قبل وصول إدارة أوباما بدأ رهان واشنطن على ‘الجواد الشيعي المتمثل بإيران’، وبالطبع تم ذلك على حساب الحلفاء العرب التقليديين، وتتوّج التوجه الأميركي الجديد بالاتفاق النووي مع إيران.
“الولايات المتحدة الأميركية هي الأمة الأقوى في العالم. نقطة على السطر”، هكذا بدا الرئيس باراك أوباما حاسما وفخورا ومعتدا في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد في الحادي عشر من يناير 2016، وفي مرافعته أمام الكونغرس والرأي العام المحلي والدولي لم يشأ أول رئيس ملون في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن يبدي اعتزازه وثقته بالزعامة الأميركية، بالرغم من مرحلة الاضطراب الإستراتيجي التي يمر بها العالم. في الشرق الأوسط الذي سيتركه أوباما بركانا متفجرا، راهن أوباما على الجواد الإيراني وراعى دوما العلاقة الخاصة مع إسرائيل بالرغم من العلاقة المتوترة مع بنيامين نتنياهو، وفيما مرت علاقته مع تركيا بصعود وهبوط، يمكن القول إن واشنطن باراك أوباما أوغلت في “الاستثمار” في الضعف العربي من خلال العمل على صياغة مشهد إقليمي جديد دون الاكتراث بالمصالح العربية ودون إيلاء الاهتمام الكافي بمواقع أصدقاء تاريخيين للولايات المتحدة الأميركية.
في مناجاته (المونولوج) لمدة ساعة، سرد أوباما نجاحاته في السياسة الخارجية وأبرزها: تصفية زعيم القاعدة أسامة بن لادن والاتفاق النووي مع إيران. ورفض الرئيس الأميركي كل كلام عن تراجع في القدرات الأميركية معتبرا أنه “في حال حصول أزمة دولية كبيرة، لا يتطلع العالم نحو موسكو أو بكين، بل يستدير نحونا”.
بيد أن المأساة السورية تبرهن على فشل ما تصفه دوائر واشنطن بالواقعية العقلانية الأوبامية، وهي تراوح في الحقيقة بين الغياب والماكيافيلية والاستقالة بعد بيع الأوهام عن أيام الأسد المعدودة، إلى السخرية من الثوار السوريين (المزارعين وأطباء الأسنان) والتفرج على الكارثة الكبرى في هذا القرن، مع الاكتفاء بالقول إن واشنطن هي أكبر ممول للإغاثة الإنسانية. من الواضح أن أوباما الذي ردد مرارا أنه جرى انتخابه كي يقوم بإصلاح أخطاء بوش الابن ونشاط “القوة الفظة” في الشرق الأوسط، تميز بالتردد وقلة النشاط مقابل النشاط الفائض لسلفه، وسبب ذلك خللا أتاح مرور فلاديمير بوتين ليكرس روسيا لاعبا دوليا هاما في الأقليم، والأدهى من ذلك صعود البربرية وموت الإنسانية في سوريا والعراق.
بالنسبة إلى تنظيم الدولة (داعش) سخر أوباما وقال إن “جموعا من المقاتلين المتمركزين فوق شاحنات صغيرة وأشخاصا نفوسهم معذبة يتآمرون في شقق أو مرائب سيارات، يشكلون خطرا هائلا على المدنيين وعلينا إيقافهم. ولكنهم لا يشكلون خطرا وجوديا على وطن”.
إذن على عكس ما يقوله القرار الدولي 2249 الذي يحدد أن تنظيم داعش يمثل “تهديدا عالميا لا سابق له”، لا يعتبر أوباما أن داعش يمثل خطرا وجوديا على بلاده، لكنه يطلب تفويض الكونغرس حتى “يلاقوا مصير بن لادن”.
من الحرب ضد الإرهاب إلى معالجة باقي أزمات الشرق الأوسط، وعلى مسافة سنة من نهاية العهد الأوبامي، تبدو الحصيلة واهية ولم ينجح الرهان على تحسين العلاقة الأميركية – الإسلامية بالإجمال، حسبما تعهد أوباما في خطابه الشهير في القاهرة في 2009، بل على العكس من ذلك يلتهب الشرق الأوسط وتبقى الكثير من القضايا في الحلقة المفرغة أو يدخل الكثير من الناس في دائرة الهلاك.
لماذا وصلت الأمور إلى هنا وتهاوت الآمال التي جرى تعويلها على رئيس بدا واعدا للوهلة الأولى؟ مما لا شك فيه أن تردد أوباما وتناقضاته ورهاناته العاثرة لم تسعفه في بلورة إستراتيجية متماسكة، وبالطبع كان هناك في المرصاد واقع دولي انتقالي وملتبس، وصراعات مزمنة يتداخل فيها البعدان الديني والزمني في منطقة تتحكم بشعوبها لعنة الأساطير والحنين إلى الامبراطوريات، مع قصور في بلورة نماذج حكم وحداثة ملائمة.
يحق للمراقب التساؤل عما إذا كان أساطين واشنطن قد تنبهوا إلى أن إيران هي التي استفادت من حربي أفغانستان والعراق كي تعزز مكانتها الإقليمية في الوقت الذي كان البيت الأبيض يصنفها زعيمة لمحور الشر؟ وهذا الإبهام لم يتبدد لأن التعاون العملي بين واشنطن وطهران بدأ في العراق عام 2004 وتطور مع بدايات عهد أوباما كي يؤمن “انسحابا مشرفا” من العراق وينكشف بعد ذلك رهانه الكبير على ترتيب “اتفاق العصر” مع طهران.
في هذا الإطار هناك شهادة هامة وردت في حوار صحفي حديث مع مايكل أورن، سفير إسرائيل السابق في أميركا الذي يقول “قبل تعييني سفيرا في أواخر 2008، سمعت كلاما عن أن الولايات المتحدة أخلّت برهانها على جواديْن: الجواد السني والجواد الإسرائيلي. فالجواد السني أدى، بحسب ما قالوا، إلى خسارة كبيرة للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وأن السنة هم من فجروا مركز التجارة العالمي في نيويورك، والجواد الإسرائيلي كان دائما يحرج الولايات المتحدة في مسألة الاستيطان، ضاربا عرض الحائط بكل التفاهمات”.
من الواضح أنه قبل وصول إدارة أوباما بدأ رهان واشنطن على “الجواد الشيعي المتمثل بإيران”، وبالطبع تم ذلك على حساب الحلفاء العرب التقليديين، وتتوج التوجه الأميركي الجديد بالاتفاق النووي مع إيران.
تخطى أوباما كل حواجز “العشق الممنوع″ ويمكن القول إن الولايات المتحدة هاجمت كل أعداء إيران في المنطقة، من طالبان في أفغانستان، إلى داعش في سوريا والعراق، ومنحت إيران حرية الحركة في العراق، انتهاء بعدم المساس بنظام الأسد في سوريا، حليف إيران، والاتفاق النووي كان إشارة إلى إسرائيل بتحول ما في الولايات المتحدة، بأن تحالفات جديدة في طور البناء، خصوصا أن الولايات المتحدة أتمت استقلالها في مجال الطاقة وفكت ارتباطها بنفط الخليج، بالرغم من كلام جون كيري في آخر لقاء له مع عادل الجبير بأن “العلاقة الأميركية – السعودية تبقى حجر الزاوية في السياسة الأميركية في الإقليم”. لكن في الحقيقة اضطرب الوضع بين الطرفين وكان أحد أهداف “حرب أسعار النفط” تمرير الرياض رسالة واضحة لواشنطن بأن إنتاج النفط الصخري لن يدمر موقع المملكة العربية السعودية في سوق الطاقة. وإذا كان اتفاق كوينسي الأميركي – السعودي في عام 1945، بخصوص الأمن مقابل الطاقة، أخذ يصبح وراءنا فهذا يعني المزيد من الاستهتار الأميركي في العلاقات مع العرب.
إزاء هذه التبدلات، تستمر واشنطن في استغلال عدم قدرة الدول العربية على تجميع عناصر قوتها كي تحترمها الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى، بل تذهب واشنطن بعيدا في تهميش المصالح والمواقع العربية لأن أولوياتها تتغير ولأن علاقة رابح – رابح لا تنطبق على لاعبين عرب مشتتين وغير أقوياء.
تتعدد المسؤوليات في أحوال التفكك ودورات العنف، وربما يتحمل بعضها العديد من اللاعبين العرب (بالإضافة إلى كل القوى الإقليمية المتورطة في الشأن العربي). إلا أن هناك مسؤولية خاصة تقع على عاتق العراب الأميركي الذي فكر أن مفردات الديمقراطية والعصر الحديث والاستقرار تمر عبر منطق القوة الفظة في أيام بوش الابن، أو عبر الاستنزاف والتردد، وعدم القيام بموجبات الزعامة العالمية والإنصاف في عهد باراك أوباما.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس