قبل أكثر من ثلاثين عاماً كنت قي زيارة لبلغاريا (وكانت لا تزال اشتراكية). ودعاني اتحاد طلاب فلسطين إلى ندوة بمناسبة فلسطينية عزيزة. وسعدتُ، خصوصاً، لأن المشارك عن منظمة التحرير الفلسطينية كان الكاتب والمفكر الفذ ماجد أبو شرار.
قال لي عندما عانقني: “عندما أعانقك أحسُّ أنني أمسُّ تراب فلسطين المقدس”. وليس من باب اللياقة والرد على الكلمة الطيبة بأحسن منها قلت له: “وعندما أعانقك أحس أنني أعانق مستقبل فلسطين”.
ثمَّ كانت الأمسية الخطابية التي لا أنساها. أبو شرار مفكر ورجل عقيدة، قبل أن يكون خطيباً. ولذلك راح يشرح للطلاب الفلسطينيين أن المعركة الفلسطينية هي معركة مزدوجة، معركة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهي الأساس والمدماك الأول في بناء المستقبل الفلسطيني، ومعركة فلسطينية داخلية لبناء مجتمع الديمقراطية والحرية والتعددية وحقوق الإنسان. وصَمَتَ قليلاً لينفجر بعدها كالعاصفة وقال: “إذا كانت فلسطين ستكون دولة قمع وسجون وخنق لكرامة الإنسان الفلسطيني وظلامية، فلا عمرها كانت”!!
أتذكر ماجد أبو شرار كثيراً. وقد تذكرته في الأسبوع الماضي عندما انفجرت معركة بالغة الأهمية في فلسطين حول كتاب “قول يا طير” الذي يضم قصصاً فولكلورية فلسطينية الدكتور شريف كناعنة وإبراهيم مهوي وجرى طبعها بمساعدة أوروبية، وقدّمت وزارة الثقافة الفلسطينية عشرة آلاف نسخة منها هدايا للمدارس والمكتبات في الضفة وقطاع غزة .
وقد حظي هذا الكتاب بتقريظ كبير في العالم العربي وعالمياً، لأنّ هذه القصص الفولكلورية تجسد الضمير الجماعي الفلسطيني وتجسد الإبداع الجماعي والحكمة الجماعية والموهبة الجماعية لشعب فلسطين، عبر العصور.
لقد دار الزمن دورة إلى الوراء، وصعدت “حماس” إلى الحكم، فقرر مَن قرّر أن كتاب “قول يا طير” يجب أن يُحرَق(!!!). لأن فيه عبارات “بذيئة” و”مخجلة”.
وقد انطلقت في رام الله مظاهرة حضارية من الطراز الأول، ضمت الأدباء والمثقفين والمفكرين والمعلمين والمعلمات والطلاب احتجاجاً على منع الكتاب واحتجاجاً على النية الظلامية بحرق الكتاب. إحدى السيدات سارت في المظاهرة وهي تحمل لافتة كبيرة كُتب عليها: “جدتي لم تكن بلا أدب وبلا أخلاق”. وحمل أحد المثقفين لافتة كتب عليها:” قرار حرق كتاب قول يا طير-هو قرار نظام ظلامي ايراني”!!.
الكاتب والباحث في الفولكلور الأستاذ علي الخليلي، قال: “إن القصص الشعبية التي تمَّ جمعها في الكتاب هي قصص تناقلها أهلنا خلال مئات السنين، وهي تجسد إلى حد بعيد، روح شعبنا وقِيَمِه الجماعية القائمة على الحب والعطاء والتضحية والتضامن الجماعي بين أهلنا. ولغة هذه القصص هي لغة شعبنا العامة الحارّة، البسيطة والصريحة”.
وقال الأستاذ علي الخليلي: “حماس، مثل كل الحركات الإسلامية الأصولية لا تؤمن بالديمقراطية وتعتقد أنها تفكر نيابة عن الشعب، وإذا وصلت إلى الحكم فهي باقية فيه وتعمل على صياغة القِيَم العامة للشعب وما على الشعب إلاّ أن ينفِّذ ويخضع راضياً مرضياً”.
هل حماس تريد أن تُعلِّم القوى الوطنية والديمقراطية العلمانية، أن الاحتلال الإسرائيلي هو العدو؟!! إن فتح والديمقراطية والشعبية وحزب الشعب وكل الفصائل الوطنية واليسارية هي التي قاتلت الاحتلال. وهي التي قدّمت الشهداء، وسجون الاحتلال مليئة بأبطال الحركات الوطنية واليسارية، قبل أن تبدأ حماس بالنضال.
الاحتلال الإسرائيلي هو العدو حقاً، العدو الرئيس، وإلغاء الاحتلال هو المقدمة والمفتاح لبناء المستقبل . ولكن يجب القول، بصوت عالٍ لا غموض فيه ولا بحّة، إن المعركة بعد الاستقلال هي على طبيعة النظام السياسي والثقافي والاجتماعي الفلسطيني. هل نريد مجتمعاً تعدديا، ديمقراطياً، فيه شرعية التنوع والاختلاف وفيه شرعية التفكير والتعبير وفيه حرية الإبداع الثقافي والأدبي والفني، أم نريد مجتمعاًً ذا لون واحد، ظلامياً، متزمتاً ضيق الأفق، بل بلا أفق؟
الشعب الفلسطيني كان خلال مئات السنين شعباً منفتحاً، حراً، لا يعرف التعصب الديني عاش أهلنا فيه متآخين متعاونين، وقولكلورنا العريق هو الشهادة على أن شعبنا عرف التنوع والغنى الثقافي وأهلنا كانوا أعداء للتزمت وضيق الأفق وكانوا محبين للثقافة والغناء والشعر الشعبي، وكانوا مبهورين بالفن النابع من الأرض والنابع من إنسانية الإنسان الفلسطيني.
يجب أن نقول إن المظاهرة في رام الله، في ساحة المنارة، التي قامت ضد المؤامرة الظلامية لحرق كتاب “قول يا طير” انتهت نهاية سعيدة. فقد خرج الأستاذ ناصر الدين الشاعر نائب رئيس الحكومة وقال للمتظاهرين إن القرار بحرق الكتاب لم يكن شرعياً وأعلن القرار بإلغاء القرار بحرق الكتاب!
كيف يمكن لوزارة ثقافة فلسطينية أن تقرر حرق كتاب فيه 45 قصة فولكلورية تناقلها أهلنا خلال مئات السنين، وتربى عليها أطفال فلسطين وشباب فلسطين؟ هل هناك ما يُمثِّل روح الشعب، أي شعب ، أكثر من الفولكلور الموروث؟
إن النضال داخل فلسطين دفاعاً عن الحرية والديمقراطية والتنوع، ودفاعاً عن حرية الفكر والأدب والثقافة ليس فقط أنه لا يتناقض مع النضال ضد الاحتلال وفي سبيل الاستقلال، بل أن شعباً يحترم ثقافته الوطنية وحرية الإبداع، هو هو الشعب القادر أن يقاوم الاحتلال وينتصر في تحقيق الاستقلال الوطني الكامل.
يخطىء من يعتقد أن الصراع بين حماس وفتح، هو في معزل عن الشعب. إن الصراع ليس فئوياً وحركياً، بل أن الصراع هو حول مستقبل فلسطين المستقلة. هل تكون فلسطين حرة وديمقراطية وساحة للإبداع الحر وللتعددية وللتنوع، ولاحترام خيار الناس أم ستكون فلسطين على الطريقة الخمينية الايرانية؟!!
يقيناً أن الضمير الجماعي لشعبنا الفلسطيني يريد دولة تزدهر فيها الحياة وتزدهر فيها الثقافة والفن. فكأنني بروح ماجد أبو شرار تهتف من الأعالي:” إذا كانت فلسطين ستكون دولة قمع وسجون وخنق لكرامة الإنسان وظلامية، فلا عمرها كانت”.
ونقول تحية لروح ماجد أبو شرار: فلسطين الحرة المستقلة ستكون دولة ديمقراطية حرة، بلا سجون وبلا قمع، دولة حرية الإنسان، دولة سيادة الديمقراطية الوطنية الفلسطينية!!
salim_jubran@yahoo.com
* الناصرة