تفعل سلطة حماس بغزة، وفي غزة، ما فعله آخرون، في أربعة أركان الكون، على مدار آلاف مؤلفة من السنوات: تخييل وإنشاء مجتمع الطهارة، أي ملكوت السماء على الأرض. المجتمع الذي تسمى، على مدار قرون بتسميات مختلفة من بينها المدينة الفاضلة، وجمهورية أفلاطون، وقد حرّضت عليه في التاريخ، والجوهر، ومختلف التجليات، فكرة الهبوط من الفردوس.
مبرر هذا الكلام حملة “القيم والفضيلة” في قطاع غزة، وما يتخللها من ملاحقة للشباب، الذين يرتدون ثياباً، أو يقصون شعر الرأس، بطريقة لا تنسجم مع مفهوم الحملة للقيم والفضيلة. وإلى هذا يُضاف تأنيث المدارس، ومحاربة الاختلاط، ومنع النساء من تدخين النرجيلة، وحتى فرض الاحتشام على المانيكان في محلاّت تعرض ثياباً نسائية..الخ
ونحن، بالتأكيد، نظلم الفارابي وأفلاطون في توظيفهما كوسيلة إيضاح للكلام عن سلطة حماس في غزة. ولكننا لا نستطيع الاستغناء عن الأفكار الكبيرة، حتى عندما يكرر التاريخ نفسه، ويتجلى في كوميديا سوداء، صغيرة، فقيرة، وغير مسلية.
وبما أن الأفكار الكبيرة رافقت وجود الإنسان على الأرض، فقد أصبحت على مدار قرون طويلة، وفي الأزمنة الحديثة بشكل خاص، موضوعاً للدرس، والفحص، والتحليل والتأويل. وفي هذا السياق، يقبل مجتمع الطهارة التحليل والتأويل من مداخل مختلفة من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، بنية ومفهوم ووظيفة السلطة. مطلق سلطة.
ولسنا، هنا، بصدد العرض التاريخي، بل (وعلى ضوء منجزات العلوم الاجتماعية) التفكير في أسئلة من نوع: متى ولماذا وكيف تفكّر جماعة مهيمنة تمثل سلطة، سواء في العصر الحجري، أو في القرن الواحد والعشرين، في تخييل، وإنشاء مجتمع الطهارة.
الجواب: أولاً، عندما تبحث عن مصادر للشرعية. وثانياً، عندما تُجابه أزمات سياسية واقتصادية تعجز عن حلها بأدوات سياسية واقتصادية. وثالثاً، عندما تشعر بفشل أو تعثّر مشروع الهيمنة. ورابعاً، عندما تفتعل مشاكل ومشاغل لحجب مشاكل ومشاغل أخرى. وخامساً، عندما تُجابه بمعارضة تزعزع مقوّمات وجودها.
تعمّدتُ أن أحذف من الجواب النـزوع الميسيائي، الخلاصي، التاريخاني، الذي يبرر الدخول في مشاريع راديكالية للهندسة الاجتماعية. ومنشأ التحفّظ، هنا، أن النـزوع الميسيائي، بشكليه الديني والمُعلمن، ليس أكثر من واجهة أيديولوجية لما ينجم عن اجتماع البنود سالفة الذكر.
ومن ناحية أخرى، لا يتجلى ما جاء في الجواب من بنود محتملة، في الواقع، بطريقة مستقله، وغالباً ما تختلط هذه الأشياء مع بعضها، سواء على الأرض، أو في ذهن سلطة مهيمنة تبحث عن بلورة وتكريس وحماية مقوّمات وجودها.
وإلى هذا تُضاف فكرة اقتحم بها ميشيل فوكو علوم السياسة والاجتماع والتاريخ، ومفادها أن السلطة تصل إلى أكثر أشكالها استقراراً، ونفوذاً، بقدر ما تصبح غير مرئية، وغير مضطرة إلى وسم الخاضعين لها بما يُذكِّر بها.
وبهذا، وعلى هذا، يمكن الاستنتاج، بالنظر إلى نماذج في مناطق مختلفة من العالم، في هذا القرن، وفي قرون سبقته، أن التكريس اليومي الملموس، والمهووس، لمظاهر الهيمنة يدل، في الواقع، على إحساس عميق بالقلق، وضعف مصادر الشرعية، وافتعال مشاكل ومشاغل لحجب مشاكل ومشاغل أخرى.
والمفارقة أن التكريس اليومي لمظاهر الهيمنة يختلف من مكان إلى آخر، حتى وإن لم تختلف مبرراته. ففي كل مكان يسوده الفقر، وتسكنه الفوضى، ويعاني من تجاور، وتنافر، وتناحر، عوالم وعقول تنتمي إلى قرون مختلفة، تزداد الحاجة إلى وسائل إيضاح مادية، مباشرة، فجة، وعنيفة، لا لتكريس الهيمنة وحسب، ولكن للتدليل على مظاهر وجودها في الحياة اليومية للناس، أيضاً.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم العربي، وجماعات الإسلام السياسي على نحو خاص، ثمة مفارقة تستدعي التفكير والتدبير: تتصدّر الأخلاق الفردية والعامة قمة الهرم في تخييل وإنشاء وعد، ووعود، الملكوت الأرضي.
وهي (أي الأخلاق) كما في كل مكان آخر، أشياء مجرّدة، يمكن التدليل عليها بالانخراط في طقوس عامة، وشيفرات سلوكية، وممارسات خارجية، لا يمكن التحقق من صدقها، طالما أن ما استقر منها في الضمير، ووقر في القلب، أهم مما قد ينجم عنها ويدخل، أحياناً، في باب الخوف، أو النفاق، أو الانسجام مع الشرط العام.
ومنشأ المفارقة أن جماعات الإسلام السياسي لا تتصرف بطريقة تدل على التسليم بحقيقة أن ما استقر في الضمير، ووقر في القلب، أهم وأبقى من الممارسات الخارجية، لذا تحتاج إلى براهين يومية، مادية، مباشرة، ملموسة، ومحسوسة، على وجودها، فإذا لم تعثر عليها فرضتها بزيادة الجرعة، والقوّة، والإكراه.
وهي ذات مخيلّة خصبة، إذ يمكن أن تعثر على ما يبرر زيادة الجرعة حتى في سروال أو قصة شعر، وكلاهما يحيل إلى الجسد: الجسد وسيلة إيضاح. لوح تنقش عليه السلطة اسمها ورسمها، وتعلن فيه وبه عن عنفها، ولا تكف عن ملاحقته إلا إذا انضبط واختفى وحينها تكف الأجساد عن كونها فردية، أو حتى ملكية خاصة، وينتفي عنها كل ما يميزها عن غيرها.
لذا، تُقرأ الثياب، والأزياء، والموضة، باعتبارها علامات تقبل التفسير والتأويل بطريقة سياسية تماماً، ويمكن من خلالها تفسير وتأويل معنى السلطة، وآليات عملها الخفية منها أو المرئية، في هذا المجتمع أو ذاك. كما ويمكن تفسير العلامة وتأويلها باعتبارها نوعاً من الاحتجاج. وهذه ممارسة سياسية، أيضاً.
الأخلاق الفردية والعامة مفهوم واسع، ومتغيّر، بمعنى أنه يتسع لقيم كثيرة منها: الحق في الخصوصية، والحرية، والاختلاف، والعدل، والمساواة. وهذه كلها تدخل وتتداخل مع النـزعات الإيروسية لدى بني البشر. وهذه، أيضاً، في صميم كل محاولة للتفرّد، والفردانية، والتفريد. لا شيء يقض مضجع الشمولية أكثر من شبهة أو احتمال التفرّد، والفردانية، والتفريد.
وبما أن هذه النـزعات، بالذات، شكّلت، وما تزال، مصدر قلق ورعب دائمين في النسق الثقافي العربي، فمن المنطقي طردها وملاحقة تجلياتها في الفضاء الاجتماعي العام. فهذه تحيل إلى تلك، وفي هذه وتلك ما يهدد ويبدد كل مشروع محتمل للهيمنة، خاصة البدائي منها.
البدائي الذي ينحل فيه مفهوم السلطة إلى مكوّناته الأولى، أي القوّة والإكراه، لوسم أجساد المحكومين بميسم السلطة، طالما أن ضمائرهم وقلوبهم بعيدة المنال أولاً. ومصدر شك وقلق دائمين ثانياً. وثالثاً، طالما أن طرد القلق لا يتأتى دون براهين كأن يقول الناس على طريقة ونستون سميث في 1984: أنا أحبُ الأخ الأكبر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب وناقد من فلسطين، مدير تحرير فصلية الكرمل الثقافية