خاص بـ”الشفاف”
لعلّ الأوروبيين أكثر حرصًا على لبنان من أبناء هذه البلاد أنفسهم. ولعلّه استنتاج يدفع إليه حديث مع رئيسة بعثة الإتحاد الأوروبي في لبنان، السفيرة أنجيلينا أيخهورست، حيث تداوم في مبنى البعثة في منطقة الصيفي، وسط بيروت.
الوصول إلى مكتبها برفقة حارس أمن يستلزم التنقل مرارا بين طبقات ومصاعد، عبور أبواب خلفها أبواب خلف ممرات ضيقة، وعلى الأبواب ملصقات للتوعية على الفساد وأهمّية التبليغ. أخيراً نصل وتشرّع أيخهورست بابتسامة عريضة باب مكتبها الواسع المطلّ على الواجهة البحرية لبيروت. إلى اليسار صورة الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائبة رئيس المفوضية الأوروبية كاثرين آشتون، جنبها علم صغير للاتحاد الأوروبي، بنجومه الصفراء الغارقة في الزرقة.
حديث السفيرة إلى “الشفاف”، تلقائيّ لم يخلُ من مزاح ومزج لغوي. ساعة بلا مقدمات حرصت خلالها أيخهورست على توضيح كل الجواب عن كل سؤال، مقدمة تقارير عن عمل الاتحاد الأوروبي في لبنان وملخّصا لمجمل البرامج من العام 2008 حتى اليوم.
تسأل عن موقع “الشفاف”، ثم تنقل همومها: يسعى الاتحاد الأوروبي إلى استمرار الاستقرار في لبنان والى تفادي التدهور. عملُ الاتحاد الأوروبي جامع ومتعدد المهمات. وهو يضع كل الأدوات المتوافرة لديه في خدمة تنفيذ مشاريع تُعنى بالسياسة والأمن والثقافة والمجتمع لا سيما بالتنسيق مع الأمم المتحّدة وحكومة لبنان.
وضع هذه البلاد يؤلم أيخهورست: “نحن نتحرّك ضمن صلاحيتنا وقدر المستطاع، لكن ثمّة دورا كبيرا للحكومة. تنقص لبنان رؤية استراتيجية واضحة ليستبق أزماته الكبيرة. لبنان يغرق الآن في أزمة حقيقية. يحتاج إلى حلول سريعة وقصيرة الأجل صحيح، لكن المشكلة أننا نلاحظ وجود نواقص على مستوى هيكيلية الدولة”.
تأخذ أزمة اللاجئين السوريين حيّزًا كبيرًا من حديث أيخهورست إلى “الشفاف”: “هذا التسونامي كان متوقّعًا. وضعت حكومة الرئيس ميقاتي خطّة عمل، لكنّ التنسيق كان غائبا بين أعضاء الحكومة. لبنان بحاجة إلى تخطيط مسبق. علينا الاعتراف طبعًا بالجهد الذي يبذله اللبنانيون على مستوى أزمة النازحين السوريين وخصوصا في المناطق الأكثر فقراً، والاعتراف أيضًا بالدعم المالي الذي توفره منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. الاتحاد الأوروبي هو أول جهة مانحة للبنان ، إلا أنّ الحاجة على مستوى أزمة اللاجئين هائلة!”.
“أولوية الاتحاد الأوروبي ليست حماية لبنان من تداعيات أزمة اللاجئين وحدها بل أيضًا الحفاظ على المؤسسات وعلى مقومات الدولة” تقول السفيرة.
مسخرة إنتخابات الأسد!
وتتابع: “لبنان يضمد جراحه ولا يشفى من مرضه الحقيقي. الحلّ في وقف العنف، في سوريا. نحن دعمنا مساعي المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية الى سوريا الأخضر الإبراهيمي، وقبله كوفي أنان، لكن هذه المساعي لم تنجح للأسف.”
لا تدخل أيخهورست زواريب السياسات الداخلية، إلّا أنها تنتقد ما سمي بالانتخابات السورية بوضوح:”الانتخابات ليست الحل بالنسبة إلى كل السوريين. ملايين السوريين غادروا بلادهم وعدد القتلى كبير جدا، وكثيرون أعتقلوا ومصيرهم مجهول. تشير الأرقام الى وضع غير إنساني، فيما الرئيس السوري يقول إن الانتخابات قائمة. إنها “باروديا” للديموقراطية، تقليد ساخر للانتخابات.”
في كلامها على أوضاع سوريا تختار أيخهورست كلماتها بدقة والأسى ظاهر في تعابير وجهها: “اجتذبت سوريا أطرافا خارجية كثيرة فصارت ملعبًا يتصارع فيه الجميع، في حين ان روسيا وإيران والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا منقسمة على المستوى الدولي في خصوص سوريا. هناك تحدٍّ هائل. الصورة محزنة جدًّا، قاتمة.”
تتوقف لحظة لرشفة ماء وتضيف:”الضغط على لبنان كبير وعلى الحكومة، وقرارها الأخير في موضوع اللاجئين مهمّ جدًّا، لكنّ علينا التنبّه الى التعامل مع هذه المسألة بحسب المعايير الدولية. يجب على اللبنانيين الحذر من التعاطي مع اللاجئين وفق أفكار جاهزة. لا شكّ أن الانتخابات السورية التي جرت في لبنان كانت مستفزّة جدًا. لكن في خصوص اللاجئين يجب أن لا ننسى ان 80% منهم هم نساء وأطفال ، أتوا غصبًا عنهم، ليس بإرادتهم.”
أبرز الأخطار التي يواجهها لبنان اليوم؟ تجيب أيخهورست فوراً: “الإنقسام، غياب مقومات الدولة. .”
للسفيرة موقف من الفراغ: “الفراغ لا بدّ أن يملأه شيء ما، ربّما اللااستقرار الأمني أو أحد سيناريوهات أخرى كثيرة، فالسيناريوهات كثيرة. على اللبنانيين إدراك مسؤوليتهم في هذا الإطار ليتفادوا الأسوأ.”
تشرح السفيرة العميقة الانتماء إلى أوروبا – تقول إن جنسيتها أوروبية قبل أي شيء – أن الاتحاد الأوروبي لا يمارس ضغوطًا في الموضوع الرئاسي بل يكتفي بالدعوة إلى تحمّل المسؤوليات. “هذا شأن لبناني بحت.”
السفيرة الديناميكية تهتمّ جداً بموضوع “الشباب والانقسامات”: “على الشباب إيجاد النقاط الجامعة والثقة بأن العيش معا ليس مستحيلًا” . أخبرتها عن استياء الجيل الجديد من الوضع وشعورهم بالعجز عن فعل شيء حياله، فعلّقت: “ربّما أرى الأشياء على نحو مختلف.”
مبادرات المجتمع المدني أساسية ومهمة بالنسبة إلى أيخهورست :”علينا دعم هذه المبادرات باستمرار كي تحافظ على حيويتها وإبداعها. يجب اختبار القوانين القديمة والسعي إلى تغيير إيجابي”. تريد السفيرة دفع الجميع نحو تعبير سلمي “للانتقال من حلول الشارع إلى حلول القضاء”.
ماذا عن فكرة أن لبنان تلزمه “ثورة” ولو سلمية؟ تجيب أيخهورست: “لست في موقع أن أشجّع على ثورة أو لا، إنما على الجيل الشاب استعادة الثقة بالدولة. اختبرتم كثيرا من العنف، اتمنى أن لا يتحقق التغيير على نحو عنفي.”
بسؤالها عن كلمة أخيرة توجّهها إلى اللبنانيين، تصمت السفيرة الصادقة، تنظر إلى الأعلى، تفكّر، تبتسم، تقول بعد رشفة ماء ثانية: “هذه المنطقة من العالم تحتاج إلى لبنان. عليه استعادة دوره، وعلى المواطن اللبناني أن يفيد من قدراته الثقافية واللغوية والعملية للتوصل إلى الوحدة في التنوع. يا للأسف لا أرى ذلك اليوم.”
تختم أيخهورست والأحاسيس تملأ كلماتها: “لبنان لؤلؤة لكنّها في العتمة، لؤلؤة منسيّة نتمنّى أن تقدروا كلبنانيين بقوّتكم الداخلية استعادة بريقها. المنطقة تحتاج إلى روحكم ، إلى انفتاحكم الى قدرتكم على النهوض. ولكن ويا للأسف، ندور في حلقة مفرغة خطيرة.
خُسارة”
تكرّر بالعربية هذه المرة: “خسارة!”.