إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
ترجمة “الشفاف”
في حين يطرح الغربيون أسئلة حول استيلاء الإسلاميين على دمشق، فإن تعاملَ العرب السُنّة مع القاعدة العلوية الأوسع سيعطي فكرة حول موقف الحكومة الناشئة من التسامح الديني، والعدالة الانتقالية، وبناء الدولة.
لمدة تزيد عن نصف قرن، كان مصير العلويين في سوريا مرتبطًا بأبناء طائفتهم ورُعاتهم من عائلة الأسد. وفي العام 2011، سمحَ تضامُنهم مع نظام بشار الأسد بصد التمرد والحفاظ على حكمه المتداعي حتى تدخلت روسيا في 2015.
ولكن، بحلول نوفمبر 2024، كانت الجماعة العلوية قد استنزفت تمامًا بعد ثلاثة عشر عامًا من الصراع، حيث سقط ثلث رجالها بين سن العشرين وسن الخمسين في المعارك.
كانت النتائج حتمية: عندما قادت “هيئة تحرير الشام” (HTS) فصائل متمردة أخرى في هجومها الشامل قبل أسابيع، لم تقاوم الركيزة العلوية في الجيش. فمدينة حمص، التي يُعتبر نصفها علويًا، قاومت لبضعة أيام فقط. ثم استولت “هيئة تحرير الشام” على المنطقة الساحلية، وهي معقل الجماعة العلوية، التي لم تقدم أي مقاومة رغم التوقعات بأنها سوف تشكل ملاذًا دفاعيًا لحماية العلويين الفارّين من انتقام السلطات الإسلامية الجديدة في سوريا.
من مظلومين إلى ظالمين—ثم مظلومين مجداً؟
غالبًا ما يتم تصنيف العلوية كنسخة غير تقليدية من الإسلام الشيعي، مع إيمان أساسي بالتقمّص (انتقال الأرواح) الذي ترفضه السلطات المسلمة التقليدية في طائفة الشيعة الإثني عشرية والمجتمعات السُنية. إن جزءاً كبيراً من العقيدة العلوية هو خليط مستوحى من الأديان التوحيدية الكبرى (بما في ذلك الإسلام) والزرادشتية، والكثير من طقوسها كانت سرية وتقتصر على حفنة من المُطّلعين، ما جعلها موضوعًا للاشتباه الشديد على مر العصور. حتى أن الفقيه المسلم الشهير “ابن تيمية” دعا إلى القضاء على الطائفة.
لم يتم الاعتراف بالعلويين رسميًا كمسلمين حتى عام 1932، عندما أصدر مفتي فلسطين الكبير، الحاج أمين الحسيني، فتوى تهدف إلى تقويض أسس الاستعمار الفرنسي في سوريا. كانت فرنسا قد أنشأت دولة علوية على الساحل في عام 1920، على غرار النموذج اللبناني، وكانت تهدف إلى أن تكون ملاذًا من الاضطهاد السُنّي المفترض. وقدّمت فتوى الحسيني للعلويين معاملة متساوية في سوريا المستقلة التي يهيمن عليها السُنة. ومع ذلك، فشلت هذه الفتوى في إقناع العديد من السُنّة بأن العلويين ليسوا “زنادقة”.
تحسّنت الظروف الاجتماعية للعلويين فقط مع صعود حزب البعث في عام 1963—وخاصة بعد أن تولى حافظ الأسد السلطة في عام 1970 وعيّنهم في المناصب الرئيسية في الجيش، وأجهزة الاستخبارات، ووزارات الدولة. ومن خلال القضاء على الزعماء القبَليين الذين تمردوا ضد سلطته، جعل الأسد الجماعة العلوية كتلة واحدة فعليًا. استُخدِمَ العلويين لتنفيذ حملات القمع التي شنها النظام، بما في ذلك مجزرة حماة عام 1982 التي استهدفت انتفاضة قادتها جماعة الإخوان المسلمين، ما أسفر عن مقتل 30,000 شخصا. استمر بشار، ابن حافظ، في هذه الاستراتيجية لسنوات، ثم جعل العلويين ركيزة سياسته لمكافحة التمرد بعد عام 2011. رداً على هذا التاريخ الطويل من الانتهاكات، من المفترض أن العديد من عناصر القيادة السنية الجديدة في دمشق، واتباعهم، يحملون إرثًا من العداء الديني والاجتماعي تجاه العلويين بشكل عام. وقد تواجه الطائفة خطر العقاب الجماعي، بما فيها أولئك الذين عارضوا الأسد بدلاً من مساندته.
اتبع زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني (المعروف أيضاً بأحمد الشرع)، استراتيجية مشابهة منذ فترة إشرافه على معقل الجماعة في محافظة إدلب— ولكن لفائدة السُنّة المتعاطفين مع جماعته بدلاً من العلويين. وتحت ذريعة “إزالة البعث” داخل الجيش والحكومة، من المؤكد أنه سيشرع في عملية “إزالة العلويين”. وهذا يعني أن المنطقة الساحلية العلوية ستضطر لإعادة اكتشاف دورها كمأوى. والأرجح أن يشعر العديد من العلويين الذين يعيشون في دمشق وحمص والمناطق الداخلية المحيطة أنهم مضطرون للعودة إلى منازلهم هناك ـ المنازل التي كانوا بنوها ليس فقط كأماكن لقضاء العطلات، ولكن كضمان للمستقبل. وإذا ما بقوا في أجزاء أخرى من سوريا، فقد تصبح حياتهم صعبة وحتى خطرة في ظل عودة السُنّة النازحين الذين قد يحمل بعضهم نوايا انتقامية.
والواقع أن المناطق المختلطة بين حمص وحماة شهدت العديد من أبشع المجازر التي ارتكبها النظام خلال الحرب، حيث تسببت القوات الموالية للطائفة العلوية في تهجير كبير للسُّنة نحو إدلب ولبنان وتركيا. وقام مقاتلو المليشيات العلوية بنهب المنازل على طول الطريق؛ ففي طرطوس، نشأ سوق لبيع المسروقات أُطلق عليه اسم “سوق السُّنة”. تم إخلاء وتدمير مناطق سُنيّة بالكامل، مثل بابا عمرو في حمص، والقصير، وقلعة الحصن على سفوح قلعة الفرسان الشهيرة. بالطبع، عانت المناطق العلوية من مصير مشابه على يد الإسلاميين السُّنة في أماكن مثل العريمة (اللاذقية) في أغسطس 2013، والزهراء (حمص) في مايو 2016. في الحالتين، كانت سلف هيئة تحرير الشام، أي “جبهة النصرة”، متورطة في مذبحة المدنيين العلويين.
الآثار السياسية
عند تقييم ما قد يحدث في المستقبل، سيحتاج المسؤولون الأجانب إلى ملاحظة أن العقائد العلوية تختلف بشكل حاد عن العقيدة السلفية التي يتبناها السلطات الجديدة في سوريا. وفي العديد من النواحي العملية، يختلف أسلوب حياة العلويين عن أسلوب الحياة الذي قد تحاول جماعة “هيئة تحرير الشام” وبقية العناصر السنية السياسية الإسلامية فرضه الآن—وهذا التباين لا يظهر فقط في “إدلب”، ولكن في جميع المناطق السنية المحافظة التي كانت تشكل جزءًا كبيرًا من البلاد قبل الحرب. في الماضي، كانت قوة الدولة تجعل الحياة ممكنة للأقليات في هذه المناطق. فهل ستكون الحكومة القادمة مستعدة لضمان وجود العلويين في سوريا بأمان؟ وهل ستكون قوية بما يكفي لدعم ضمانتها؟
وإلا،، قد تشكل السياسات الحكومية الجديدة تهديدًا لأسلوب حياة العلويين. على سبيل المثال، هل سيصبح الحجاب إلزامياً في مجتمعات مثل “طرطوس” و”اللاذقية”؟ هل سيتم حظر استهلاك وإنتاج الكحول؟ ماذا سيحدث للأضرحة العلوية المنتشرة في الريف والتي تعتبر أماكن للعبادة الشعبية؟ والواقع أن تدمير ضريح علوي في حلب في 25 ديسمبر دفع الآلاف من العلويين إلى النزول إلى شوارع حمص واللاذقية وجبلة وطرطوس. وأخيرًا، هل ستطلق وزارة الدين الجديدة خطةً لبناء مساجد في المجتمعات العلوية ولـ”توجيههم إلى الطريق الصحيح”؟ ومن الجدير بالذكر أن العثمانيين حاولوا ذلك في القرن التاسع عشر بعد أن حولت البعثات البروتستانتية الأمريكية العلويين بسرعة إلى المسيحية، وذلك نتيجة فقر العلويين وثراء البروتستانت. وقد أغلقت السلطات العثمانية المدارس والكنائس الإنجيلية وطردت المبشّرين، وأجبرت معظم العلويين على العودة إلى دينهم القديم. إلا أن محاولات توجيههم نحو المذهب السُنّي باءت بالفشل.
حتى الآن، أكدت “هيئة تحرير الشام” باستمرار أن العلويين سيكونون جزءًا من سوريا الجديدة، وأنه لن تكون هناك أي انتقامات ضدهم، وأن من شاركوا في جرائم نظام الأسد سيخضعون للمساءلة عبر النظام القضائي، وليس عبر الانتقام الشخصي. كما عقد مسؤولو “هيئة تحرير الشام” اجتماعات مع ممثلين محليين عن العلويين. وقد صرح الجولاني نفسه مرارًا أن “هيئة تحرير الشام” لن تفرض قيودًا على الأقليات بإسم الشريعة الإسلامية. وفي هذه الأثناء، أنشأت السلطات الجديدة مراكز للمصالحة حيث يمكن لأفراد القوات المسلحة التابعة للنظام السابق تسجيل أنفسهم وتسليم أسلحتهم—وهي خطوة أساسية في أي عملية عفو. ويؤمل أن لا يكون ذلك تمهيدًا للاعتقال الجماعي أو القضاء عليهم بشكل سري بعد نزع سلاحهم.
ترتبط هذه الجهود المصالحية أيضًا بالسؤال الأوسع حول العدالة الانتقالية للعلويين وغيرهم من خدام نظام الأسد الذين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان ضد السُنّة كجزء من ما سمته الحكومة بـ”مكافحة التمرد”. إن العلويين، الذين وصفهم الجغرافي الفرنسي “جاك ويليرس” في عام 1940 بـ “المنسيين من التاريخ”، يجدون أنفسهم الآن في قلب أحد أكثر الفصول دموية في تاريخ سوريا. وبالنتيجة، وكما ذكرنا سابقًا، فقد يتعرضون لعقوبات جماعية يمكن أن تصل إلى حد التطهير العرقي.
وحتى فكرة انسحاب العلويين من أجزاء أخرى من سوريا بالكامل وإقامة منطقة آمنة ثابتة على الساحل قد لا تكون قابلة للتنفيذ. فقد تم النظر في هذه الفكرة في نقاط مختلفة في الماضي ولكن لم يتم تحقيقها بسبب عوامل داخلية وخارجية مختلفة. والأهم من ذلك، أن سادة دمشق الجدد لن يتخلوا عن المنطقة الوحيدة المطلة على البحر من أجل هذا الغرض.
في وقت يشكك فيه الغربيون في نتائج سيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق، سيوفر تعامل الجماعة مع العلويين معلومات ملموسة بشأن موقفها الحقيقي من التسامح الديني، والعدالة الانتقالية، وبناء الدولة. ويجب أن تكون المساعدات الإنسانية والعلاقات الدبلوماسية مع الحكومة القادمة مشروطة بحقوق متساوية للأقليات. وإلا، فقد تصبح سوريا مرة أخرى نقطة ساخنة لحمام دم طائفي لا نهاية له.
فابريس بالانش هو زميل مساعد في معهد واشنطن للسياسات ومساعد أستاذ ومدير بحث في جامعة ليون 2.