قد يكون صداميا أن أستثمر ذكرى موت ” أرنستو تشي غيفارا ” في جبال بوليفيا الوعرة وبين حفنة مقاتلين، لأقول: إنّ المقالة التي قارن أدونيس فيها بين ” غاندي ” روح الهند ورحيق كنوزها المشرقية المهيبة، والمقاتل الأرجنتيني، ووزير الصناعة الكوبي، والطبيب ” غيفارا ” لم تكن سوى قدح صوان في أوراق خضراء، وتعبيرا صارخا عن ثلم في التفكير.
لا أريد هدهدة أولئك الذين وضعوا صور ” غيفارا ” على قمصانهم، ولن أرتجف أمام بشر بوأوه مكانا في نقيّ عظامهم، أو أسكنوه أفياء قلوبهم، وسأقول في ذكراه تحديدا: لم يكن رجلكم سوى غضب وعنف تحرّك على قدمين، بينما كان ” غاندي ” ملاكا تفضّل على الأرض عندما سار عليها ليصقل وجهها بالحكمة، وستظل هذه الأرض، التي هرمت حقا، تتساءل في سرّها: كيف قيّض لها أن تكون أمّا لكليهما؟ تساؤلها المنصف هذا، فرضه حسها المفرط بالمسؤولية، أما خلاصة” أدونيس ” التي نجمت عن مقارنة ظالمة مظلمة فلا معنى لها.
أقرّ أننا تكاد تهدّنا الحيرة؛ ضوء نفيئ إلى دفئه، وذراع يلوّح لنا مزمجرا متوعدا أنّه سيستعيد لنا الكرامة، ويرسم صور الغد الخلاّبة بدمائنا وبالقنبلة، فيحملنا على أوردته المنتفخة، ويقذفنا إلى جهنمه بطرفة عين..
ولكنّ لغة الغابة ليست من جنس لغة البشر، والتاريخ لا يسوّغ لنا بثوانيه وسنواته وقرونه الطويلة المتطاولة، أن نرضى للمعادلة البسيطة هذه أن تنقلب رأسا على عقب، فعلى الرغم من أنّ العنف كتب أهم فصول التاريخ، وأن التغيير بالعنف كان وما زال سمة ترافق قطعان البشر، ومصنعا كئيبا للدساتير البديلة وعقود التفاهمات الاجتماعية الجديدة عبر العصور، أداره القتلة، وأولئك الممتنون للقتلة…إلا أننا نستمر في العيش، ونستأنف التعايش بعد انقشاع آخر دورة عنف، وفي استمرارنا زلزلة لتربة العنف وجذوره وجذوعه، وعصف بأوراقه وثماره، وفي استئنافنا التعايش ثقة أننا سننقض صبيحة الغد على ماضينا، لنكبل تلك الأذرع التي تتطلع إلى التلويح مجددا، لا لنقطعها، بل لنستفرغ الدم الأسود من شرايينها، ونحيّد النواة العنيفة خارج الخلايا، نثق، ولأننا نثق، نعيش، ولا مسوّغ لغدنا إن لم نصممه على قوالب ما نثق فيه…
مذ أطبقت السلطات على رقاب مواطنيها والتغيير همّ يلاحقها، فالمجتمعات تطرحه بدءا عوزا ومطلبا، ولكنّه يتدهور إلى حضيض سبب للخصومة والانقسام والحروب والتسويات، ويسفر باستمرار عن صباحات جديدة مؤقتة، لا يموت التغيير تحت شموسها بل يتوّهج. ولأنه سرّ يلاحق علاقات الحاكم بالمحكوم، فإنّ التغيير غدا بؤرة لتعبيرات مجتمعية متباينة، ومصنعا للنظريات المتجاورة والمتوازية والمتقابلة، استطاع العنف بما يطويه من أسرار، أن يجد لنفسه موطئ قدم بين سطورها وميادينها، فامتشق المفكرون والمغامرون والطماحون سلاحا، أو راحوا يحضون على امتشاقه، وصار العنف في غفلة القلم واللوحة والمسرح والموسيقى موضعا للجدل، ومضمارا للتنابذ.
بيد أنّ الناتج الإجمالي للحضور المنفّر للعنف لم يكن مرّة واحدة إيجابيا أو حميدا، وبعبارة أخرى، ليست روسيا التي تجتذب اليوم أموالا لا تأبه لمصادرها، وتنحو في تكتيكاتها السياسية منحى ابتزازيا ومافيويا بحثا عن نموّ اقتصادي يعيد لها ألقها في العالم، إلا تجليا مثيرا للسخط لعنف رافق سقوط القيصرية وحروب توزعت حول العالم نجمت عن انهيار ورثتها، ولم يؤد العنف الذي مارسته الولايات المتحدة إلى ديموقراطية شرق أوسطية مستقرة وجاذبة، وأدت العسكرة والمعارك إلى زعزعة التربة الهشة، واستخراج أحقادها وصراعاتها الأشد تخلفا، وتكشير الجنون عن أنيابه.
لست أدري حقا إذا كنا بحاجة إلى تذكّر أنّ العنف لا يؤدي إلا إلى عنف مضاد، فاقتتال مجاهدي أفغانستان بعيد سحل نجيب الله في شوارع كابل ما زال في الذاكرة، وصعود واختفاء، ثم صعود طالبان أجج الحروب والأحقاد، وأوهن محاولات النجاة بهذا الوطن البائس إلى حدود مضنية، ولم يفعل ” العنف الثوري ” المثير للسخرية في البيرو وبوليفيا وكولومبيا إلا شقّ الدروب أمام تجار المخدرات وملوكها اللاتينيين لتحسين ظروف تجارتهم، وحصدت ثورية إفريقيا مئات الألوف من البشر، وفاقمت جوع الأحياء وتخلفهم… ولم تؤدّ عسكرة الانتفاضة الفلسطينية إلا إلى الانتقاص من هيبة المشروع التحرري وانقسام جيوسياسي موتور ودمويّ، أيعقل أننا ننسى حقائق التاريخ البعيدة، ونعاند ما نراه بأم الأعين؟!
العنف هو العنف، وتشكّل الدول وتغيير معادلاتها التكوينية، وانتقال السلطة من قبضة إلى أخرى، لا يسوغ اللجوء إليه، وكوبا التي ” حررها ” ” غيفارا ” وأسس فيها نظام الأخوين:
” فيدال ” و ” راؤول ” يخوض كوبيوها البحر ومخاطراته ليغادروها! وانقسام الكوريتين الذي نجم عن ” العنف الثوري ” سلب الكوريين الشماليين كراماتهم، وعزز سلطة استبدادية حوّلت مواطنها الكوري إلى عبد أبكم نحيل الجثة، ينشد القفز إلى بطاح المريخ تخلصا من أغلال
” محرره ” ” كيم إيل سونج ” و ” حكمة ” نجله!
ما أكثر الشواهد على فساد العنف، وما أصعب أن يضطر المرء إلى الاستشهاد هنا وهناك لإثبات حقائق بسيطة ومباشرة يواجه بها من تظل أوردته متنفخة وقبضاته تلوح في الهواء على إيقاعات خطب إجرامية حماسية، ما أشقى أن نضطر إلى خطاب طفولي الملامح فنواظب على التذكير بأن الاقتصاد والفنّ والسعي نحو البشرية التي لا تتفاهم مع الغابية في شيء، أولى بالحماسة، وأنفع لأبنائه وأبنائنا أيضا!
قاوم المرحوم ” إدوارد سعيد ” عنف أمريكا، وعرّى طيب الذكر” نعوم تشومسكي ” ميول قواها السياسية إلى العسكرة والهيمنة عبر العالم بصور راكمها مفكرون وموسيقيون وسياسيون وشعراء وخبراء اقتصاد؛ فاستحالت ضدّا أميركيا واسع الطيف، متعدد العناصر، يكاد بعد معاندة وصبر وثبات أن يساوي دولة أخرى تنتصب ضمن وضد الدولة، ومن يضمّ الشعبية المتعاظمة ل” رالف نادر ” في أمريكا، وتحسّن الحاضنة الانتخابية للدكتور” مصطفى البرغوثي ” في فلسطين، واضطرار الحكومة الفاشية في بورما إلى طلب مفاوضة زعيمة المعارضة البورمية: ” أونج سان سوكي ” إلى مسيرة ” سعيد ” و” تشومسكي ” وأضرابهما يستخلص أنّ مقاومة العنف بالخيارات السلمية يضع الأشياء والبشر على تخوم تغيير إنسانيّ ينضح أملا لا أحقادا، ويفيض فرصا ولا يطوي في رحابه ثأرا ومرارات، أما التغيير بالعنف فلا يسفر عن أفق مبشّر؛ لأنّ حاجات المنهزم بالعنف الثوري إلى انتقامات سوداء تسدّه بجبن وجلافة.
أما توصيف المقارنة الأدونيسية بين” غيفارا ” و” غاندي ” بثلم في التفكير فليس مردّه بطبيعة الحال إلى تلكؤ الرجل في رفض العنف وإدانة أشكاله جميعا، أبدا، فلم يكن لأدونيس أن يتأخر عن نبذ أصغر تجلياته، وإنما الثلم في المقارنة ذاتها، ولعلّها المماهاة بين واقع سياسي يشطر أبناء الشرق الأوسط، والعرب أكثريتهم، إلى ” غيفاريين ” و” غانديين ” هي ما تسبب لأدونيس بالانزلاق إلى حضيض هذه المقارنة التي تنبذها البداهات البشرية قبل أن ينفر منها الرافضون بعزم حسبان العنف وسيلة تغييرية.
أقول: لعلها المماهاة، وليسامحني ” أدونيس “، فأنا لا أصدق أنّ الانقسام العمودي هذا الذي نلتمسه في خطاب السياسيين والمفكرين والفنانين أيضا، هو المسؤول عن اضطراره للمقارنة بين عالمين متنابذين لا فضاء واحدا يجمعهما، فالمهاتما ” غاندي ” حكيم عميق، والدكتور غيفارا ثائر سطحيّ، والمهاتما روح مشرقية تنشد الانسجام مع الآخر، أما ” غيفارا ” فمادّيّ في موتنا وموته وفي حياتنا بعناصرها جميعا، وخصم للآخر الطبقيّ والفكريّ إلى حدود القتل، لا مجال للمقارنة، عار أن أورّط نفسي أيضا في مقارنة.
نعم، أنا لا أصدّق مسوّغ أدونيس فليس في تمحور شعوبنا حول خياري: السلاح والسلام ما يفضي إلى هنا، وما تزال قصيدة أدونيس العصماء التي كتبها بعيد انسحاب القوات العسكرية الإسرائيلية من الجنوب اللبناني، تهزّ مسامعي بإنشائيتها الفخمة، وطنين تشجيعنا على حماية حزب الله المسلح والإقرار بجدوى أسراره، لا يفارق ذاكرتي أبدا أن الشاعر قرأ السلاح في تلك الليلة على نحو لم ينضح عن ظاهر مقالته هذه….
بل إنّ ” أدونيس ” عثر بعد ذلك بسنة كاملة على شعرية في صورة برجي التجارة العالمية اللذين انهارا بفعل هجمات إرهابية عنيفة، وعلى الرغم من إدانته ذلك الإرهاب ورفضه تلك الجريمة، إلا أنني لا أستطيع نسيان أنّه أردف قائلا أنّ ثمّة شعرية في الصورة التلفزيونية لمشهد انهيار المبنيين جذبته وأثارت إعجابه، والعثور على قافية أو نبض أو حلم في صورة برجي التجارة العالمية لحظة اجتياحهما الصاعق، أو الظفر بما يثير أي لون من ألوان الإعجاب لدى انهيارهما المفزع، أمر بائس بما فيه الكفاية.
يستمد الرأي بؤسه من التجاور البغيض الذي يعيش وعثاءه الشرق أوسطيون بين خياري السلم والحرب، وكأن تجاورهما سمة وقدر، فإذا كان” أدونيس ” يعيش أيضا آلام التجاور ولم يستطع النجاة بجلده من هذا الجحيم، ولم يتخلّص من حيرته وتردده بين طريقين للتغيير إلا مؤخرا، عندما قال: إننا مدعوون إلى النهل من ” غاندي ” وتجنب ” غيفارا “، وعلى جناحي مقارنة ظالمة تنتفي موضوعيتها لأنها تنوء تحت ثقل تباين طرفيها الغريب، أفلا يجوز إذن أن ننظر بعينين متسامحتين إلى أبنائنا الذين تجلدهم الحيرة، عندما تقضّ مضاجعهم رؤى المستقبل الغامض، وتدفعهم إلى وسيلتين معروضتين خلف زجاج واحد هشّ وشفّاف؟!
أقسى من ذلك، فإنّ المقارنة أغرت مؤيدي العنف فتسللوا إلى مخدع ” أدونيس “، وصبوا بذاءاتهم على ملاءاته، ثم نثروا سمومهم تحت وسادته، ولقد قرأت لرشاد بو شاور مقالة يرفض فيها خيار” أدونيس ” السلميّ ويحضّه على تلمّس إنجازات الدم! لم لا؟ فقد وضع الشاعر والمفكر ” غاندي ” و” غيفارا ” على محك الجدل والمناقشة والمقارنة، وليس بمقدوره أن يرفض النتائج المتضاربة، أو يعترض ضيوفه عندما يتخيرون ما يروق لمستويات آدميتهم!
” أدونيس ” الذي تخسره نوبل عاما بعد عام، الشاعر والمفكّر يكشف أنّه اختار للتوّ، بعد لأي اختار، ولقد أنفق سنواته التي قاربت الثمانين في مقارنة محزنة مضنية. شعر ونثر ورؤى واستراتيجيا كونية، ولكنّه أخيرا قرر: ” غاندي ” لا ” غيفارا “!…
لغاندي الروح العظمى أقدّم أرقى التحايا، ولأدونيس المفكر والشاعر أتقدّم بأصدق التهاني والتبريكات، وللأرض الطاعنة في السنّ أهدي عصا تسند ساقيها فالسنوات مضغت شبابها وتكاد تمرّغ شيخوختها ومشيبها في الوحل.
khaledhajbakri@hotmail.com