“وَأَنٌَ الله لا يِهدي كَيدَ الخآئِنين”
قال شداد لعبده عنترة، وقد أحاطت به جيوش الأعداء: “كر يا عنترة”. لكن عنترة أجابه ببرود اعصاب.. “العبد لايحسن الكر، ولكنه يحسن الحَلّب والصّر”. لم يكن عند عنترة ما يخسره سواءً نجحت جيوش الأعداء في الإستيلاء على مضارب القبيلة أم لم تنجح. ففي كل الأحوال هو عبد، وما دام يُحسن عمله ويُتقن الحَلّب والصّر فلا فرق عنده في أن يحلِب ويصرّ لسيده شداد أو لأي سيدٍ آخر سيحل محله. ولذلك لم يكرّ عنترة ولم يُحرك ساكناً، حتى قال له سيده “شداد”، الذي فضل أن يخسر عبده عنترة على أن يخسر كل شي: “كر يا عنترةُ وأنت حر”! وهنا أختلف الأمر، وكان عند عنترة سبب وجيه يقاتل لأجله ويكرّ، وهو حريته.
العبدُ هو العبد. سواء كان عنترة في الأزمنة الغابرة أو كان مواطناً عربياً في أزمنة الإستعباد هذه. العبد دائماً وابداً لا يحسن الكر. العبد دائما وأبداً لا يحسن إلا الحلب والصّر.
حالُ الإنسان العربي كحال ذاك الإنسان الذي إحتل أحدهم بيته, واستولي على كل مقدراته, وسلبه كل شيء. فسَمِع صوت إستغاثة من بيت جارته فاستأذن الذي يحتل بيته في أن يقفز وينط ويحط ويتوعد مُحتل بيت جارته بالويل والتبور، ويَعدُ جارته بنصرتها والقتال معها لاسترداد بيتها. جارته تعلم أنه كاذب، ومُحتل بيت جارته لا يأبه لتهديده ولا لوعيده، لأنه يعلم أنه لو كان سيقاتل لقاتلَ لأجل إسترداد بيته أولاً.
لذلك، فإنك لا تعجب أن أعداء هذه الأمة لا يقيمون وزناً لشعوبها، ولا لخروجهم مُرعدين ومُزبدين، لأنهم يعلمون أنها شُعوب من العبيد لا تحسن القتال ولا فنون القتال وإلا لاستخدمتها في تحرير نفسها من مستعبديها. إن هذه المناظر المتكررة لهذه الجموع التي تنزلُ للشوارع تُرعد وتبرق ولا تمطر، وكل هذه الكتابات النارية والقصائد المشتعلة، أصبحت تثير الشفقة أكثر مما تثير الحماس وتلهب المشاعر.
إن تكرار هذه المشاهد لم يعد يدفع الا الي القرف. تضرب إسرائيل هنا أو هناك. تخرج الجموع مهدد ومتوعدة. يكتب الكُتّاب، تُؤلَّف القصائد، تنال إسرائيل ما تريد، و يعود المواطن العربي إلى بيته. يتناول عشاءه على مناظر الدماء والخراب الذي خلفته إسرائيل، يحوقل ويقوقل، ثم يذهب إلى مخدعه ويضاجع زوجته وينام. في إنتظار جولةٍ جديدة لإسرائيل.
أيها السادة: من عجز عن تحرير بيته هو أعجز من أن يحرر بيت جارته. من خسر وطنه ولم يكن قادراً على استعادته، هو أعجز من أن يُعين الآخرين على إستعادة أوطانهم.
إن الاذلال ليس له هوية، والإنسان أحدُ أمرين: اما أن تكون له طبيعة لا تقبل الإذلالأ وهو بذلك لن يقبله من أحد، سواء من عدوّه أو من أخيه إبن أمّه وأبيه. أو أن تكون له طبيعة تقبل الإذلال، وهو بذلك سيقبله من كل من هبَّ ودب.
المواطن العربي الذي يغضب ويثور لأجل الدماء التي تسفكها إسرائيل في غزة ولأجل كرامة المواطن الفلسطيني التي تُنتهك، لم يغضب للدماء التي سُفكت في شارعه وقريته وساحة مدينته. ولم يغضب لكرامات ابناء وطنه التي أُنتهكت. بل لم يغضب لكرامته الشخصية التي تُهان وتداس كل يوم، ليس بيد إسرائيل، ولكن بيد الأشاوس الذين يحكمونه.
إن إغفال المواطن العربي لحقائق واقعه، وإغماض عينيه عن أعدائه الحقيقيين، وذهابه للبحث عن أعداء وراء البحار، لن يؤدي إلا إلى استمرار هذا الواقع المُخزي والمُزري الذي يعيشه.
إن صهاينة إسرائيل اغتصبوا فلسطين وشردوا أهلها. لكنهم ليس لهم علاقة لا من قريب ولا من بعيد باغتصاب وطنك، وتشريدك، وتحويلك إلى مواطن مسخرة. بل إن الذين فعلوا بك ذلك هم أعداء إسرائيل، والذين وصلوا للحكم تحت شعارات محق وسحق إسرائيل وازالتها من الوجود.
إن صهاينة إسرائيل وحكامها يخجلون من فعل ما فعله الصهاينة العرب الذين يحكمونك. فصهاينة إسرائيل، بكل أحقادهم على الفلسطينين، لم يقصفوا قراهم بغازات الاعصاب ويفنوا عشرات ال’لاف. ولم يزيلوا قرية من على وجه الأرض لأن احداً أطلق النّار على أحد قادتهم. ولم يدفنوا الفلسطنيين أحياء في قبور جماعية، ولم يُقدموهم لكلاب الصيد ويجلسون ليتسلوا بمشاهدتها وهي تبتلعهم قطعة قطعة، كما فعل صهاينة “تكريت” والذين لا يزال المواطن العربي يبكيهم ويعدهم ضمن أبطاله القوميين.
صهاينة إسرائيل رغم دمويتهم لم يتخلصوا من السُجناء الفلسطينين، ويدفنوا ألف ومائتي إنسان تحت جدران سجنهم وخلال ساعات نهارٍ واحد. ولم يحقنوا أطفال فلسطين بـإبر “الإيدز”. ولم يُسقطوا الطائرات المدنية بصواريخهم. ولم يُدْخلوا مرتزقتهم إلى المُدن الرياضية ليفتحوا النّار على أكوام اللّحم المُتراصة لأن احدهم عيّرهم بأبيهم أو أمهم. صهاينة إسرائيل لم يغيبوا “محمود درويش”، ولم يقطعوا أصابع “سميح القاسم”، ولم يرسلوا كلاب صيدهم لتتصيد الصُحفين الفلسطينيين في منافيهم. صهاينة إسرائيل قتلوا أعداءهم وطاردوهم بالطائرات، لكنهم ابداً لم يمثلوا بجثث الفلسطينين، ولم يحملوها في عربات القُمامة ليلقوا بها في الساحات العامة ليتقافز عليها السفلة والمنحطون كما فعل صهاينة “سرت” الّذين يحكمون ليبيا!
إن قادة إسرائيل الصهيونية يُحاكمون ويُجرجَرون إلى المحاكم لأجل بضع آلاف اختلسوها. ويُجبر رؤسائهم على الإستقالة لأنهم تحرشوا بشرف موظفة تعمل في مكتبهم, أما صهاينتك العرب فلا يحاكمهم أحد، وهم الّذين سرقوا ثراوات شُعوب باكملها، ولا يجبرهم أحد على الأستقالة، وهم الّذين تحرشوا بل إنتهكوا شرف أمةٍ بأكملها.
هذا ليس صك براءة لإسرائيل، ولا تبرئة لها! فاسرائيل “لعينة”، و”بنت ستين كلب” و”ملعون أبو الّذي خلّفها”، إن كان هذا يُرضيك! لكنك، ومهما وضعت أصابعك في آذانك، واستغشيت ثيابك، وأصررت واستكبرت استكبارا، ومهما أوتيت من حِيل وأفانين الإستعباط، فلن تفلح في أن تمنع هذه الحقائق من أن تصدم عقلك. إن كنت تمتلك واحداً!
إن بقاء المواطن العربي يُكفر ويُخون كل من يطرح عليه رؤيا مخالفة لرؤيته، ويحاول فتح عينيه على واقعه المُزري والمُخزي. وبقاءه يهزُ رأسه ويجدب وراء كل من يقرع له الطُبول ويضرب له بالدف، وبقاءه يختار قادته وأبطاله بحسب ضخامة حناجرهم، وعرض مساحات أصواتهم، بقاءه في هذا الحال لن يزيده الا تردياً في هذه الهوة السحيقة التي يتردى فيها مند قرون.
إن طرح رؤية مغايرة لرؤية “حماس”، أو “حزب الولي الفقيه”، لاتعني كراهيتهما، ولا تمنّي الهزيمة لهما أمام إسرائيل. الأمرلا علاقة له بالكره والحب ولا بالعواطف، إنما هو إستخلاص العِبر والدروس من تجارب الماضي والوصول إلى ثوابت نحكم من خلالها على كل طرح أو رؤيا تُقدم من أياً كان.
إن قيم النضال والكفاح وكل القيم السامية لا تولد من رحم الخيانة, وحملة هذه القيم لا يصلون إلى تحقيقها عبر الخيانات ونكث العهود والمواثيق تحت مبررات وذرائع شتّى.
إن ما فعلته “حماس” و”حزب قم” من إنقلاب على الشرعية والدستور وإزهاق روح تلك الديمقراطية الوليدة في بلادهم هو ذاته ما فعله العسكر قبل أكثر من نصف قرن، ولا تزال هذه الأمة تعاني ويلاته حتى اليوم.
“الإنقلابجية” الّذين سحقوا الديمقراطيات الوليدة في بلادهم، وخانوا الدساتير التي أقسموا على حمايتها، ونكثوا أيمانهم تحت شعارات القومجة الفارغة، نرى الآن ما الّذي انتهوا إليه هم وشعاراتهم من جمهوريات تُوَرَّث، وطواغيت يحكمون بقاعدة “أنا ربُكم الأعلى”! ونرى أيضاً بوضوح ما انتهت إليه فروسياتهم وبطولاتهم التي طالما صفق لها المواطن العربي وهتف.. من ذاك الّذي انتهى به الأمر إلى حفرة بعمق ستة أمتار في قاع الأرض، إلى هذا الصقر العربي الوحيد الذي يريد أن يطلي وجهه بالسواد لأنه كفر بقومية العرب وصار افريقياً! وإن قادة “حماس” و”حزب الإغتيالات”، إن ظلوا في السلطة، سينتهون إلى ما إنتهى إليه هؤلاء العسكر.
لقد عانت هذه الأمة من أؤئك “الإنقلابجية” المرارات. وخسر الإنسان العربي نفسه ووطنه. ووصل إلى الكفر بكل تلك الشعارات. وإن ما نراه الان من إعادة ذات التجربة تحت مسميات وشعارات دينية سيوصل المواطن العربي للكفر بهذا الدين.
“الإنقلابجيه” ذبحوا المواطن العربي بِتُهم الخيانة والعمالة للعدو، وجعلوه يخسر دنياه فحسب. أما هؤلاء القادمون بشعاراتهم الدينية فلن يكتفوا بأن يخسر المواطن العربي دنياه فحسب، بل سيحجزون له مكانا دافئا في جهنم أيضا!
علي هذه الأمة أن تتعلم من تجاربها، وأن تعلم أن النكث بالعهود وخيانة الأمانة لا يؤسس لا إلى أبطال ولا إلى بطولات. فمن يَخون مرة، يخون مرتين وألفاً، والذي أوجد المبررات لخيانته الأولى سيوجد المبررات لخياناته اللاحقة.
إن قادة “حماس” لم يصلوا إلى السلطة بالقوة، ولا بصواريخهم المُضحكة. بل وصلوا باصوات الشعب الفلسطيني، ووفقاً لدستورٍ أقره الفلسطينيون. ولقد أقسم قادة “حماس” بالله على حماية هذا الدستور والعمل بمقتضاه. وهم أولى بحفظ أيمانهم على اعتبار أنهم ينطلقون من مُنطلقات دينية، ويحملون شعار “الإسلام هو الحل”! والإسلام يمقت الخيانة، ويأمر أتباعه بالوفاء بعهودهم حتى للمشركين. والسادة قادة “حماس” الّذين يُطلقون لحاهم إقتداءً بالنبي الكريم، كان عليهم أن يقتدوا به فيما هو أهم من ذلك. كان عليهم ان يقتدوا به في حفظ أماناتهم وعهودهم، كما حفظ هوَ أمانات كفرة قريش في حين كانوا ينبشون الصحراء حجراً حجرا طلباً لراسه، ولم يوجد الدرائع ولا المبررات لخيانة أماناتهم تلك.
لقد استأمن الشعب الفلسطيني قيادات “حماس”، وحمّلها هذه الأمانة، وما كان لها أن تخون أماناتها تحت أية درائع أو مسميات. إن ذات الدستور الذي أوصل “حماس” إلى السُلطة يعطي الحق لرئيس السُلطة أن يُقيل الحُكومة. ولقد استعمل الرئيس عباس صلاحياته التي منحها له الدستور، وما كان لقيادات “حماس” إلا أن تمتثل لذلك. فإن كانوا يرون عدم صلاحية عباس وقيادات “فتح” لقيادة الصراع في هذه المرحلة، فقد كان عليهم أن يعودوا إلى الشعب الفلسطيني، وأن يقنعوه بذلك، وأن يطرحو البديل، ويحشدوا له أصوات النّاس. فإن إختار الفلسطينيون نهج عباس وحركة “فتح”، فليس لـ”حماس” ولا لغيرها أن تفرض عليهم رؤيتها بالقوة، وتدخلهم في مجازر خاسرة، وتلحق بهم كل هذا الدمار والخراب مقابل اللاشيء.
لقد تمت السمسرة بأرض فلسطين تحت هذه الشعارات حتى لم يتبقى من تلك الأرض غير هذه الأشبار المعدودة. والأن، تتم السمسرة بدم الإنسان الفلسطيني حتى لا يتبقى قطرة واحدة من هذا الدم.
لقد شبِع الإنسان الفلسطيني من الهزائم، ومن بدل دماء ابنائه بلا مقابل. وهو يريد الآن أن يبني له وطناً على هذه الاشبار المُتبقية، وأن يُعلم ابناءه ويوفر لهم حياة كريمة، وأن يُنشىء مواطناً قادراً على إيصال قضيته العادلة إلى العالم، والحصول على مساندة الآخرين لاستعادة ما يستطيع من وطنه المُغتصب.
إن الإنسان العربي بحاجة لأن يكفّ عن التمسح بقضية فلسطين، وأن يلتفت لقضيته الشخصية، وأن يعرف أعداءه الحقيقيين الّذين يدمرون حياته ويخربون وطنه. وأن يكف عن البحث عن أعداء وهميين وراء البحار. إن تحرير فلسطين أو بقاءها محتلة لن يضيف شيئا لواقع الإنسان العربي.
إن قضية فلسطين ليست قضية الإنسان العربي المركزية كما يحاولون إيهامه. إن قضية الإنسان العربي المركزية هي الإنسان العربي ذاته. تلك هي قضيته التي يجب أن يُقاتل لأجلها وينتصر فيها. ما يحتاجه الإنسان العربي هو تحرير نفسه ووطنه من مستعبديه، وإقامة أوطان على شرائع تُقدس الإنسان وكرامة الإنسان، وتضمن لقمة العيش الشريفة له ولأطفاله.
إن الإنسان العربي الذي يأتي إلى هذه الدنيا ويذهب ولا هم له إلا المحافظة على رأسه بين كتفيه، والنجاة من سيف جلاده، وتأمين لقمة عيش ذليلة له ولابنائه ،يجب أن يخرج من هذه المرتبة المتدنية من مراتب الإنسانية والتي يشترك فيها الإنسان مع كل دواب الأرض وبهائمها. يجب أن يرتقي بنفسه في سلّم إنسانيته إلى المراتب المُخصصة للإنسان، مراتب تحقيق الذات والإبداع والخلق، ليواجه نفسه ويرى ما إن كان لديه ذات تستحق أن تُحقق، أو لديه أية إضافة جديدة لهذه الحياة. فإن وجد أن لديه ما يقدمه، فبها. وإلا فـليكف عن جعجعاته ويجلس في الصفوف الخلفية بهدوء ليتعلم من الاخر كيف يفعل ذلك.
فإن وجد نفسه عاجزاً عن تحقيق ذاته بنفسه، وعجز أيضاً على التعلّم من الآخرين كيف يفعل ذلك، فليذهب إلى الجحيم! وليُرِح الدنيا من صوت صفيره ونعيره وصراخه وشكواه الدائمة والمتكررة من كل شي، وبقائه في خانة المفعول به، وتعليق خيباته وعجزه على “الآخر”. ذلك “الآخر” الذي يتهمه مرة بأنه يريد غزوه ثقافياً، ومرة بأنه يُريد سرقة أشيائه الثمينة، ومرة بأنه يُريد تدنيس مقدساته! فبالله عليك أيها الإنسان العربي، باللهِ عليك ما الذي تبقى في تلك الأوطان من أشياء ثمينة يطمعُ الاخر في سرقتها، والإنسان والذي هو أثمن ما في الوجود عنقه أرخص من عود ثقاب فيها..؟ ما الذي تبقى لديك أيها الانسان العربي من مقدسات يُريد الاخر تدنيسها، وأنت، أنت الإنسان قُدسُ أقداس هذا الكون مُدنَّس ومُداس بالنِعال دون أن يرثي لك أحد، أو حتى بدون أن ثرتي لحالك؟
alkhaliiifiiy@hotmail.com
* كاتب ليبي