إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
من شبعا الحدودية في أقصى الجنوب اللبناني الشرقي – مَن يتذكر اليوم مزارعها، أيقونة “حزب الله”؟ – الى طرابلس في شمال لبنان الغربي، مروراً بقرى عكار وعرسال البقاعية الأسيرة، تنزل الغالبية العظمى الأشدّ بؤساً وشقاءً، وإدقاعاً من اللاجئين السوريين. قوس البلاد الداخلية هذه، هي بدورها الأفقر والأكثر تهميشاً في لبنان. في خضم بعض الحوادث الأمنية المتنقلة في طرابلس وعكار، عطفاً على مأساة عرسال المتناسلة، وعلى تمكّن “جبهة النصرة” من السيطرة على مناطق في الجولان السوري، متاخمة للحدود اللبنانية في جبل الشيخ، وصولاً الى الاشتباكات الأخيرة بين “النصرة” و”حزب الله” في جرود بريتال، وانتهاء بما جرى أخيراً في مزارع شبعا، أُطلقت سيناريوات متخيلة مخيفة، مستقاة تارة مما فعلته “داعش” في الموصل العراقية، وطوراً مما حدث في عرسال، وبريتال وشبعا.
لكن أين “حزب الله” وأدواره المزمنة في لبنان وخارجه، من هذه المخاوف وسيناريواتها المتخيلة؟ وسط هذه المعمعة المشرقية الدموية المنبعثة من التفسخ والتحلل المزمنين للدول والمجتمعات والجماعات، أين يقف لبنان اليوم، وما هو مصيره بين أمبراطورية الولي الفقيه الأخطبوطية وخلافة أمير المؤمنين الإجرامية التائهة في الصحراء؟
طبعاً، ليس من جواب عن مثل هذه الأسئلة، إلا في شذرات من مسارات الحوادث الماضية وأدوار الفاعلين فيها. أما الجواب عنها بسيناريوات مستقبلية، فليس سوى ضرب من الكهانة والتنجيم والهذيان.
في الآونة الأخيرة شاعت في صحافة “المصادر” تكهنات وأقاويل – تُنسبُ عادة الى دوائر وكواليس في أحزاب وقوى سياسية – عن مخاوف من احتمال تحوّل قرى في جنوب لبنان الشرقي الحدودية، مأوىً لـ”داعش” و”النصرة”، ومنطلقاً لعملياتهما الإرهابية، على مثال ما حصل في عرسال البقاعية. حجة التكهنات والأقاويل هي كثرة اللاجئين السوريين في تلك القرى، وخصوصاً في شبعا السنيّة في أقصى المثلّث الحدودي اللبناني – السوري – الإسرائيلي، واستيلاء “جبهة النصرة” المستجدّ على مناطق واسعة في الجولان السوري الذي من بعض القرى القريبة منه، على المنقلب الشرقي السوري لجبل الشيخ، نزح السوريون ولجأوا الى شبعا منذ نحو سنتين.
ما حصل في عرسال، معطوفاً على ما أشاعه من ذهول إقليمي ودولي استيلاء “داعش” المفاجئ والخاطف على الموصل العراقية، أطلق بدوره متاهة من السيناريوات المتخيلة، فرُسِمَ لطرابلس وعكار مصيرٌ محتمل، شبيه بمصير الموصل، على اعتبار أن الاحتقان المذهبي السنّي الطرابلسي والعكاري، قابل للانفجار على المثال العراقي، ويتغذى من الأعداد الضخمة للاجئين السوريين في الشمال، ومن اعتبار طرابلس معقلاً لتيارات الإسلام السلفي والجهادي، ومنه خرجت أعداد من شبّانها وفتيانها للقتال في سوريا.
المعمعة المشرقية وإطارُها
لكن، بما أن دولة خلافة أمير المؤمنين، أبي بكر البغدادي، في العراق والشام، سرّية إجرامية، وتائهة في الصحراء، وغامضة الحدود والخطط، ولا تنذر أو تَعِدُ أحداً في خارجها بغير القتل والذبح والصلب والسبي والنهب ودفع الجزية والدخول في إسلامها الدموي، فإن حبل المخاوف منها والتكهنات حولها وحول نياتها وأفعالها، متروك على الغارب، وللتخييل والهذيان، في بلادٍ صار العُصاب والاحتقان والوساوس الهذيانية مدار حياة أهلها، بعدما تفككت فيها الدول الهشة والديكتاتورية، تفسخت وتهاوت، وبعدما احتربت جماعاتها وتمزقت وفقدت زمام أمورها، فتاهت وانضوت في عصبيات ومنظمات أهلية مسلحة أو غير مسلحة، متحاجزة أو محتربة، لتسيطر كلٌّ منها على الأخرى سيطرةً عارية غاشمة. في هذه المعمعة صار أهل هذه الدول والمجتمعات هباءً منثوراً وبشراً من التائهين. أما ما تبقى من أشكال جوفاء للدول الديكتاتورية المتفسخة المتهاوية، في كلٍّ من العراق وسوريا، فليس سوى إطار خارجي لتذابح الجماعات، أو لتنابذها وسعي كلّ جماعة منها للسيطرة على الأخرى واستتباعها بالتهديد والعنف والسلاح، كما حال “حزب الله” في لبنان و”أنصار الله” الحوثيين في اليمن حيث لـ”القاعدة” معاقلها القوية.
في الإطار الأوسع للمعمعة المشرقية هذه، هناك دول إقليمية كبرى، يتنازعها الخوف، على الرغم من تماسكها ورسوخها الداخليين، كمصر وتركيا والسعودية، أو يستغرقها طموحها الأمبراطوري الجامح، كإيران ولاية الفقيه، صاحبة الباع الأطول والأمضى في الضلوع في تصديع الدول المجاورة وتفكيكها، وفي استتباع بعض جماعاتها وحملها على الاستقواء على جماعات أخرى، لإنشاء دول مذهبية على أنقاض الدول السابقة المتهاوية.
الزعامة، الإعالة، واللاجئون
لا يزال لبنان يقيم على قلق وخوف، مع أكثر من مليون ونصف المليون من اللاجئين السوريين إليه، لكنه لا يزال صامداً على طرف المعمعة المشرقية الإسلاموية المذهبية الدامية. فهو كان قد غرق في المأساة الفلسطينية ومعمعتها العروبية الدموية، ودفع طوال 15 سنة (1975 – 1990) أثمان “قلّة عروبته”، عقب هزيمة العرب الحزيرانية في العام 1967. أما إذا نظرنا إليه اليوم من منظار الانفجار الإسلاموي المذهبي الراهن، فهيهات أن نستقرئ مصيره الذي يكتنفه الغموض، إلا بضروب من الكهانة والتنجيم، على غرار صحافة “المصادر” ورغبات “دوائر القرار” الصحافية. نحتاج الى عين ميكروسكوبية لا نملكها، للوقوف على صحة أو خطأ التكهنات والسيناريوات التي تتنبأ لشبعا بمصير عرسالي، ولطرابلس وعكار بمصير موصلي. ذلك أن مثل هذه التنبوءات غائبة تقريباً في شبعا وسواها من القرى المجاورة، وهي لا تحضر إلا في ما يتناقله أهلها كأقاويل وشائعات ترد إليهم أصداؤها مما يسمعونه في وسائل الإعلام. وربما تحولت هذه الأصداء وساوس ومخاوف، بعد جولة النائب وليد جنبلاط في تلك القرى، مناشداً أهلها التضامن والتكاتف في وجه الاحتمالات المتداولة.
هذا ما يلمسه زائر شبعا ليومين في نهاية الأسبوع الأخير من أيلول الماضي، مع العلم أن شبعا، البلدة السنيّة الكبرى في تلك المنطقة، هي المأوى الأساسي الأكبر للاجئين السوريين هناك. كعادة أهالي البلدات والقرى والمدن وأحيائها في لبنان، فإن ما يطغى حينما يزورها زعماء ونافذون، هو غالباً تنطّحُ وجهائها المحليين لنيل حظوة الزعيم الزائر وخطب ودّه ورضاه. كأن يعتلي أحدهم المنبر الخطابي الى جانب الزعيم، فينشد قصيدة زجلية عصماء في مدحه وتعظيم زيارته وحضوره، فيما يتحسّر وجيه آخر على عدم تمكنه من اعتلاء المنبر الخطابي لينشد بدوره قصيدة مماثلة، وتُلتقط له صورة الى جانب الزعيم، ليضمّها الى ألبوم صور حظوته وأمجاده.
هذا المسرح البلدي للتصدر والحظوة، يماثله تماماً ما يحدث في أحياء بيروت من موجات إطلاق النار المحمومة، الثأرية المبتهجة، في مناسبات إطلالات الزعماء الخطابية التلفزيونية، كمثل ما حصل أثناء إطلالة الرئيس نبيه بري الخطابية الأخيرة، في مناسبة تغييب الإمام موسى الصدر، فأدّت إطلالته الى أمسية ترويع في أحياء بيروتية كثيرة، ذهب ضحيتها عدد من الجرحى.
في شبعا يلمس زائرها أن أهاليها منشغلون بأمور حياتهم وحاجاتهم اليومية الملحّة، أكثر من انشغالهم بـ”التكهنات الاستراتيجية” التي تصل إليهم أصداؤها من بيروت. فإلى كونها بلدة جردية نائية ومتضخمة العمران العشوائي على منحدرات جبل الشيخ في أقاصي الجنوب الشرقي الحدودي، فإن ما يشغل أهلها هو شحّ المياه التي يتذمرون من توزيع ينابيعها مياهاً للشرب في القرى المجاورة، معتبرين أن ذلك حرمهم من حقهم الذاتي والمحلي في مياه ينابيعهم في موسم الشحّ هذا. كما يشغلهم أيضاً غلاء محروقات التدفئة وندرة الحطب الذي يتذمرون من إقدام اللاجئين السوريين الكثيرين في بلدتهم على سبقهم ومنافستهم في احتطابه من الوعر والمشاعات، لجبه برد الشتاء المقبل.
الحق أن هذا النوع من المشاغل والهموم والتذمرات، لا يخرج عن كونه من الأمور العادية المتكررة والمتناسلة دائماً في بلدة جردية نائية، إلا في انطوائه على حساسية أو نعرة محلية مستجدّة حيال اللاجئين الغرباء الذين يفاقمون احتياجات البلدة، وينافسون أهلها ويقاسمونهم احتياجاتهم الضرورية، وبعض أعمالهم في ورش البناء، وفي الزراعة الذاوية أصلاً منذ سنين طويلة. هذا مع العلم بأن كُثراً من الأهالي أفادوا من تأجير بيوتهم الكثيرة الخالية، من اللاجئين السوريين، كما أفادوا من تكاثر حضور منظمات دولية وجمعيات خيرية خليجية يديرها بعض من أهالي البلدة السلفيين، لمساعدة اللاجئين. فالمساعدات المالية الشهرية الضئيلة التي يحصل عليها اللاجئون، يبتاعون بها حاجاتهم من البلدة. وهذا بدوره أثار حفيظة بعض الأهالي، حسدهم وشكواهم، ليحصلوا هم أيضاً على مساعدات مالية وعينية، يرون أنهم يستحقونها أسوةً باللاجئين السوريين، ومكافأة لهم على استضافتهم وتحمّل تبعاتها في بلدتهم، إضافة الى اعتبار أنهم مهملون بدورهم من الرعاية والإعالة، ومتروكون، كاللاجئين، لأقدارهم الصعبة، ومحرومون.
لكن على الرغم من هذا كله، فإن شبعا وبلديتها لم تبادرا الى اتخاذ قرار يمنع تجول اللاجئين السوريين في شوارعها بعد الساعة السابعة مساءً، إلا أخيراً، بعدما وصلت إليها أصداء المخاوف و”التكهنات الاستراتيجية” من بيروت. قبل أيام نشرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً يندّد بفرض بلديات لبنانية حظر التجوّل ليلاً على اللاجئين السوريين في 45 بلدة. اعتبرت المنظمة أن الحظر “يخالف القانون ويساهم في إيجاد مناخ يشجع على التمييز” الذي تنجم عنه “ردود فعل سلبية” ضد اللاجئين. وهي رصدت في تقريرها حوادث عنف واعتداءات ليلية ضد سوريين، نقلاً عن أفراد لبنانيين شهدوا الحوادث، فاستهجنوها وبادروا الى الاعتراض عليها وتخليص المعتدى عليهم من عسف الشرطة البلدية المحلية. في هذا الإطار يبرز الحديث عن مسألة “الأمن الذاتي” في القرى والبلدات والمناطق، كما عن التخوف منه ومما يمكن أن يفضي إليه من مفاقمة التفسّخ والعداوات الأهلية المناطقية، على ما علم اللبنانيون وذاقوا في عشيات حروبهم الأهلية وتمهيداً لها.
ففي أواسط حرب السنتين مثلاً (1975 – 1976)، حدث في شبعا أن فرَّ منها، عبر الجرد الى سوريا، عدد من شبان “التنظيم الشعبي الناصري” الموالي لنظام الأسد، خائفين من تنظيم شبعاوي مسلّح يوالي منظمة “فتح” الفلسطينية. لكن فرارهم ذاك، فاقم خوف عناصر التنظيم الفتحاوي من أن يهاجم الفارّون البلدة مع مجموعات من المخابرات السورية، فأخذوا يقومون بحراسات ليلية مسلحة على أطراف قريتهم. وحين عاد أحد الفاريّن بعد مدة الى البلدة، هاجم مسلحون فتحاويون منزله ليلاً للقبض عليه، فنشبت حرب أهلية صغيرة اقتصرت على موجة من إطلاق النار وبعث العداوات العائلية.
لبنان وقدره المشرقي
ليست شبعا في حالها هذه بين الأمس واليوم، مثالاً وحيداً أو فريداً، بل هي نموذج لما عاشه ويعيشه لبنان كله، من أقصاه الى أقصاه، في هذه المعمعة من الفوضى والتفسخ والاهتراء الضاربة والمتفاقمة في الدولة والمجتمع وبين الجماعات وساستها ومقدّميها، في حفلة تنكرية من تبادل الأحقاد والثارات والتحاسد والشكاوى والتذمر والنعرات المتناسلة، حتى فقدت هذه كلها موضوعها وبواعثها الأصلية، وأصبحت مركّباً بنيوياً يتغذى من نفسه ويعمل تلقائياً، ويندفع بقوته الذاتية كوباء سرطاني مدمر.
إنها حال مجتمعات وجماعات أهل الضعف والانقسامات الأهلية المزمنة، في بلاد نشأت دولها وكياناتها وروابطها السياسية المحدثة والمعاصرة على هشاشة وضعف بنيويين في تدبير شؤونها وإدارة انقساماتها ومصادر معاشها وتوزيعها.
الهشاشة والضعف المزمنان هذان، ولّدا مجتمعات وجماعات يلابسها ميل دائم، وخصوصا إبان الأزمات، الى الانكماش والانكفاء والتحصّن والتحاجز في روابط وهويات داخلية خاصة، من وجه أول، والى التوق المتأجج والمتقلّب للتواصل مع جماعات خارج حدود الدول “الوطنية”، للاندماج والذوبان فيها، من وجه آخر. نشأ عن هذا كله تحويل الانقسامات والعصبيات الأهلية المحلية، مصدراً لحيازة الجماعات القوة والنفوذ والسلطان والمعاش والارتقاء الاجتماعي والاقتصادي: تارة من طريق ديناميات اجتماعية داخلية تتمتع بمشروعية تاريخية، كحال المسيحيين اللبنانيين منذ إنشاء دولة لبنان الكبير. وطوراً من طريق قوة السلاح في أثناء حروب لبنان العروبية الأهلية – الإقليمية (1975 – 1990)، وصولاً الى الدولة المذهبية المسلحة النقيض، التي أنشأها “حزب الله” للاستيلاء بقوة السلاح العارية على الدولة والمجتمع اللبنانيين واستتباعهما لإيران “ولاية الفقيه” وجموحها الأمبراطوري.
من أركان هشاشة الدول والمجتمعات العربية المشرقية المحدثة والمعاصرة، وضعفها، أن جماعاتها تحمل انضواءها في دول “وطنية”، على آنية ظرفية موقتة، وعلى القسر والإرغام، معتبرةً أن ذلك الانضواء يُفقدها هوياتها الأهلية الموروثة الخاصة. وتصرّ الجماعات أيضاً على أن تتقاضى من الدول المركزية الجامعة الموحّدة (بكسر الحاء وفتحها) أثمان لجمها الظرفي الموقت لهوياتها، وتقنيعها وإخفائها. وذلك باعتبار أن تلك الدول ليست سوى دولٍ ريعية وظيفتها الوحيدة الرعاية والإعالة، وأن تستثمر فيها الجماعات مقدرتها على حيازة السلطان والريع والثروة والتصدر والغلبة، وإلا ليس من فائدة تُرتجى من هذه الدول ومن “وطنيتها” ومركزيتها. لذا تتوسل الجماعاتُ بانضوائها في الدول كذريعة لتوقها المحموم الى السيطرة، والى استتباع الجماعات الأخرى والتغلب عليها، ولبعث هوياتها الخاصة وطغيانها على هويات الدول “الوطنية”. أما إذا لم يتحقق هذا كله لهذه الجماعة أو تلك، فيصبح الانقلاب على الدولة وتدميرها مشروعها الوحيد.
هذه حال لبنان وجماعاته، وإن على تفاوت بين هذه الجماعات. وهذه حال الجماعات العراقية بعد تخليصها من طغيان صدام حسين الدموي الديكتاتوري. وهذه حال الطغمة الأمنية، أو العصابة الأسدية، التي اختارت تدمير الدولة والمجتمع السوريين، منذ أكثر من 40 سنة، وأطلقته عاصفة دموية مذ كتب أطفال في درعا على جدران ملعب مدرستهم شعاراً شاهدوه على شاشات التلفزيون مكتوباً على الجدران في القاهرة. وهذا ما فعلته الجماعة الحوثية اليمنية، أخيراً، فاستولت بقوة السلاح على العاصمة صنعاء، ومنها تنطلق للسيطرة على اليمن كله.
في لبنان عرف انقلاب الجماعات على الدولة محطات كثيرة. لكن المحطة الكبرى الاساسية التي أدت الى تدمير الدولة، تجلّت في إقدام جماعات واسعة من المسلمين على الخروج على العقد الميثاقي “الديموقراطي” الهش للدولة الدستورية اللبنانية، في سبعينات القرن الماضي. مذذاك انقاد لبنان الدولة والمجتمع الى قدرهما العروبي المشرقي. وها هي ذي دولة لبنان المتهاوية والمنهارة والمتآكلة، تجد نفسها اليوم مرغمة على استقبال اكثر من مليون ونصف المليون من اللاجئين السوريين، ساهم حزب دولة “ولاية الفقيه” الإيرانية في لبنان، بقتلهم وتدمير بلادهم وتشريدهم. وسط المعمعة الدموية المشرقية المتناسلة، استقالت الدولة اللبنانية، كعادتها في الأزمات الكبرى، من تحمل مسؤولية إدارة شؤون اللاجئين السوريين الثقيلة، تاركةً للمجتمع الأهلي وجماعاته المنقسمة والمتنازعة على كل شيء، أن تتدبر أمورها وأمور اللاجئين، حسب أهواء الجماعات الممزقة والمحتقنة والخائفة والمتخمة بأزماتها.
وإذا كانت الدولة اللبنانية الهشة والضعيفة منذ نشأتها، لم تقوَ على اجتراح حلولٍ لمشكلاتها ومعضلاتها البنيوية المزمنة، إلا على نحوٍ آني وموقت، فكيف يمكنها اليوم تدارك سقوطها في هوة الكارثة الدموية العامة التي تغرق فيها الدول والمجتمعات والجماعات في المشرق العربي؟!
بناء على هذا التشخيص القدري أو شبه القدري والمأسوي للدول والجماعات المشرقية، ربّ قائل إن ما هي عليه حال لبنان الآن، ليست أقل من جنّة، مقارنةً بالجحيم المجاورة في سوريا والعراق، وما على الجماعات اللبنانية اليوم سوى لجم انقيادها إلى تلك الجحيم. فهل يتمكن لبنان من تدارك القدر المشرقي الماثل؟
سيناريوات الخوف والرغبة
لا سبيل إلى الاجابة عن مثل هذا السؤال، إلا في ضروب من الكهانة والتنجيم.
بدايةً أرسل “حزب الله” مقاتليه لنجدة نظام الأسد، فشارك في تحرير القلمون من مسلّحيها وأهلها الذين لجأ معظمهم الى لبنان، وخصوصاً الى عرسال. منذ 3 سنوات لم يتوقف “حزب المقاومة” عن التباهي بقتلاه في سوريا أثناء تشييعهم الى مثواهم الأخير في ديارهم اللبنانية. ويبدو أن قواته تتولى السيطرة العسكرية على القلمون وصولاً الى تخوم مدينة حمص، لحماية ظهر قوات النظام الأسدي في دمشق. هذا ما أدى الى ما حدث ويحدث في عرسال وفي جرود بريتال، على تخوم القلمون. هذا بعدما أقيم في عرسال وعلى تخومها عدد من أكبر مخيمات اللاجئين السوريين. كما أن قرى عكار وبلداتها (نحو 250 قرية وبلدة)، لا تخلو واحدة منها من لاجئين سوريين، وصولاً الى طرابلس.
الحوادث الأمنية في بعض القرى العكارية وفي عاصمة الشمال، أطلقت المخيلات الاستراتيجية في صوغ سيناريوات تستلهم ما حدث في الموصل العراقية مثالاً لما يمكن حدوثه في عكار وطرابلس. وبعد تمكن جبهة “النصرة” من تحقيق تقدم عسكري في السيطرة على الحدود السورية في الجولان، أخذ يشيع السيناريو العرسالي مثالاً لما سيحدث في البلدات والقرى اللبنانية القريبة من الجولان، انطلاقاً من بلدة شبعا التي لجأ اليها ما يزيد على 5 آلاف سوري من قراهم على المقلب الشرقي من سفوح جبل الشيخ القريبة من الجولان. في أثناء تدفق اللاجئين وجرحاهم عبر جرود الحرمون، حصلت حوادث قتل وكمائن وثارات متبادلة بينهم وبين جيرانهم من أهالي القرى الدرزية السورية، غير المشاركين في الثورة أو الموالين لنظام الأسد. ترددت أصداء هذه الحوادث ومفاعيلها في القرى اللبنانية الحدوية المختلطة طائفياً، من دون أن تؤدي الى حوادث تذكر، بعدما تداعى وجهاء من هذه القرى، من دروز وسنّة ومسيحيين، الى اجتماع في قرية مرج الزهور، واتفقوا على تجنيب منطقتهم تداعيات الحوادث السورية. حصل ذلك قبل نحو سنة، ومذذاك لم يحدث قط ما يجيز شيوع السيناريو العرسالي، إلا في مخيلات ما يسمّى “دوائر القرار” في قوى 8 آذار وحزبها القائد، وربما في رغباته السرية أو الغامضة. وربما هذا ما حمل النائب وليد جنبلاط – الساعي منذ مدة في تدريب نجله تيمور على الخوض في معترك السياسة اللبنانية ومعمعتها، تمهيداً لتوريثه الزعامة – على القيام بجولته الأخيرة في البلدات الحدودية في جنوب لبنان الشرقي، من راشيا الوادي الى كفرشوبا، مروراً بشبعا. ذلك أن جنبلاط تستغرقه الحيرة والوساوس والسيناريوات الاستراتيجية، أكثر من سواه من الزعماء اللبنانيين، مما دفعه الى جولته في محاولة منه لتمتين أواصر التضامن بين تلك القرى والبلدات الحدودية المختلطة طائفياً.
أما محاولة إطلاق صواريخ من خراج مزرعة الماري الحدودية في اتجاه إسرائيل، أثناء حربها الأخيرة على قطاع غزة في تموز وآب الماضيين، فكان بطلها شيخ من قرية الهبارية السنّية، وهو مدرّس في إحدى كليات الشريعة الاسلامية التابعة في بيروت لـ”جبهة العمل الإسلامي” التي كان يرأسها الداعية الطرابلسي الراحل فتحي يكن، وتموّلها إيران. كان الشيخ المدرّس إياه من الناشطين في “قوات الفجر” الإسلامية التابعة مع غيرها من الجماعات الدعوية السنّية، لـ”حزب الله” منذ العام 2005. ومذذاك كان الشيخ يخزّن أسلحة وصواريخ في قريته الحدودية، فنصب الصواريخ مع شاب فلسطيني لإطلاقها في يوم من ايام الحرب على غزة، لكنها انفجرت قبل أن تنطلق، فأصابت الشيخ ومعاونه بجروح وحروق، فقبضت عليهما قوة من الجيش اللبناني ونقلتهما الى المستشفى العسكري في بيروت. في التحقيق مع الشيخ قال إنه يقاوم إسرائيل التزاماً منه البيانات الوزارية التي أجازت لكل مواطن لبناني الحق في المقاومة، فأُطلق بعد شفائه. وعندما ذهب الى قريته، رافقه موكب واستُقبل في القرية باحتفال حاشد مشهود.
الولي الفقيه والخليفة
يشيّع “حزب الله” قتلاه في الحرب السورية تشييعاً مشهوداً في قراهم وبلداتهم، بوصفهم “شهداء الأمة والواجب المقدس”، من دون أن يتجرأ أحد على التساؤل عن الفرق بين واجب الحزب المقدس هذا وأمّته، وبين واجب تنظيمَي “داعش” و”النصرة” وأمّتهما. يقاتل “حزب الله” بناء على تكليف شرعي من الولي الفقيه الإيراني، ويقاتل كلٌّ من “داعش” و”النصرة” في سوريا والعراق بصفتهما جند “الدولة الإسلامية” وخليفتها أو أمير مؤمنيها. فما الفرق بين الولي الفقيه وأمير المؤمنين؟
انتزع “حزب الله” شرعية دينية ومشروعية “تاريخية” موروثة في مقاومته إسرائيل. اللبنانيون المنهكون الغارقون في حروب أهلية واحتلالين شرسين متكافئين (سوري وإسرائيلي)، سكتوا على مضض عن هاتيك الشرعية والمشروعية، وجاروا حزب المقاومة فيهما مغلوبين على أمرهم، وظلّوا على هذه الحال حينما نقل الحزب نفسه قواته شرقاً، فاجتازت الحدود السورية، بوصفها قوات استراتيجية إيرانية في لبنان وسوريا. شأنها في هذا شأن قوات “انصار الله” الحوثية المستولية، أخيراً، على صنعاء، بوصفها القوة الاستراتيجية الإيرانية في شبه الجزيرة العربية، على ما كتب حسين شيخ الإسلام، مستشار رئيس مجلس الشورى الإيراني للشؤون الدولية، مبتهجاً في طهران. ثم تبعه في الابتهاج الرئيس الإيراني “الإصلاحي” حسن روحاني، فقال إن “هذا جزء من النصر (الإلهي؟) الباهر الذي تدعمه إيران في اليمن”. هذا فيما يتمتع الرئيس اليمني الجنوبي علي سالم البيض برعاية خاصة في حمى دولة “حزب الله” اللبنانية، حيث تملك جماعة الحوثيين اليمنية محطة تلفزيونية يشرف الحزب إياه على بثها.
إنه حزب – دولة إقليمية في لبنان. هذا ما يميز “داعش” و”النصرة” عن “حزب الله”، في ما يتعلق بمسألتي الشرعية والمشروعية في الحرب السورية وسواها. مصدر في قوته المعنوية وخبراته العسكرية، إيران وقتاله إسرائل. وهو منذ سنوات يعتمد على رصيده هذا لإذلال الجماعات اللبنانية الأخرى. كأن “تراثه” في مقاومة إسرائيل خدمة لسيدين إقليميين، وظيفته وغايته التسلط على الدولة والمجتمع. هو في هذا يختلف عن “داعش” و”النصرة”، وكذلك في كونه حزباً يتمتع ببنية تنظيمية متماسكة ومتمرسة ومتجذرة في الطائفة الشيعية وفي الجغرافيا والدولة والحياة السياسية والاجتماعية في لبنان، ولديه أتباع وموالون بين الجماعات اللبنانية، ويمتلك شبكات سرية واسعة الانتشار الإقليمي والدولي. تتميز هذه الشبكات عن الشبكات السرية للإسلام الجهادي، والإرهابي والانتحاري الإجرامي الأهوج، في أن شبكات “حزب الله” الدولية شديدة التنظيم والمركزية، وتعمل وفقاً لخطط “عقلانية” ولديها قاعدة خلفية راسخة ومتينة في لبنان وإيران. وهي شبكات دولية مافيوية منظمة ترتبط ببنية دولة لها استراتيجياتها المدروسة. على منوال مسيرة “حزب الله” في لبنان ينسج “انصار الله” الحوثيون في اليمن، قبل استيلائهم على صنعاء وبعده.
في المقابل، سراً وفي الخفاء، تعمل شبكات التيارات السلفية والجهادية في جيوب أهلية هامشية في لبنان. يتسلل أنفار منها للمشاركة في الحرب السورية. والشبكات السرية هذه تلابس الاحتقان العامي المذهبي السنّي رداً على سياسات “حزب الله”، وخصوصاً في طرابلس. ففي عاصمة الشمال اللبناني، كانت هذه الشبكات قد ظهرت للمرة الأولى، في حادثة الضنية الشهيرة في مطلع العام 2000، عندما كانت مخابرات الاحتلال الأسدي للبنان تستعمل تلك الشبكات لتفجير حوادث إرهابية وأمنية، فتعتقل المخابرات بعد ذلك عناصر الشبكات تحسيناً لصورة الإحتلال في دوائر الإعلام والسياسات الغربية، عشية الحرب الدولية على الإرهاب، وغداتها بعد غزوة “القاعدة” في 11 ايلول 2001.
بعد إجلائه جيشه ومخابراته من لبنان مرغماً عقب اغتيال رفيق الحريري، وسّع نظام الأسد استعماله تلك الشبكات، فحدثت تفجيرات واغتيالات مشهودة، وصولاً الى اندفاع جماعة “فتح الإسلام” الإرهابية الى مخيم نهر البارد قرب طرابلس. وعندما شنّ الجيش اللبناني حملته العسكرية على تلك الجماعة، ظهر السيد حسن نصرالله خطيباً ليقول إن “مخيم نهر البارد (أي “فتح الإسلام” ضمناً) خط أحمر”. في قوله هذا، كان السيد ينسج على منوال شريكه النظام الأسدي في رغبته ودعوته الى ترك تلك الجماعات وأمثالها تتمدد وتتناسل شبكاتها، لاستعمالها لغايات وفي أعمال شتى، حسب الظروف والفرص السانحة.
من هذه الغايات إضعاف الجماعات الأهلية والتيارات السياسية المدنية السنّية اللبنانية، وحملها على الاحتقان، ثمّ تجويفها من داخلها، ووصمها بأنها “حاضنة للإرهاب”، لأنها تقف عائقاً في طريق سيطرته على الدولة والمجتمع اللبنانيين. هذا ما فعله تماماً “حزب المقاومة” و”سراياه” المزعومة في صيدا، بعد بروز ظاهرة أحمد الأسير السلفية الفولكلورية في الاحتجاج على ممارسات “حزب الله”، قبل تسمين تلك الجماعة وتحويلها جماعة مسلحة. هذا ما فعله النظام الأسدي في الوقت نفسه، جبهاً للثورة السورية السلمية للخلاص من ديكتاتوريته المزمنة.
كان الإسلام الشعبي، والسلفي غير المسلح، من التيارات الحاضرة في الثورة السلمية السورية، الى جانب التيارات الشبابية المدنية غير المتدينة. ظلت أجهزة الأمن الأسدية تُعمِل القتل والسحل والتنكيل والاعتقال والتعذيب والترويع في المتظاهرين السلميين طوال شهور، لدفعهم الى حمل السلاح، فحملوه لحماية المتظاهرين. إذذاك دفع النظام وحدات جيشه المدرعة، فاجتاح المدن والبلدات والقرى الثائرة، وأعمل فيها القتل والتدمير، فغادرها ألوف، ثم ملايين من النازحين. في الأثناء أطلق الأسد من سجونه أنواع السلفيين الجهاديين كافةً، الذين كانت معسكراته الأمنية وشبكاته المخابراتية تستقطبهم من سوريا ومن سائر الديار الاسلامية، فتسهّل اجتيازهم الحدود السورية الى العراق في أيام أبي مصعب الزرقاوي وفي أثناء حروب العراق الأهلية، قبل انسحاب جيش الاحتلال الاميركي منه وبعده. على أنقاض “الجيش السوري الحر” وفصائله الشعبية وإسلامها الشعبي التقليدي والسلفي غير الجهادي، ولدت “جبهة النصرة” الفرع السوري لـ”القاعدة”، وولد “داعش”. هكذا تحققت الاستراتيجيا المدمرة لنظام الأسد الذي أشاع منذ بداية الثورة عليه أن الثائرين السوريين ليسوا سوى ارهابيين.
“حزب الله” بدوره، لا يتوقف عن وصم اللبنانيين من معارضي سياساته وحروبه في لبنان وسوريا، بأنهم إما “حواضن للإرهاب” وإما إرهابيون. أما ما فعله جيشه في الديار السورية قبل أن يظهر “داعش”، فلم يكن سوى عمليات إنقاذ إنساني للشعب السوري: تقديم الإسعافات الطبية للجرحى السوريين، والمعونات الغذائية للمشردين. ذلك كي يعيش الشعب السوري هانئاً الى الأبد في أحضان الأسد التي تمنحه الأمن والسلام والحرية والكرامة.
فحزبٌ أسطوري مقدس مثل “حزب الله”، يستحيل أن تعلق في أحذية مقاتليه الأسطوريين ذرة غبار من الإرهاب، على ما قالت شابة سورية من القصير في ريف حمص. وذلك فيما هي تروي بعضاً من أفعال “رجال الله” هناك، حيث يقومون باستعمار استيطاني للديار التي نزح عنها أهلها وتشردوا في ديار الله الواسعة.
mohamad.abisamra@annahar.com.lb
* كاتب لبناني من شبعا