تمحض وثيقة الحزب الشيعي المسلح (المدعو “حزب الله” على الضد من “حزب الشيطان”) الصادرة عن مؤتمره الأخير، وهي قرأها أمينه العام في 30 تشرين الثاني، تمحض لبنان، لبنان الحزب، وعلى ما يراه الحزب، وثيقة ولادة. فلبنان هذا، قبل الوثيقة أو الإعلان، ليس هو نفسه بعدها. وما شُبّه لبناناً لبعض مواطنيه الى اليوم، قد لا يَشْبه لبنان الوثيقة الحزب اللهية والنصر اللهية. فالوطن (اللبناني) الذي ينسب إليه الحزبيون المسلحون انفسهم، ونحن معهم على ما يريدون بإرادة إكراه، ليس وطن مواطنين، بل وطن أقرباء وأهل، “آباء وأجداد (و) أبناء وأحفاد”. فالعلاقة أو الرابطة بهم لا تدين الى التاريخ المشترك، ولا إلى إرادة حياة مشتركة ومتجددة، بشطر كبير منها (من العلاقة)، ولا بشطر ضئيل والحق يقال.
الأرض والموتى
فهذا الوطن المفترض، على معنيي الاحتمال والفرض، ما إن يتحدر من أصلاب الآباء والأجداد، ويتصل الى الأبناء والأحفاد في ذرية واحدة، حتى يُدمغ بخاتم “الشهادة” و “التضحية”. فيتولى كفالته وطناً، أو أرضاً وسرحاً، القتالُ والقتل في سبيل دوام الإقامة به. وتتولى ضمانه على هذه الشاكلة مواراةُ القتلى، “ضحايا” و “شهداء” وأهلاً أحياء، أرضه وثراه ومدافنه وجباناته. وهو، على هذا، وطن على معنى “الأرض والموتى”. وهذا معنى قومي وعصبي، قبلي وحربي، يجمع النسب الى معاش القبيلة من قتالها وثاراتها، على مثال فرزدقي او فردوسي (شاعر “شاهنامه” المعروف). والقول: “نريد (هذا الوطن) لكل اللبنانيين على حد سواء”، يقدم فعل إرادة في الحاضر والآتي على حال حاضرة ترث حالاً ماضية وتُستكمل اليوم وغداً. فهو (القول) يملأ وطن “الأرض والموتى” الذي أثبته لتوه على مقاس الذرية والأهل، بلبنانيين يليقون به، ويخرجون من بين يدي اصحاب الوثيقة مدججين بالسلاح، حقيقة ومجازاً.
والإرادة (في “نريده” الأولى والثانية) ليست من نسيج المداولة وإعمال الرأي، ولا من نسيج دائرتهما العامة والمشتركة. وهي إرادة على المعنى العثماني والسلطاني الشاهنشاهي، وعلى مثال “الإرادات” أو المراسيم الهمايونية و”الخطوط”. وتُحِل الإرادة الحزبية المسلحة أصحابها المؤتمرين إنكار حق لبنانيين آخرين، ينتسبون الى لبنان، في “الانفضاض” ليس عن الوطن اللبناني بل عن شكل سلطاني وهمايوني قد تُلبسه الدولة قسراً وكرهاً. ويعلن الحزبيون “رفضهم” الصيغ الائتلافية (الفيديرالية) رفضاً آمراً هو من معدن الإرادة التي ملأت الوطن بوطنيين مجمعين من غير إرادة، ولا رأي يرونه ويتداولونه ويبلغونه في ختام مداولاتهم على الملأ. وإرادة الوحدة إرادة واحدة. وهي لا ترد على “التقسيم” والائتلاف الفيديرالي باحتجاج أو بتعليل، ولا بمناقشة حوادث سابقة، محلية أو إقليمية أو دولية، وبمقارنتها بعضها ببعض. ويقتصر ردها على “رفض” يصرِّح بالوعيد والتهديد. فإرادة الوحدة هي إرادة ضم واستيلاء عنوة.
والحق ان منطق “المعالجة” هذا يتردد في متناول موضوعات الوثيقة كلها. ففي باب “لبنان والعلاقات العربية” (الخامس)، يكتب الحزبيون المسلحون: “إن لبنان العربي الهوية والانتماء إنما يمارس هويته وانتماءه بوصفهما حالة طبيعية أصيلة في التكوين المجتمعي اللبناني”. وحمل الهوية الوطنية والمدنية السياسية على “طبيعة أصيلة”، وليس على إرادة طوعية وراشدة تجدد هوى يخالط نفس المرء وتستأنف هذا الهوى، هذا الحمل يكرر مقدمة الوطن الأهلي والنسبي البدوي، ويبني عليها من غير زيادة ولا نقصان. ومدُّ الطبع والأصالة الى “التكوين المجتمعي اللبناني” إنما يقصد به التوريط وليس الإحاطة والاشتمال. وهو يقول ان اللبنانيين كلهم إنما هويتهم وانتماؤهم، طبعاً وابتداء وإرادة (من غير مريد يريد) ومصيراً، هم عروبيون. (ويلاحظ القارئ ان صيغة النسبة الى لبنان، في لبناني، لا تضيفها وثيقة الشيعة المسلحين ابداً الى وطن. فلا تكتب مرة واحدة: الوطن اللبناني. ولبناني هي صفة “مجتمع”، أو بالأحرى “تكوين مجتمعي”، نفوراً وتقززاً من الجوار المباشر والملامسة).
عوامل الطبيعة
ويترتب هذا، بديهة، على وطن الآباء والأجداد والضحايا والشهداء والأرض التي تضم أجداثهم، من وجه أول قاسر ولا خيرة فيه. ويترتب، من وجه آخر، ليس أضعف وطأة وقسراً من الأول، على “محددات استراتيجية لموقع لبنان السياسي ومصالحه الكبرى (تحتم) عليه التزام القضايا العربية العادلة…” (الهلالان للتوكيد من الكاتب). فاللبنانيون ليسوا مخيرين، لا إرادة ولا رأياً ولا هوى، في “التزاماتهم” وسياساتهم، ولا في ثقافتهم أو أخلاقهم، على ما يراها الحزبيون المسلحون. فهذه كلها يستولدها هؤلاء (من) عوامل وأسباب تعمل في “المجتمعات” والأوطان والجماعات و “الدول” القومية عمل الطبيعة في الجماد والنبات والحيوان. والبرهان الأقوى على صفة العوامل والدواعي الطبيعية هو، بالمقارنة والتعارض، تشخيص الخلافات الواقعة والمحتملة. فالفروق بين الطوائف والمذاهب والشعوب (الأقوام) والبلدان “مفتعلة” و “مختلقة”. وهي “حصيلة تقاطع لسياسات غربية متعمدة، وأميركية تحديداً”، أولاً. وهي، ثانياً، “(حصيلة) ممارسات وتصورات داخلية عصبوية لا مسؤولة، بالإضافة الى بيئة سياسية غير مستقرة”.
والزيادة، أي ثانياً، غريبة، وتنازل يبعث على الدهشة. ويبدد الغرابة والدهشة “فهم” المراد بـ “العصبوية”. ويراد بها المسلمون السنّة، حكاماً وجماعات ومجتمعات. ويقصد بـ “البيئة السياسية غير المستقرة”، على الأرجح، العراق واليمن وباكستان وأفغانستان وبعض الخليج. وهي بيئات “القاعدة” وجماعات الإرهاب التي تنتسب إليها، وتقاتل الأميركيين، وتقتل الشيعة أو تقاتلهم، معاً. وهذا تعليل الجماعات الخمينية والحرسية للإرهاب، والوثيقة الجامعة والتأسيسية تغفل المسألة بقضها وقضيضها. وهو تعليل مقتصد في الفهم والإدانة، ويكاد يكون تربوياً، أو تعليمياً. فينفي التعمد عن الإرهاب، وهو أثبته للسياسات الغربية. ويقصره على “إساءة توظيف (التنوع الديني والقومي)”، وعلى “تصورات وممارسات لا مسؤولة”. وليس هذا كله سياسة، والأحرى “سياسات”. والجمع كناية مشددة عن دوام التخطيط، والمثابرة والإمعان. ولولا “تقاطع” القصور والإساءة والطبع العصبوي “مع” السياسات الشيطانية، لما اضطرت الوثيقة الى الإلماح الى المسألة من طرف خفي، على ما تفعل.
شيطان الاختلاف
فلا طبع ولا طبيعة ولا أصالة في الاختلاف والكثرة (التعدد) والتنازع، في إطار لبنان والعلاقات العربية والعلاقات الإسلامية. فالاختلاف والكثرة والتنازع هي ولائد الافتعال والاختلاق والسياسات المتعمدة، الغربية عموماً والأميركية خصوصاً وتحديداً. ويقضي أو يفتي الحزبيون المسلحون، وفتواهم قضاء، برواية تاريخ لبنان، أو الوطن، في ضوء هذا الرسم، المعرفي لولا التعفف والاستحياء. فأي تاريخ للبنان الأهلي والنسبي هذا، لبنان الأرض والموتى الذين لا يموتون؟ يشترط محازبو الوثيقة المسلحون على “قيام وطن من هذا النوع واستمراره”، على ما يكتبون حرفياً (وهم يعنون ان لبنان لم يقم بعد وطناً، ولا يضمن استمراره، إذا قام وبعد قيامه، إلا استجابته شروطهم وإرادتهم)، “الدولة العادلة والقادرة والقوية والنظام السياسي (الذي) يمثل بحق إرادة الشعب وتطلعاته الى العدالة والحرية والأمن والاستقرار والرفاه والكرامة”. فينهض او يستوي لبنان وطناً بعد قيام دولة من هذا النوع المتواضع والمقتصر على ضرورات دنيا هي في متناول من شاء، وتنعم بها الرعيتان السورية والإيرانية، على ما يعرف القاصي والداني. وهذا فتح في بابه. فالدولة الكاملة، أو “الإلهية” في رطانة اصحابنا، هي السباقة الى الوجود، والوطن من صنعها. وكمالها هو شرط وجود الوطن، على خلاف قول خطيب الوثيقة ومدبجها في “المقاومة”، في محاورته للصحافيين بعد القراءة. فهو قال في حزبه المسلح، متفقهاً ومؤصّلاً من غير ريب: “الإجماع على المقاومة يعتبر من شروط الكمال وليس من شروط الوجود”. وأما الوطن اللبناني (معاذ الله!) فشرط وجوده، الناقص، دولة كاملة يشمر الحزب المسلح لصناعتها أو هو صنعها ويدعو “كل اللبنانيين” الى ملئها.
ويروي الخطيب بعض مراحل الصنع التي سبقت. ومدارها على إسرائيل وقتالها. والوثيقة المسلحة إذا ذهبت الى ان لبنان “كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ”، فهي تبتدئ تاريخه من 1948، من “مجزرة حولا”. فقبل قيام الدولة العبرية في العام الكئيب، وارتكابها المجزرة المروعة، ليس ثمة ما يستحق الوقوف والاستوقاف، ولا البكاء والاستبكاء من غير شك. والمنعطفات التالية هي من الطينة نفسها: العدوان على مطار بيروت الدولي في 1968، غداة عشرين سنة على نكبة “أهالي” حولا، واجتياح 1978، غداة عقد كامل على الدمار الفظيع الذي حل بساحة المطار الدولي.
الوطنية المدنية اللبنانية
وهذه 30 سنة من 35 هي عمر استقلال الدولة اللبنانية، وخروج لبنان من الانتداب، وصناعة اللبنانيين الشطر الكبير والغالب من اجتماعهم وروابطهم وثقافتهم وسياستهم. وفي الأثناء تواضعوا، على مقادير متفاوتة بتفاوت الجماعات وربما الأفراد، على تقييد الدولة بالمجتمع والجماعات (وليس بالأفراد والمواطنين بعد)، والسلطان الساحق بالمصالح الصغيرة والكبيرة والحقوق والمنازعات والخلافات المعلنة. وفي الأثناء، وقبلها وبعدها من غير شك، هاجروا الى الخارج وإلى المدن، وخلفوا وراءهم الآباء والأجداد وجباناتهم وبعض سننهم وآدابهم. واستقبلوا، لهم ولأولاهم وأحفادهم، آتياً لا يرهق الأحياء بالأموات وأثقالهم. ونشدوا، في الخارج والداخل، الى سد حاجاتهم، الانفضاض عن الجماعات المتكأكئة والخانقة، واختبار أنفسهم وامتحانها، وتكثير فرصهم ومثالاتهم ورواياتهم ومسارحهم من غير خشية رقابة صارمة، ناهية وآمرة. فتفرقوا اصحاب سعي وهمة. والتمسوا إلى بغياتهم وغاياتهم طرقاً شتى ومتفرقة. وحملوا على مناكبهم أولادهم وأحفادهم. وقارعوا (جماعات) بعضهم بعضاً من طريق ممثليهم المنتخبين وأعيانهم ومتعلميهم وإدارييهم ونخبهم وروابطهم وصحافتهم، أنداداً (الى حد بعيد) وجيراناً مختلفين. وكان يفترض ان تجمعهم وطنية مدنية تستقي آصرتها ورابطتها من الأحكام التي تضبط علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض، وتوليهم أمور اجتماعهم ومنازعتهم. وهم أخفقوا في هذا. فكان ما صنعوه بأنفسهم وأحوالهم واجتماعهم وهيئاتهم ومؤسساتهم ومنازعاتهم وأحلافهم ثمرة أيديهم، على قدر ما طالت أيديهم وما انتهى إليها من حول وطول. وهذا مدخل إلى السياسة المدنية والوطنية والزمنية الراشدة على خلاف السياسة الجبرية والقاصرة والمتنصلة من تبعات الفعل السياسي.
“سفينة النجاة”
وهذا كله، وهو يطيق الإحصاء والعدد ويعرفه من يهمه الأمر، تبدده الوثيقة المزعومة (فالوثيقة من الثقة والتعاهد) في حوادث بالغة الدلالة والجرح، ولكنها لا تستوي على السوية المهينة والمذلة التي يريده لها الحزبيون المسلحون إلا إذا سُلكت وقائعها في خيط وسبحة مختارين. وهذا ما يريده اصحاب الخطبة المتعصبة والمتشيعة (على معنى الانحياز والتزمت). فهم يروون جزءاً ضئيلاً وفقيراً، وخارج أي سياق، من تاريخ غني يعج بحوادث وإنجازات كثيرة ومتفاوتة ومتناقضة، لا تختصر في وقائع أشبه بالفزاعات والخيالات المنصوبة على أطراف “صحاري” المقثة والخيار. فهمُّ القيادة الحرسية والنجادية الخامنئية في لبنان ليس فهم التاريخ اللبناني، أو تاريخ اللبنانيين في ضوء الحاجة الى تجديد وطنهم ومجتمعهم ودولتهم. وقصاراها ان تسوغ الدور الذي تزعمه لنفسها، ولأوليائها، وتعظيمه تعظيماً لا يخشى الإفراط والغلو. وهذان على شاكلة إفراط وغلو غلبا على “سفن النجاة” الحسينية الإيرانية، وعلى الشعائر الحسينية الإيرانية والعراقية، وانتقدهما محسن الأمين، اللبناني، في “سفينة نجاتـ”ه، وفي فتواه في تحريم الضرب بالسلاسل ولطم الصدور بالقبضات وتشطيب الرؤوس بالأمواس حداداً على صريع الطف.
ويحرص اصحاب البيان الحرسي “الملبنن”، على قولٍ صحافي يائس ومتخبط، على تحميل التبعة عن الحوادث المنتقاة والمنتزعة من سياقاتها، والمجردة من ملابساتها، (إلى) الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والمؤسسات الدولية والصمت العربي “الرسمي والمريب” (على سبيل التجديد الإنشائي الرتيب) و “السلطة اللبنانية (الغائبة) التي تركت أرضها وشعبها نهباً للمجازر والاحتلال الإسرائيلي من دون ان تتحمل مسؤولياتها وواجباتها الوطنية الكبرى”. فهؤلاء كلهم، من غير تمييز ولا ترتيب، صف متماسك واحد، على شاكلتهم اليوم في التصدي لطبقة متسلطة ومنقسمة ومتعسكرة من الحكام الإيرانيين المغامرين. وصفُّهم في صف واحد و “متراصف”، على الصورة الكاريكاتورية الشيطانية هذه، إنما يمهد لظهور الشاطر البطل، وسيفه البتار والمنتقم.
فمن الأنقاض والأطلال الكونية التي خلفها “حزب الشيطان” الأميركي الدولي العربي اللبناني، ومن غير مقدمة غير مقدمة “الواجب الوطني والأخلاقي والديني”، خرج مارد “المقاومة الشعبية المسلحة”. فلا ثورة إيرانية شعبية وجماهيرية على حكم الشاه الامبراطوري (والبيان “يعفي” الشاه من الظلم و “الظالمية” في الأمة وإذلالها ليقصره على “مشاريع صهيونية أميركية” ويرتد على ركن الثورة الإيرانية الفاطمي الزاهر)، ولا وشك حرب أهلية في إيران الخمينية، ولا حرب عراقية جر إليها ضعفُ إيران وعزلتها وتصديرها ثورتها “المغدورة”، على قول “المتغطرس” أبو الحسن بني صدر، وقتلت نحو 600 ألف ايراني وعراقي يُسدل النسيان على دمائهم و “حقوق” هذه الدماء، ولا انهيار فلسطيني في دوامة النزاعات العربية التي تصدرت السياسة السورية الأسدية النفخ فيها ومعالجتها بواسطة الزمر والشلل المحترفة… والوقائع “الترابية” و “الطينية” المنكرة والمنسية استتبعت أدواراً بوليسية وأمنية، ظاهرة وخفية، واغتيالات، وأموالاً عظيمة اشترت الذمم والحماسة والدماء والتهجير والاستخبار والتفجير والولاء وتنقيله، وغيرها كثير.
فلا يعرف ولا يفهم لماذا انتهت جماعة “الواجب الوطني والأخلاقي والديني” الأولى، وهي “آباء وأجداد” “المقاومة الجهادية”، “الإسلامية” و “أولادها وأحفادها” على رغم قرب الشقة الزمنية، الى عصبية مسلحة ومتسلطة، وخارجة على التراث والتاريخ الوطنيين واللبنانيين المشتركين. ولا يعرف ولا يفهم كيف اضطلعت الجماعة “الوطنية والأخلاقية والدينية” هذه بحمل اللبنانيين على الارتداد الى حظيرة عروبة وبداوة سياسيتين أهليتين وعسكريتين أمنيتين نشأ لبنان التاريخي، وليس الأسطوري (“الفينيقي” و “الماروني” و “الإسلامي المسيحي”) عن نقضهما فعلياً وعملياً. فقيد الدولة والسلطة بالمجتمع، على خلاف التراث العروبي الأهلي والسلطاني الذي أعملته جماعات ضيقة، بيروقراطية ومذهبية، في إرساء سلطانها على خواء اجتماعي وسياسي واجتماعي مزمن.
إرادة القوة والعبودية
وهذه العصبية تأتم اليوم بسياسة ساسة سوريا و “تسجيلهم”، على قول البيان، “موقفاً مميزاً وصامداً في الصراع مع العدو الإسرائيلي…”. وعليه، يدعو أمراء الجيش الحرسي المسلح الى إحياء “العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا بوصفها حاجة سياسية وأمنية واقتصادية مشتركة”. وموجبات إحياء “العلاقات” هذه وهي صنعت انتخابات التعيين، وكبكبت الشيعة اللبنانيين على “حارتهم”، وقوضت أركان العلاقة السياسية الاجتماعية التي نهضت عليها أطوار الدولة اللبنانية، وسلطت “بيروقراطية بوليسية مركزية” على الجماعات والإدارة، وتوجت هذا وغيره برؤساء ميمونين وبالولوغ في الأموال والدماء والحقوق موجبات الإحياء هي دور الساسة وموظفيهم الأمنيين في صناعة الحزب الخميني والحرسي المسلح.
فـ “المقاومة الجهادية”، ونشأتها وحمايتها ودوامها، ثمنها وشرطها “عودة” النظام الأسدي، وتجديد استيلائه على الدولة والمجتمع اللبنانيين. والثمن والشرط الآخران، وهما أولان فعلاً، هما مقابلة ايران و “عقيدتها السياسية” وبنائها “مداها الحيوي” (العبارة النازية بالحرف) على “مركزية القضية الفلسطينية”، “بإرادة التعاون والأخوة والتعامل معها كقاعدة استنهاض ومركز ثقل استراتيجي…”. والجمل وأجزاء الجمل الرتيبة هذه معناها الجلي هو التبعية أو، بكلمة أدق، الاستتباع في إطار صوري “وطني” يحفظ ما لا يضر من وحدة الجماعات، وتدبيرها الداخلي، ولا يفرط عصبياتها. وخلاف الإيرانيين على الدولة الحرسية وسياستها، وإنكار الملايين منهم تسلطها وجورها، لا يحركان إلا الازدراء في أعوانها.
وفي ضوء فداحة اللغو الباسدراني هذا، وتزويره ما يتناوله من وقائع ومسائل وقضايا، يتساءل قارئه عما يتماسك به، وتماسك به من قبل حقيقة وفعلاً، وقد يتماسك به في قابل الأيام القريب ربما. فهذه المقالة التي تنفي من الوقائع التاريخية، اللبنانية والعربية والإسلامية والدولية، معظمها وأقواها دلالة على مخاضاتها ومعانيها وحقيقتها الإنسانية والأرضية، ولا تستبقي منها إلا ما تسند إليه استيلاء عصبية عسكرية ضيقة وخبطها، هذه المقالة تجلو عدداً من أهل الأنساب “الجهاديين”، أولاداً وأحفاداً عن آباء وأجداد، جماعة قوية ومقتدرة ومرهوبة الجانب. وقد لا يرى بعض الناس، في ظروف معينة، غضاضة في شراء استوائهم على هيئة الجماعة القوية هذه لقاء ارتضائهم التبدد والذوبان في كتلة محاربة ومرصوصة. فالحريات والحقوق والإرادات، على خلاف ما يصور الخطيب المتخفي والمحتجب، يسدد ثمنها الأحرار والمريدون وناشدو العدالة والحقوق قلقاً وانقساماً ومداولة. وهذه لا تطيقها البداوة السياسية.