيّة المتعلّقة بهذا السؤال ليست تُقاس بهذه المعايير. السؤال الأهمّ في سياق كهذا هو، كيف نشأت هذه الـ”أميركا”، ولماذا وصلت إلى ما وصلت إليه من تطوّر على جميع الأصعدة؟ والإجابة على ذلك بحاجة إلى معاهد دراسات للشؤون الأميركيّة، وهي معاهد معدومة على كلّ حال في العالم العربي على العموم.
في رأيي المتواضع، هنالك عدّة أسباب لصعود “الإمبراطوريّة” الأميركيّة:
أوّلاً: انعدام التّاريخ – التّاريخ الأميركي هو حديث العهد، ولذلك فهو لا يشكّل عبئًا على كاهل أهله، كما هي الحال لدى العرب والمسلمين مثلاً. فعندما يتغنّى العرب والمسلمون صباح مساء بأمجاد الماضي واصفين ذلك الماضي بأنّه أبهى عصورهم وذروة طموحاتهم، فإنّ عيونهم تبقى معلّقة بالماضي، ومن هنا فإنّ كلّ عالمهم يبقى موجّهًا إلى الخلف، إلى الوراء، دون أن يتفكّروا مثلاً في أن يصنعوا هم بأنفسهم ما قد يصبح “ماضيًا باهرًا” تتغنّى به الأجيال العربيّة بعد قرون. بينما الأميركيّون اليوم يصنعون هذا الماضي الأميركي الآن للأجيال الأميركية القادمة. هذا هو الفرق بين الحالتين.
ثانيًا: الفرد في المقدّمة – على الرّغم من أنّ هذه الفردانية مبالغ فيها في الحالة الأميركيّة إلاّ أنّها تنهل من مبدأ كون الإنسان حرًّا إلى أبعد الحدود في فكره وعلمه وحياته الخاصّة. غير أنّ هذه الحريّة ليست فوضى إنّما هي مقيّدة بدستور جامع شامل يسري على الجميع، على الفرد مثلما على المجتمع والمؤسّسات والسّلطة. ولا يغيّرون الدّستور من أجل توريث الابن، كما فعل ببغاوات البعث وأعوانهم في دمشق مثلاً، ومثلما يعملون في سائر بلاد العربان. كما أنّ الرئيس الأميركي لا يبقى في كرسيّه إلى أن توافيه المنيّة، ولا يورّث رئاسته لأبنائه مثلما يفعل العربان. كما أنّ بيل غيتس، على سبيل المثال أيضًا لا يورّث المليارات لأبنائه بل يفردها صندوقًا خيريًّا لأبناء البشر دون فرق في الجنس والعنصر.
ثالثًا: فصل الدّين عن الدّولة – هذا لا يعني أنّ المجتمع الأميركي غير متديّن، بل ربّما على العكس فهو من أكثر الشّعوب الغربيّة هَبَلاً من النّاحية الدّينيّة. المهمّ في الأمر أنّ الدّولة والمؤسّسات والنّظام يعمل دون أيّ علاقة بطائفة معيّنة أو بدين معيّن. فالأميركي هو من يتجنّس بالجنسيّة الأميركيّة حسب الدّستور والقوانين الأميركيّة مهما كانت خلفيّته الإثنية والقوميّة والدّينيّة، ومتى ما صار كذلك فقد يصبح رئيسًا لأميركا، ولكم في باراك أوباما أسوة حسنة، يا أولي الألباب! فلا يوجد دين رسمي لأميركا مثلاً، بخلاف أنظمة بلاد العربان، حيث أضحى الدّين كاتمًا لعقولهم وعقول مجتمعاتهم. يمكن القول إنّ العرب في هذا الأوان هم أكثر الأمم احتياجًا إلى أتاتورك عربيّ، يخرجهم من الظّلمات إلى النّور.
*
– ما هي قراءتك لإسرائيل بعد 60سنة على قيامها فوق فلسطين.. وعلى حساب هذه؟
الحديث عن 60 سنة هو حديث شكلي فحسب، إذ أنّ إسرائيل المؤسّسات كانت قائمة قبل هذا الوقت بعقود. كانت الجامعات والمصانع والمنشآت والمنظّمات الأهليّة قائمة قبل ذلك بكثير، وكانت كلّ هذه تنتظر القرار الرّسمي الأممي به، ليس إلاّ. ليست هذه هي الحال لدى الفلسطينيّين مثلاً والعرب بعامّة. فالعرب يبنون جامعًا بدل أن يبنوا جامعة، يقيّدون الحريّات بدل أن يُطلقوا العنان للخيال العربي ليسرح وليمرح وليبدع. لا يمكن أن ينوجد إبداع بأيّ حال من الأحوال في وضع من الكبت، ولمّا كان الكبت سمة من سمات الأنظمة والمجتمعات العربيّة فإنّ الهوّة ستبقى هائلة بين الغرب وبين العرب من جهة، وبين إسرائيل وبين هذا العالم العربي من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، لا توجد رقابة في إسرائيل لا على الكتب ولا على المسرح ولا على السّينما ولا على الأبحاث والعلوم بخلاف العالم العربي. كما أنّ إسرائيل تحاكم حكّامها وتزجّ بهم في السّجن إذا اقتضى الأمر. أمّا في العالم العربيّ، فمهما جرّ زعيم منهم الويلات على شعبه فلا يوجد من يحاسبه، بل يبقى في الحكم إلى يوم يبعثون مورّثًا فساده إلى ابنه وأبناء عشيرته الأقربين. هذه هي الحال العربيّة، كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون.
أتذكّر الآن هذه الخاطرة: عندما كنت فتى أنّا ترعرعنا جميعًا على الإذاعات العربيّة القومجيّة الثّائرة على مصطلح “الكيان” أو “دولة العصابات الصّهيونيّة”.
وها أنذا أنظر حولي الآن بعد كلّ هذه العقود فأتساءل: أين هي العصابات، يا ترى؟ أنظر حولي وحولكم وأصارح نفسي وأصارحكم بالحقيقة. العصابات في العراق، العصابات في لبنان، العصابات في فلسطين والعصابات في السّودان.
وفي قرارة نفسي أقول: آن الأوان أن نتصارح لكي نتصالح. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
salman.masalha@gmail.com
* القدس
***