الأحداث السياسية العاصفة غالبا ما تقود إلى انقسام المجتمعات ــ خصوصا إذا ما كان المجتمع مسيّساً أو مؤدلجاً ــ ما بين مؤيد ورافض او متحفظ.
وعلى مر السنوات الماضية، رأينا أنه كلما حدثت واقعة سياسية في العالم العربي انقسمت حكوماته وشعوبه إلى طرفين متضادين: طرف يحلل وينظر إلى الحدث بواقعية ويبني مواقفه منه بعقلانية وحكمة، وآخر عاطفي تأخذه العاطفة والحماس والانتماء الأيديولوجي بعيدا، فيلجأ إلى التهويل والصياح وتخوين الآخر وترديد الشعارات المدغدغة للمشاعر. حدث ذلك بصور متفاوتة يوم أن غزا العراق الكويت في صيف 1990، وإبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبُعيد التدخل الأمريكي في العراق سنة 2003، ووسط زوبعة الربيع العربي سنة 2011، وخلال أحداث سوريا ولبنان وليبيا واليمن، وأخيرا ما حدث يوم السابع من أكتوبر الجاري، حينما باشرت حركة “حماس” الفلسطينية المنشقة ما أطلقت عليه تسمية “طوفان الأقصى“.
غير أننا هنا لسنا في وارد الحديث عن تلك الانقسامات العربية المعروفة، أو استعراض مواقف أطرافها، وانما الحديث عن المواقف المتباينة لبعض الدول الآسيوية من عملية “حماس” الأخيرة والعمليات الإسرائيلية المضادة في غزة.
فاليابان، التي لا تربطها علاقة بحركة حماس ولا تعترف بها، شدد رئيس حكومتها “فوميو كيشيدا“، من خلال منشور على منصة إكس (تويتر سابقا)، على ضرورة قيام جميع الأطراف المنخرطة في الصراع بضبط النفس، كما دعا حماس إلى إطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم، مبديا في الوقت نفسه تعاطفه مع أهالي غزة وقلقه على خسائرهم الفادحة. ولاحقا أصدرت الخارجية اليابانية بيانا أدانت فيه هجمات حماس ضد إسرائيل، وكذا تسلل مسلحيها إلى الأراضي الإسرائيلية.
وفي سيئول، لم يكن الموقف الكوري الجنوبي مختلفا عن الموقف الياباني.
أما الصين، التي تحاول أن تكون صاحبة كلمة في حل الأزمات الدولية والاقليمية من خلال جهود الوساطة بين الفرقاء على نحو ما فعلت في الخلاف السعودي ــ الإيراني، وفي الملف الروسي ــ الأوكراني، ومن قبل ذلك في سنة 2013 حينما قدمت مقترحا من أربع نقاط لتسوية القضية الفلسطينية، فإن موقفها تلخص في القلق حيال التصعيد وأعمال العنف (دون استخدام مفردتي فلسطين أو إسرائيل كطرفين في النزاع، ودون الإتيان على ذكر فصائل فلسطينية بعينها)، والمطالبة بضبط النفس والهدوء ووقف جميع الأعمال العنيفة، وضرورة ألا تتجمد عملية السلام في المنطقة. وبهذا وازنت بكين بين علاقاتها الوطيدة والمتشعبة مع إسرائيل وحاجتها الاقتصادية للدولة العبرية لتنفيذ مشروع “الحزام والطريق“، وبين علاقاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية التي اعترفت بها الصين عام 1988 كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين الذين بحسبها “تعرضوا لظلم تاريخي من المجتمع الدولي“. غير ان هذا الموقف الصيني ووجه برفض إسرائيلي. إذ صرح نائب رئيس البعثة الإسرائيلية في بكين “يوفال واكس” قائلا: إنَّ فشل الصين في إدانة عنف “الإرهابيين الذين يحتجزون الأطفال” أمر مؤسف من دولة تربطها علاقات ودية بإسرائيل.
وإذا ما أتينا إلى استعراض مواقف دول منظومة “آسيان” الجنوب شرق آسيوية، لوجدناها متباينة بشدة، ويمكن اعتبار ذلك انعكاسا لانقسامات مريرة داخل المنظمة بشأن العديد من القضايا مثل: الموقف من التمدد الصيني في المياه والجزر المتنازع عليها، والموقف من النظام العسكري في بورما، والموقف من التحالف أمنيا وعسكريا مع الولايات المتحدة.
فالفلبين التي لها جالية كبيرة تعيش في إسرائيل تقدر بحوالي مائة ألف نسمة، وتربطها بتل أبيب 14 إتفاقية ثنائية، من بينها اتفاقيات دفاعية لشراء أنظمة مراقبة وصواريخ متطورة وبرامج للتحديث والتدريب العسكري أصدر قصرها الرئاسي بيانا أدانت فيه الهجمات الفلسطينية الأخيرة ضد المدنيين الإسرائيلين، وأعربت من خلاله عن “تعازيها لأولئك الذين فقدوا أفرادا من عائلاتهم وأحبائهم“.
وعلى العكس من الفلبين، أكدت ماليزيا على لسان رئيس وزرائها أنور إبراهيم تضامنها مع الفلسطينيين، دون إشارة إلى عملية حماس الأخيرة. لاحقا أصدرت الخارجية الماليزية بيانا شديد اللهجة ادانت فيه إسرائيل ووصفتها بالمحتل “الذي أخضع الفلسطينيين لإحتلال غير قانوني طويل الأمد وحصار ومعاناة ومصادرة أراض وممتلكات دون هوادة“، مضيفة أنه “نتيجة لهذا الظلم تمت التضحية بمئات الأرواح البريئة، وهو ما يدفع لإلقاء اللوم على إسرائيل“.
ولم يختلف موقف أندونيسيا، كبرى الديمقراطيات الإسلامية، عن موقف ماليزيا. إذ شددت على ضرورة حل جذور الصراع في الشرق الأوسط وفقا للقرارات الدولية كوسيلة لوقف العنف والعنف المضاد في المنطقة.
أما تايلاند وفيتنام فقد اتصف موقفيهما بالحياد، مع التأكيد على ضرورة صون المصالح المشروعة لطرفي النزاع وحماية المدنيين بكل الوسائل.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي